حوارات

التشكيلي مفتاح الشريف للطيوب: لم أتوقف عن الرسم منذ تاريخ الفاجعة

الفنان التشكيلي “مفتاخ الشريف” في حوار مع الطيوب الثقافي

الحكاية هذه المرة قد تلاعبت بنا جميعا فككت خيوط لعبتها، وأرخت الستار وأرَّخت لدويِّ الحقيقة خلسة في جنح الظلام حين كان سكّان المدينة الوادعة -درنة- يهجعون إلى أسرَّتهم الناعسة وبعضهم الآخر يتجاذب أحاديث السمر مع هدأة الليل الخريفي فإذ بالمارد يستيقظ بَغتة وينقض على كل شيء ممكن تطاله خضامه ليُطمس ضوء القمرمعلنا بتبجّح عن وقوع الجميع لقمة سائغة بين مخالب الماء بهذه العبارة الصادمة نحت الشاعر الليبي “عبد السلام العجيلي” المرارة في حنجرة اللغة.

فبعدما جرَّفت الأمواج ألوان المكان تجسّدت تمثلاتها عند أعمال الفنان التشكيلي “مفتاح الشريف”، فلا مناص من رؤية صِدام الماء بالحجر، وتأكيد الغرق لفكرته المرعبة. الأمر تخطى تلكم الضحكات المُتندِّرة على تدفق السيول من مجرى الوادي إلى حدود قصوى تمزقت فيها جيوب الذاكرة.

الفنان مفتاح الشريف غمّس بفرشاته انعكاسا شفيفا يغمره الفزع لأشباح أولئك اللذين كانوا ذات نهار يستقبلون الأيام بأبجدية الزهور فلم يبق منهم سوى الصور التي أنقذتها الرياح بأعجوبة، وباللونين الأبيض والأسود تنبأت لوحات مفتاح الشريف بما وقع على رؤوس الأشهاد فصيَّرت من لوحاته الأخيرة إسفينا يشطر الحواجز نصفين ليسمع المتلقي تضارب الأصوات المُستغِيثة – النجدة، النجدة، النجدة- صوت واحد عملاق حقق شرط انتصاره فقط تلك الليلة حيث كشِّر الماء عن أنيابه بعينين أعماهما الظلام يمحو الكل أمام طريقه. إن ملمح الفاجعة آنذاك يكاد ينطق عبر لوحات مفتاح الشريف تاركا وراءه اللا شيء يصرخ ببُحّة الصدى الثقيل فمَن نجا تُحزنه نجاته أو نجا من مات ومات من نجا وفق توصيف الفنان مفتاح الشريف !

الملاحظ بأن طوفان درنة انعكس على أعمالك الأخيرة كيف طوّعت فرشاتك لمحاكاة هذه الفاجعة؟
دائما كنت مهتما جدا بالنظر في وجوه الماره وخصوصا الأشخاص الذين قهرتهم الحياة ، وفي مرسمي تبدأ عملية تذكر تلك الوجوه المرهقة الكادحة محاولا رسمها وإظهارها تجريديا على كانفاس أو ورق لأشعر معهم بمعاناتهم، ولكي أوصل صوتهم من خلال رسمي ، لكل من يحب فعل الخير والمساعدة من أجل رسم إبتسامة علي ملامح عانت الأمرين ، فمابالك أن الحدث وصل لمدينتي لطفولتي لذكرياتي ولحياتي السابقة التي لن تعود كما هي ، لقد كان الطوفان بمثابة فقدان ذاكرة المكان والتأقلم مع عالم جديد لايشبه ماضينا العريق ولا مستقبلنا المجهول، لم تتوقف فرشاتي عن الرسم و منذ يوم 11/9/2023 زاد إصرارها علي التعبير أكثر بحجم الألم والمصاب وفقد الأحبه ، فدرنة لم تكن مدينة فقط ، بل كانت منارة علم ومجتمع ثقافي كبير.ودار لكل أنواع الفنون، الوادي والشلال وبحر درنة مصدر إلهام وتناغم لكل الشعراء والفنانين اللذين يقطنونها نحن فقدنا رائحة الياسمين والمعالم والآثار وفقدنا عروسا لم تتزوج كل هذه أسبابا جعلت من الفرشاة آلة لاتتوقف ليل نهار عن النطق بكل ماتشعر به فوق مساحة بيضاء تتحدث عن مدينة اسمها درنة.

