(حين تُوسّدُهُ شهقة أيادي الوداع، تنبتُ قصيدة أخيرة للشمس في مدينة باهتة)
فرج ذاكَ الرجل الأنيق، كان وحيدًا يقتنصُ لحظة هروب بحكمةِ الرحيل، بذرائع العُنوة ودونما يأسٍ، يلملمُ آخر ما تبقى من جُثّتةِ التي اصطفتها له الشمس، تباركها لوثة الحزن، قبل أن تُوسّمُ فجيعة الصدى في قلب عرّاب المنوبية، ذاكَ الطاعن في إزدراء صومعتي الباردة، فاقتصر برحيلة نصف الطريق، بعد أن أدمت قدماهُ حبْوًا إلى مكرُمَتِي النابعة من سُلالةِ المجد النقي، وتبكي حجارة الأزقّة الباردة، دموعًا تُبلّلُ مساءات الوحشة السادرة في الغياب، وترفع لثغة الوجع عن شاعرها الرفيق النرجسي العجوز، ذاكَ الباكي بصمتٍ على موت الأخ الرفيق، هي الحياة كوبليه من بانوراما فسيفسائية، تُحلّقُ بنا إلى أبعد ما يكون، ولا شيء يذكرنا بها البتّة، سوى الموت الرحيم، تغدرنا ونحن في جهالة اللاوعي وديمومة الوقت الذي ما ينفكُ يسحب خِنجره وُيُسكِنهُ غِيلة في ظهورنا العارية، دنيا غادرة، لها عتباتٌ ضامرة لا يهدمها سوى النسيان، تطوينا بكفّها على عجل مُسْتراب، ولنا أن نتخيّر ظلام الرحيل الأخير على أجنحة من فقدٍ مرير، نُحلّقُ إلى فضاءات أخرى، تاركين خلفنا أحلاماً ورُؤىً صغيرة و فرح ضئيل، وفي غمرةِ كل هذا وذاك، نختم وصيتنا بوجع الطين الأزلي، ذاكّ الذي كستهُ الوحشة ريش الوداع، وهو الوارث الوحيد لشهوة الوجع، كان مُراً مذاقه في الغياب الأخير، كمن ظلَّ يختصر مصير الفرح في ضحكاتٍ طاعنةٍ خجولة، وهو يتهجّى وجه هذا الغيب بصرخاتٍ يائسة عمياء، كان ينظر من شرفة الليل في حييّهِ البسيط وهو يتمتم ما تبقى من عُزلتهِ السرمدية، أنا لا أزدريكَ أيها الموت الجليل ولكني خجلٌ من قصائدنا الدامعة والمُوشاة بسواد اللحظة، تلك التي تركتك تمر دون أن تحيك لك جلباب الوداع الأخير، وترحل في تابوتك الأبنوسي إلى العدم، هكذا كان يشطح شارداً، منذ أن أحتبس الكلام وتحجّر في ليلة الفقد الرجيم، أبصر حُلمهُ يذبل أمام عينيه في غرفته المسكونة بالصمت الأبدي، حطَّ غراب الحزن على زوايا داره وظلَّ يأكل من قلبه، وهو يتأوّه الصراخ في المداءات، من هشّم ظِلُّ شغفي ؟ و سرق مني مرآتي، غدا عارياً وحيداً غريباً بعدهُ، وهو الشاهق كالشمس، يتوسلُ عودتها مع كل فجر بهيج، لا شيء سوى الرحيل كان يلوّحُ له بإصبعهِ ساخراً من مراثيه الباهتة، وهو من راهن الموت ذات شتاء، بأنه سيظل وإلى آخر النزف، لوثة السنا ورجع صدًى لموسيقى أوبرالية أنجبتها الريح من بين شقوق الضيم، كما الفراشات تفتح نوافذها للربيع، كان يُخفي دمعته كطفلٍ مُشرد أخرستهُ أرصفة الليل والصقيع، حين غطت قناديله صوْلة الظلام، ظلَّ ينظر إليه بقلبٍ عجوز و بينهما وجعٌ ورحيل بدأ يجوس بأنفاسه البغيضة اللامتناهية في حدائق الذكرى تلك التي تزيّنت ذات ربيع بحكاياته، وها هو الآن تطارده خفافيش رمادية تحبو من رحم الظلام لتنهش آخر نفسٍ له، اقترب منه بحنوِّ الرفيق على أخيه الجريح وله في ذاكرته أحجيات المزار والنسيان، شُدّتْ من قرنفل العمر الذي ولّى، أخذ يسرد على مسمعه بعض روايات التي كان يحبها و أجملها ظلٌ في الجحيم، تلك الرواية البازغة من فنتازيا الأرض، التي كان لها وقع خاص في قلبه الكسير، كان يترنم وهو حبيس الوحدة الآثِمة حتى داهمهُ المرض العُضال و رغم كل شيء استمر يردّدُ على مسمع أخيه القريب، الشاعر النزق، أجمل أشعاره و هو يسبح معه في ملكوت الأدب وبعضًا من نثر مُعاد، وهو من كان رفيق المساءات الرخوة، قبل أن يشرب نخب عودته من المنفى، أشبه بذئبٍ عجوز أتعبه رجع العواء في وجه الريح، ظلَّ أخوه هكذا قرابة عامٍ يرمّمُ نزف الغياب الأليم، وكلّما أراد أن يخلو إلى السكينة أضاء النار جرحهُ القديم الذي ظلَّ يصهل بداخله منذ يوم رحيله، هو أنيسُ المزامير في ليلِ شتائه البائس الطويل، حارسُ ظلّهِ من وحشة العتمة، رفيق السنابل المضيئةُ، أُخوهُ الرؤوم و إن تنكرت له السنين، لم يدر في خلده أنه سيفارقه البتّة وهو الذي مازال يغني باسمه في كل أوراد الصباحٍ و الضُحى العجول، ينتظر بفارغ الصبر زواجه و هو تاج الفرح و نجمُ الدار، كان حفيٌّ بأدعياتِ اليمام وزقزقة الفجر الطروب، لم يعد يذكر بعده شيء سوى طيفهُ الأنيق، قبل أن يقرأ الغيب سقوط الشمس من كفِّهِ، ظلَّ هكذا يفتقِدُه في كل شيء، كما القصيد جامداً في حنجرته النازفة من الفقد، بدأ يصرخ في وجه الليل لعلّه يصير صداه إليهِ، وهو ينتشي بقهوته في صومعة رفيقه الباردة، تجلّى ذات ليلة حانية وهمس للعتمة قائلاً : رفقاً بنا أيها الموت، هو أخي ابن أمي وأبي، أخي بعضاً مني، أعدهُ يا إلهي إليَّ و لو نفساً أخير، أقبلُ يدهُ و لي في قلبهِ فرحٌ كبير يقيني من وحشة الغياب، فو الله ما متُ بعدهُ إلّا لكي أبصرني حياً في مداه .