الزمن يجري بسرعة وبعض أحداث السنوات التي مضت ما تزال عالقة في الذهن وكأنها حدثت اليوم. بل أحيانا يغوص الإنسان في غفلة من الصحو كأنه يسافر عبر الزمن إلى الماضي بكل تفاصيله وكل مشاعره. ابتسم أحمد وهو يتذكر والده وحكاياته الطريفة خاصة طقوسه في شهر رمضان حيث كان يجمعهم قبيل المغرب ليقرأ عليهم مختارات من كتاب ألف ليلة وليلة. تفاصيل التفاصيل عن تلك الأمسيات ما تزال عالقة في ذهنه. إنه يتذكر كل التفاصيل وذلك المكان الجميل في بيتهم، وبركن من صالة المعيشة التي كانت مقسمة إلى جزئين ركن للطبخ وركن للمعيشة.
رغم وجود عديد الغرف بالبيت، إلا أنهم كانوا يقضون جل وقتهم بهذا الركن الركين حيث يتناولون طعامهم ويتسامرون ويشاهدون التلفاز. عند حلول شهر رمضان تشهد قاعة المعيشة هذه نشاطاً غير عادي حيث تختلط فيها صيحات الأطفال، وتعليمات أمهم بضرورة المحافظة على النظافة والنظام، وصوت التلفاز العالي، وصدى حركة الملاعق والصحون، وروائح الطعام المنبعثة من ركن الطبخ. شهر رمضان يبعث حياة وحيوية غير عادية حيث تشهد صالة المعيشة بالبيت حياة غير عادية تختلف عن بقية الأيام، فكل شيء في هذا الشهر مميز بأنواع الأكلات والحلويات، والطقوس الخاصة المتبعة التي ترتبط بهذا الشهر الكريم. أخذ أحمد نفسا عميقا وأغمض عينيه قليلا وارتسمت ابتسامة على شفتيه وسافر في رحلة عبر الزمن عادت به الى الوراء ربع قرن من الزمان، حيث وجد نفسه جالسا هناك في ركن من الغرفة حيث تصطف المراتب على أرضية الغرفة فوق بساط أحمر من الصوف يتميز بزخرفته الشرقية.
في ركن الغرفة يجلس والده مرتديا جبة صوف سوداء كبيرة، وواضعا على رأسه عمامة بيضاء كبيرة، وممسكا بين يديه كتاب ألف ليلة وليلة وأحمد وإخوته يتحلقون حول والدهم كأنهم في عش للعصافير يستمعون إلى والدهم بانبهار كامل وهو يقرأ لهم بعض القصص. كان الأطفال يصغون إلى والدهم وهو يحكي لهم ويعيشون أجواء تلك القصص، ويندمجون معها كأنهم يعايشونها، فيذهب بهم الخيال بعيداً الى أماكن ساحرة هناك في بغداد! وينعكس ذلك الانبهار بشكل ظاهر على تعبيرات الاندهاش والإعجاب البادية على وجوههم.
كان أحمد على الخصوص يتفاعل ويتابع القصص بانبهار شديد منجذباً إلى الطريقة التمثيلية التي يروي بها والده تلك القصص وهو يحرك يديه ورأسه أحيانا، ويتفاعل بصوته وبتعبيرات وجهه مع أحداث تلك القصص المثيرة. عاد أحمد من رحلته عبر الزمن، ولكنه حتى في يقظته ظلت قصة علي بابا عالقة في رأسه، ودائما ما يعود لقراءتها بين الحين والأخر، ولم تفارق خياله تلك المغارة المليئة بالذهب والجواهر، بل تذهب به أحيانا أحلام اليقظة بعيداً فيتخيل نفسه قد دخل إلى تلك المغارة ووصل إلى الكنز، ولكن سرعان ما يفيق من سرحانه على حقيقة أنه لم يلتق بعد بالعصابة التي ستدله على المغارة وبزعيمها. أعاد أحمد قراءة قصة على بابا والأربعين حرامي مرات ومرات، بتركيز وصل إلى عدة استنتاجات مهمة وهي إنه كي يصل إلى كنز المغارة فلابد له من: –
أن يتعرف على امرأة ذكية مثل مرجانة. –
أن يبحث عن العصابة التي ستدله على مكان المغارة. –
أن يعرف كلمة السر لفتح باب المغارة.