اللوحات أخذت لونا واحدا غلب عليه السواد ألم تخشى من الطرح المباشر لمنجزك؟
الأسود والأبيض ألوان أحادية تمتزجان بقوة تعريف المكان ولهما استخدامات عديدة في الديكور من حيث التناغم والانسجام، وفي حالة ربطهما بعمل فني تشكيلي معلق على حائط يكمل باقي الفكرة والتصميم من خلاله أما بالنسبة لي وحتى قبل الطوفان كنت أرسم مدينتي درنة قديما بهذين اللونين حسب تاريخ الصورة الغير ملون وقتها ، أما بعد الطوفان كان لزاما علي أن أظهر حجم الكارثة وماشاهدته بعيني من تغير في المكان وتغير في الملامح باللونين الأسود والأبيض ليكون انفعال الحزن متناغم مع حجم الكارثة، وليشعر المتلقي بصعوبة المشهد وهول الحدث وتدفق المياة بكميات كبيرة وعلي ارتفاعات شاهقة.

يظهر في لوحاتك بتجلٍ صُراخ اللونين الأبيض والأسود ؟
دائما وكما هو متعارف عليه أن الفن رسالة ومواساة للذين كسرتهم الحياة ورسالة أيضا من خلالها يتم تدارك الموقف وسرعة الإستجابة وتلافي مايمكن إصلاحه بسرعة، حتى لاتزيد الجراح أكثر مما هي متفاقمة، اللونين الأسود والأبيض يزيدان من توسع الرؤية واكتشاف المكان بدون الألوان الأخرى وبعيدا عن الضوء. الساعة الثالثة صباحا كانت أكبر حدث علي بزوغ هذين اللونان حلكة الليل المظلمة وانتظار صباح مختلف عن كل الصباحات السابقة، لعل ماجعلني أضع الأسود والأبيض بكثافة صرخات الليل وهي تطلب النجاة تتعالى بصوت مرتفع ثم تختفي فجأة تحت الماء، فلم أخشى من الطرح المباشر لأن هذه حقيقة ماجرى في درنة بالفعل ودون تزييف للواقع.

ما هي أهم الملامح التي تركتها تجربة ما وقع في درنة داخلك كفنان؟
إيماننا الكبير بالله سبحانه وتعالى أن الأقدار مكتوبة ولامفر منها لكن الحزن الكبير انفعال داخلي لايمكن السيطرة عليه والتحكم به خصوصا أنه يتردد دائما وفي كل لحظة عند تذكر أي مواقف سعيدة كانت أم حزينة في مدينة الياسمين المفقودة ، ففي درنة نعرف بعضنا كلنا بحكم الترابط الأسري الكبير، وصغر مساحة المدينة والتعداد السكاني الذي لايتجاوز الـ120 ألف في حقيقة الأمر لقد كانت تجربة صعبة جدا ولم تؤثر في وحدي بل أثرت في كل من بقي علي قيد الحياة في درنة نجا من مات ومات من نجا.

رحلة اللونين تُحيلنا إلى حجم قسوة التجربة كيف التقطت بذورها المُتيبّسة ؟
هذا الحدث سيذكر جيل بعد جيل وسيكون حديث سكانها المؤثر في كل من شاهد ساعة الاحتضار الجماعية حجم التأثير يقاس بما أعبر به فكلما أحاول عدم تذكر المشهد ، يستوقفني موقف قديم نشأ في درنة أجد نفسي من جديد والفرشاة في يدي معلنة خضوعها المطلق واستسلامها الأبدي، فتبدأ رحلة اللونين الأسود والأبيض في نبش ذاكرة المشهد من جديد والفرشاة تجوب المكان يمينا ويسارا وفي كل الاتجاهات معلنة عن رموز أخرى مجردة تنطق خطوطا وأشكالا ترمز لدرنة، ولجمالها الذي رحل في ليلة واحدة إلى عمق البحر لقد كانت بقية الأبنية المتهالكة وأسلاك معدن الخرسانة الصدئة أكبر دليل على أن ماحدث لايمكن وصفه في سطور أو اختصاره في لوحة تشكيلية واحدة معلقة على جدار الصمت وإلى الأبد.

مقالات ذات علاقة

في حوار مع الشاعر ‘‘صالح قادربوه’’: النقد في ليبيا وجوده غير فاعل. وليس لدينا صحافة ثقافية جادة ولا محافل نقدية

المشرف العام

شعراء “مازارا دل فاللو” يحتفون بالشاعر علي صدقي عبد القادر

أحمد الغماري

سفيان قصيبات: إننا ضحية منظومة فجة، غاب عنها الاستقرار والمعرفة وروح النقد والابتكار

رامز رمضان النويصري

اترك تعليق