ثلاثة شروط لابد أن تتوافر حتى يصل إلى مبتغاه، ولأن الزمن قد تغير كثيرا فالعصابة التي يبحث عنها هي غير العصابة القديمة، ولكنها عصابة حديثة متوافقة مع هذا العصر الذي يعيشه، وكلمة السر الأولى افتح يا سمسم لن تفيده الآن فقد أصبحت مستهلكة ولم تعد كلمة السر في هذا العصر.
بينما كان أحمد في أحد الأيام جالسا مع صديقه المقرب سالم بمقهى زرياب على رصيف شارع الاستقلال، حيث عادة ما يلتقون هناك مساء مع أصدقائهم. سرح أحمد بعيدا وهو ينظر ويراقب المارة الغادين والرائحين وأحيانا يدقق النظر ويحرك رأسه في متابعة بعض الفتيات الجميلات خاصة اللاتي يضعن نظارات شمسية على أعينهن ويتابعهن بنظراته. –
آه أين أنت يا أحمد.. قال له صديقه وهو يضحك؟..
عما تبحث؟..
عن عصابة علي بابا، أم عن مرجانة؟
كان صاحبه سالم يعرف ولع أحمد بقصة علي بابا وقد أسر له صديقه بأنه يحلم بالوصول إلى المغارة. ضحك أحمد لصديقه وقال له مبتسما: –
تعرف يا سالم بيني وبينك لدي شعور داخلي قوي بأنني سأصل إلى هذه المغارة. ثم أردف قائلا وهو يبتسم: – نعم يا سالم إنني اراقب هؤلاء الناس الذين يمرون من هنا لعلي أحظى بأحد أفراد العصابة صدفة فأعزمه على قهوة ويدلني على مكان المغارة. أخذ صاحبه سالم في القهقهة بصوت عال وقال له: –
والله إنك يا سالم درويش حقا إذا كنت تعتقد بأن أحد افراد العصابة سيمر من هنا… ماذا بك يا سالم؟..
أين عقلك؟ وأنت الموظف الشاطر معنا بالبنك والمدير معجب بك جداً؟ كنت أحسب يا سالم أنك أكثر ذكاء.
نظر إليه أحمد نظرة مستنكرة وقال له: – ولم لا يا سالم؟.. هل تعلم بأن كثيرا من الأمور في هذه الحياة تحدث بالصدفة؟ – هل تعرف نظرية الصدفة ودورها في كثير من الاكتشافات العلمية؟. بل إننا في حياتنا العادية كثيرا ما نعيش مثل هذه الصدف فلم الاستغراب؟ –
أنا يا صديقي لا اتحدث عن الصدف ولا عن النظريات.. أنا أتحدث عن العصابة. -رجال العصابة يا صديقي الذين تبحث عنهم لا يمرون من شارع الاستقلال، ولن تجدهم هنا، انهم هناك في روما، ولندن، وباريس، وإسطنبول! ثم أنت يا أحمد أين تعيش؟ إنك تلتقي ببعضهم كل يوم تقريبا في المصرف.. صحيح إن مصرفنا خاص صغير وجديد وأسسه الحاج علي هو أصحابه الحجاج، ولكنه ربما هو أيضا مغارة صغيرة. وأخذ سالم في الضحك وهو ينظر في عيني أحمد. –
أقول لك أنا لا أعرف، ولكن يستحسن أن تتأكد من ذلك من زميلتنا كريمة، فهي اليد اليمنى للمدير، وهي تعرف كثيراً من الأسرار. قال أحمد محتجاً: –
ماذا تقول؟..
زميلتنا كريمة انسانة رائعة ومحترمة وكلفها المدير بمكتبه لأنها شاطرة ومتمكنة جدا من عملها، وأنت تعرف ذلك؟ –
نعم يا صديقي ولا يذهب بك الظن بعيداً.. أعرف إنها انسانة محترمة، وأنا لا اقصد معنى سيئا، ما قصدته إنها وبحكم مركزها كمساعدة للمدير فهي تعرف كثيراً من أسرار البنك، وتعرف كثيراً من الحجاج الذين يزورون المدير، وتحضر بعض اجتماعاتهم، فلابد أن لديها بعض المعلومات حول ثروات البلاد من أموال وذهب وغيرها! أليس هذا ما تبحث عنه؟
لمعت عينا أحمد، وارتفع حاجباه وكأنه انتبه إلى حقيقة كانت غائبة عنه. * * *
مصرف الاتحاد مصرف جديد وصغير أسسه الحاج علي وبعض شركائه، وخدماته ما تزال محدودة تنحصر غالبا في عدد من رجال الأعمال الجدد وبعض التجار المعنيين بالاستيراد وفتح الاعتمادات.. يشغل المصرف مكتباً متوسط الحجم ببرج ذات العماد بطرابلس، وعدد موظفيه ليس كبيراً، وتربطهم علاقة ودية كأنهم عائلة واحدة بحكم صغر مؤسستهم مما جعلهم يتعاملون بأريحية مع بعضهم البعض من المدير وحتى أصغر موظف بالمصرف. كريمة فتاة لطيفة وشاطرة، واستطاعت رغم ظروف المنافسة غير المتكافئة حيث عادة ما يتم تفضيل الذكور على الإنات في الوظائف القيادية مثل المديرين ورؤساء الأقسام، إلا أن كريمة بسبب شطارتها وتميزها في العمل وتمكنها وإلمامها بمختلف الإجراءات المصرفية استطاعت أن تنال ثقة المدير فكلفها بإدارة مكتبه. بدأت الأفكار تتطاير في عقل أحمد وبدأ ينظر إلى زميلته كريمة وكأنها صاحبة علي بابا مرجانة وهي التي ستساعده في الوصول الى الكنز. بينما كان أحمد منشغلاً ذات يوم بإتمام بعض المعاملات مع صاحبه سالم، أقبلت نحوهم كريمة تحمل في يدها معاملة، وطلبت من أحمد أن يستكمل إجراءاتها.. هنا ابتسم سالم ونظر ناحية كريمة وقال: –
ها هي كريمة يا أحمد يمكنك أن تسألها عما في خاطرك؟
ابتسمت كريمة وقالت: – تفضل يا أحمد أنا في خدمتك
ارتبك أحمد ولم يعرف ماذا سيقول، فقد فاجأه صاحبه سالم وأحرجه مع كريمة، عندها ابتسم سالم وقال: –
الحقيقة يا كريمة أن صاحبنا أحمد شغوف جداً بموضوع المغارة، ويريد أن يعرف بعض التفاصيل عنها. تفاجأت كريمة وقالت ببعض الاستغراب: –
أي مغارة تتحدث عنها؟ قال لها سالم: –
الحقيقة أن صاحبنا أحمد منذ صغره وهو مغرم بمغارة على بابا، وما يزال يبحث عنها، وقد قلت له بأنه الآن يشتغل في مغارة صغيرة وهي مصرفنا، وكريمة لديها معلومات أكثر عما تحويه هذه المغارة. هنا ابتسمت كريمة وقالت وهي موجهة كلامها لأحمد: –
إن كنت يا أحمد تبحت عن مغارة علي بابا فعليك بالعمل في المصرف المركزي.. هنا في مصرفنا لا يوجد الكثير، ولكن هناك في المركزي تجد الأموال والذهب والمجوهرات وكل ثروة البلاد تجدها هناك..
وبالمناسبة لقد كان أحد المديرين بالمصرف المركزي يوم أمس مع مديرنا، فهو أحد المساهمين الكبار في مصرفنا، وقد سمعته يطلب من مديرنا أن يدله على موظف ممتاز وثقة لكي يشغله معه.. فإن كنت ترغب يا أحمد في تلك الوظيفة والانتقال إلى العمل بالمصرف المركزي فبإمكاني مساعدتك، والتحدث مع مديرنا بالخصوص؟ هنا انفرجت اسارير أحمد وشكر زميلته كريمة على اهتمامها مبدئا رغبته في الانتقال إلى العمل بالمصرف المركزي.
صاح سالم ضاحكاً: – آه يا محظوظ ها أنت قد وصلت إلى ما تريد، ولكن أرجوك يا أحمد ألا تنسنا أنا وكريمة عندما تحصل على الكنز.. وأخذ جميعهم في الضحك. دخلت كريمة على مكتب مديرها وناولته الأوراق وقالت له: –
لقد انجزها أحمد بسرعة. فابتسم المدير وقال: –
فعلا هذا الولد شاطر، وله مستقبل.
هنا استغلت كريمة الفرصة وقالت لمديرها: –
لقد سمعت صاحبك المدير بالمصرف المركزي يبحث عن موظف ثقة، فما رأيك أن ترشح له أحمد فهو يرغب في الانتقال للعمل بالمصرف المركزي؟
نظر إليها المدير نظرة ثاقبة قائلاً: –
وهل أنت متأكدة برغبته في الانتقال..
هل هو غير مرتاح في عمله معنا؟
قالت كريمة: –
لا يا حاج.. أحمد كما تعرفه شاب مهذب، ولكن لديه طموح في العمل بالمصرف المركزي، وهو بالمناسبة يدرس الماجستير بالأكاديمية، ويريد مكان عمل كبير مثل المصرف المركزي. ابتسم المدير وقال لها: –
والله فكرة يا كريمة.. أحمد شاطر وثقة، ومن جهة فإننا بذلك نسدي خدمة لصاحبنا الحاج مختار، ومن جهة ثانية فإن أحمد سيكون لنا عوناً بالمركزي، وسيسهل لنا كثيراً من المعاملات. وقبل أن تخرج كريمة من مكتبها اتصل مدير مصرف الإتحاد بالحاج مختار بالمصرف المركزي، وأعلمه بأنه قد وجد له موظفاً ممتازاً وأميناً، وثقةً، وشاطر.. وأردف قائلاً – إنه أحد الموظفين لدي، وأعرفه جيداً، ولكن طلبك يا حاج أوامر وأخذ كلاهما في الضحك. وبعد تبادل بعض الحديث والإجابة على بعض الاستفسارات طلب الحاج مختار من مدير مصرف الإتحاد أن يبعث له أحمد بعد أسبوع مصحوبا بالمستندات اللازمة لاستكمال موضوع التعيين.
شكرت كريمة مديرها على خدمته، وخرجت فرحة ونادت على سالم واتجها ناحية المكتب الذي يشتغل به أحمد، ودخلا عليه يعلو وجه كلاً منهما ابتسامة عريضة، وقال له سالم وهو يبتسم: –
تم الموضوع يا أحمد مبروك.. أنت تعرف كريمة انسانة طيبة وخدومة، وها هي قد تحصلت لك على الموافقة للانتقال للعمل بالمصرف المركزي. فرح أحمد كثيراً، وهو غير مصدق، وألح على كريمة أن تصدقه القول، فأكدت له كريمة الخبر. –
الموضوع لا يجب أن يمضي هكذا.. قال سالم.. غدا الإفطار عليك ولابد أن تأتينا بعلبة بقلاوة نتناولها مع القهوة. وأخذوا يتجاذبون الحديث وهم يضحكون، وأحمد يكرر شكره وامتنانه لكريمة على خدمتها الجليلة.
بدأ أحمد عمله بالمصرف المركزي بمكتب الحاج مختار، وقد كان مجداً في عمله، يتصرف بأدب وتهذيب مع الجميع، سواء زملاؤه الجدد بالمصرف، أم مع ضيوف الحاج مختار الذين يتوافدون على مكتبه لإتمام معاملاتهم، وقد كان الحاج مختار في أحيانٍ كثيرة يكلف أحمد بمتابعة بعض المعاملات، واتمام إجراءاتها. كان أحمد منبهراً بالجو العام في المصرف الجديد، وقد لاحظ بأن زبائن المصرف ليسوا من الناس العاديين الذين اعتاد على رؤيتهم بمصرفه السابق، فلا طوابير هنا، ولا زحام وحتى هيئة هؤلاء الزبائن تبدو أكثر أناقةً وترفاً. أما مديره الجديد الحاج مختار فهو أيضا تبدو عليه مظاهر النعمة في هيئته وفي محياه، وهو شخصية مهابة في المصرف، الجميع يقوم واقفاً عند دخوله.. – – صباح الخير يا حاج مختار… مساء الخير يا حاج مختار. وتظل تسمع كلمة الحاج تتردد في كل المكاتب وفي أرجاء المصرف حتى من قبل الزوار المرموقين الذين يفدون على المصرف لملاقاة المدير. بدأ أحمد عمله بمكتب المدير، وكان حريصاً على الالتزام والدقة في العمل حتى أصبح مع الزمن الساعد الأيمن للمدير يكلفه بمتابعة المواضيع الهامة المتعلقة ببعض زبائن المصرف المهمين.
تعززت ثقة المدير في أحمد لما يتميز به أيضاً من رزانة، فقد لاحظ المدير بأنه قليل الكلام ويحافظ على الأسرار..
في أحد المرات كان أحد الزبائن الكبار بمكتب الحاج مختار يتحدث معه عن معاملته التي تأخرت بعض الشيء فقام الحاج بدعوة أحمد وعرّفه على الحاج خليفة قائلاً له: –
الحاج خليفة من أعز أصدقائي.. زبون مهم ولديه معاملة يبدو أنها تعرقلت، وقد قلت للحاج بأن أحمد شاطر، وبإمكانه حل اية إشكالية، وسيقوم بمتابعتها وانهاء إجراءاتها.
أخذ أحمد في مراجعة مستندات الصفقة التي تتعلق باستيراد عدد كبير من السيارات لأحدى الجهات العامة، وفي أثناء تصفحه سأل الحاج خليفة أحمد عن نوع سيارته وموديلها، فنظر أحمد تجاه الحاج خليفة وقال له وهو يتحدث ببعض الخجل: –
والله يا حاج سيارتي قديمة هونداي سوناتا طراز 2007 اشتريتها مستعملة. هنا ضحك الحاج مختار مدير أحمد وقال موجهاً كلامه إلى صاحبه الحاج خليفة: –
لابد أن تدبر سيارة جديدة لأحمد تليق به، فهو موظف شاطر وأعتمد عليه كثيراً. هنا ابتسم الحاج خليفة قائلاً: –
تم الموضوع يا حاج، أنت تعرف أنني أحب الشباب النشطين ولا أنساهم، أبعت الي ببيانات أحمد، ويصير خير ان شاء الله. كان أحمد يستمع إلى ذلك وهو في ذهول غير مصدق واقترب من مديره وقال له هامساً: –
شكرا يا حاج مختار، ولكنني لا أستطيع شراء سيارة جديدة، وأنت تعرف وضعي المادي تظاهر الحاج خليفة بأنه لا يسمعهم منشغلاً بتصفح بعض أوراقه، في حين أن الحاج مختار نظر إلى أحمد نظرة دافئة وقال له: –
لا تفكر في الموضوع يا أحمد. بعد حوالي أسبوع طلب الحاج من أحمد أن يذهب إلى مكتب الحاج خليفة بعد الظهر لأنه يريده. عند انتهاء العمل توجه أحمد الى مقر مكتب الحاج خليفة بالظهرة الذي استقبله بترحاب كبير، واستضافه على فنجان قهوة، وبينما هما جالسان يتبادلان الحديث، فتح الحاج خليفة درج مكتبه وأخرج حزمة من المفاتيح، وكتيب سيارة ومدها لأحمد قائلا له: –
مبروك يا أحمد هذه سيارتك.
تفاجأ أحمد ولم يعرف ماذا يقول، وظهر عليه الارتباك، فابتسم له الحاج خليفة وقال له: –
ولا يهمك يا أحمد لا تفكر في الموضوع وهذا أمر بيني وبين الحاج مختار. ثم نادى على أحد موظفيه طالباً منه أن ينزل مع أحمد ويسلمه السيارة. – يا الله – ألقى أحمد نظرة على السيارة الجديدة هونداي سانتافي آخر طراز لونها أسود. لقد كان حلمه أن يتحصل على واحدة مثلها، وها هي الآن أمامه.. ركبها ووضع المفتاح وشغّلها وهو ما يزال غير مصدق ما يحصل. كان أحمد يقود سيارته الجديدة.. تتملكه مشاعر كثيرة متناقضة بين الفرح الغامر لحصوله على مثل هذه السيارة، وتساؤلات تدور في رأسه ويطردها فلا يريد أن يعكر جو بهجته بأفكار وتأويلات غير نافعة. شيء بدأ يرن في رأسه وبقوة، الأمر ليس صعباً كما كان يعتقد! هؤلاء الذين لديهم هذه الثروات لابد أنهم في البداية واتتهم مثل هذه الفرص وانفتحت لهم الأبواب. طوال الطريق عاش أحمد حالة من التذبذب بين أفكار متناقضة تدور في رأسه، فعقله يقول له ليس هناك شيء بالمجان، وعقله أيضا يقول له أنت لم تخطيء ومن حقك أن تعيش! ولكن ما هي الخطوات القادمة.؟
لقد بدأت صورة مديره الحاج مختار متجسدة أمامه. نعم الحاج مختار هذا الرجل الأنيق في مظهره، الذي يحترمه كل العاملين بالمصرف ويبدو الثراء وآثار النعمة بادية عليه..
الحاج مختار الحاج مختار جملة تتردد كل الوقت في أروقة المصرف وحتى خارجه، بل يكتفون بلفظ الحاج، وكأنه لا حاج غيره.. جميعهم يلاقونه بكل البشاشة والفرح، وكل الموظفين بالمصرف يهابونه ويخافونه ويحترمونه ويحبونه ولا يفكرون إلا في رضاه.. هو معروف بتقواه ومساعدته للفقراء واهتمامه بأهل البركة، ودائماً ما يبحث عنهم خاصة في شهر رمضان وفي الأعياد ويدعوهم عنده في المزرعة حيث يقيم لهم مأدبة ومجلس ذكر يسبحون ويحمدون الله، وبالطبع يدعون له بزيادة الخير أكثر من الخير الذي هو فيه. ابتسم أحمد وقال في نفسه: –
ما شاء الله الحاج جمع خير الدنيا وخير الأخرة، ودائماً يذهب إلى العمرة، وعندما يكون مشغولاً فإنه يدفع لأحد المشايخ ثمن رحلته للعمرة كي يدعو له في مكة وفي مسجد الرسول عليه الصلاة والسلام. كيف يمكن لأحمد أن يصل إلى درجة رفيعة مثل الحاج مختار، فهو مثله الأعلى، وحسب ما سمع من بعض زملائه فالحاج مختار لم يكن غنيا منذ البداية ولم يرث من أسرته شيئاً معتبراً، ولكنه رجل عصامي استطاع بمجهوده أن يبني نفسه، ويكون ثروة لا بأس بها، وردد في نفسه ما شاء الله ما شاء الله لا حسد.
أفاق أحمد من سرحانه عندما وصل قرب منزله وأوقف سيارته بالقرب من بيتهم وسط اندهاش وإعجاب شباب الشارع الذين كانوا واقفين قرب منزل أسرته. الموضوع ليس صعباً، هذه الجملة التي ظلت تتردد في رأسه، وبالعزيمة وبنصائح ومساعدة الحاج مختار سيصل بإذن الله. علاقة أحمد مع مديره الحاج مختار توثقت مع الزمن وأصبح صاحب سره، يقوم له بكل الأعمال، والحقيقة فالعلاقة لم تكن مصلحية فقط فالحاج يستلطف أحمد، ويثق به، ويعامله كابنه، ولم يبخل يوماً في تقديم المساعدة له والدفع به إلى الأمام.
ذات يوم وبينما كان أحمد جالساً صحبة الحاج مختار بمزرعته يشربان الشاهي، التفت الحاج ناحية أحمد وقال له كيف سيارتك يا أحمد؟ ابتسم أحمد وقال: –
جيدة.. والبركة فيك يا حاج، والله إني عاجز عن شكرك. هنا ابتسم الحاج ونظر إلى أحمد نظرة فاحصة، وقال له: –
اسمع يا ابني يمكن أن تتحسن حياتك كثيراً، ولديك فرص كبيرة أمامك؟ –
-البركة فيك يا حاج.
يا ابني قال الحاج وهو ينظر في عيني أحمد نظرة ودودة مع ابتسامة خفيفة: – الحياة يا ابني كول ووكّل!
لم يستوعب أحمد الجملة في البداية، ثم التفت ناحية الحاج مختار مبتسماً، وهز رأسه علامة الفهم!
الحاج بدوره أيضاً ابتسم لأحمد وهز رأسه.
أخذت جملة كول ووكل ترن في أذن أحمد، وانفرجت أسارير وجهه، فالآن قد اكتملت الصورة، وحصل على الشفرة السرية أو كلمة السر التي كان يبحث عنها. توطدت العلاقة بين أحمد ومديره الحاج مختار، حيث عرّفه على أصحابه، وأصبح أحمد جزءاً من شلة الحاج مختار، يحضر معه المناسبات الاجتماعية والجلسات الخاصة التي ينظمها الحاج وأصحابه بالمزارع الخاصة. هكذا بدأ نجم أحمد في الصعود، وبدأت الأموال تجري بين يديه، وأصبح أحد المترددين على إسطنبول للاستجمام، ويملك شقة فاخرة هناك. الآن انفتحت الأبواب لأحمد بمباركة الحاج مختار، وتوسع نشاطه وخدماته مستعيناً بمعرفته المهنية، ونفوذه بالمصرف المستمد من علاقته الخاصة بالمدير. أصبح أحمد مشغولا جدا ولم يعد له وقت ولا حاجة للقاء أصحابه القدامى، وانقطعت صلته بأغلبهم، فقد انضم لنادي المرموقين وأصبح وجهاً مألوفا في المناسبات الاجتماعية لعلية القوم.
ذات يوم ذهب أحمد إلى مصرف الإتحاد مكان عمله القديم لمقابلة مديره السابق بخصوص بعض المعاملات.. رحب به زملاؤه القدامى بالمصرف ترحيباً كبيراً، وقد لاحظوا تغير هيأته وقيافته التي يبدو عليها الأناقة الزائدة، كما لاحظوا أنه لم يكن معهم عفوياً كالسابق، بل عاملهم ببعض المجاملة الرسمية. دخل مكتب كريمة مساعدة المدير التي تفاجأت بقدومه، ورحبت به كثيراً، وبهزة من رأسها مع ابتسامة وبصوت خافت سألته: –
كيف وجدت مغارة المصرف المركزي يا أحمد؟
تجاهل أحمد سؤالها وبصوت جاد طلب منها إعلام المدير بحضوره. نظرت إليه كريمة نظرة فاحصة، ودخلت مكتب المدير لإعلامه بحضور أحمد طالباً مقابلته، ولذهولها فإن المدير عند سماعه ذلك قام من مكتبه متوجهاً نحو الباب مهللاً ومرحباً بالأستاذ أحمد!
عندما التقى سالم بكريمة سألها عن سر مجيء زميلهم وصاحبهم أحمد إلى المصرف ومقابلته للمدير، وإن كان يرغب في العودة للعمل معهم بالمصرف. نظرت اليه كريمة نظرة تائهة تمتزج بابتسامة ساخرة وأجابته ببرود: –
أحمد يا سالم لم يعد منا.. لقد أصبح واحداً من الحجاج؟ –
ماذا تقصدين؟ تساءل سالم مستفهما؟ –
يا سالم أحمد هو الآن أحد المساهمين بمصرفنا أجابت كريمة.. ثم تركته وانطلقت نحو مكتبها حاملة بعض المستندات وسط ذهول سالم الذي وقف مشدوهاً وعيناه ساهمتان ومصوبتان نحو باب المصرف.