حوارات

عائشة إبراهيم: إلى وقت قريب كنت لا أتخيل أنني أملك الجرأة لكتابة رواية

حاورها: سالم البرغوتي

القاصة والروائية الليبية عائشة إبراهيم
القاصة والروائية الليبية عائشة إبراهيم

ماذا أقول وماذا اكتب وقد تعثرتُ في تقديم كاتبة تحلق في سماء الرواية بجناحين أبيضين عملاقين خارج الجاذبية. التأني والهدوء والسرد المتدفق وغزارة اللفظ وعمق الخيال.. عائشة إبراهيم لا تسلك الطرق السهلة ولا تحبذ الابتداءات والعناوين البسيطة، فهي تحب أن تدخل المعركة لكي تنتصر لا لأن تعيد الكرة مرة أخرى. يخيل إليّ أن عائشة إبراهيم ولدت لتكون روائية وأن حلم كتابة الرواية كان يراودها من المهد،  جلبت عائشة تميمة الإبداع من سواقي بن تليس ووادي دينار وشعبة بن غلبون وقرزة لتحط بهذه التميمة في طرابلس حيث ينتهي العالم،  هنا في طرابلس أسطورة البحر وطيور النوارس والمرافئ  والمراكب كانت لعائشة الكثير من الأحلام لتحققها والكثير من التحديات لتجتازها، فهي تدرك أنه من السهل الغرق في المياه الضحلة على شواطئ، طرابلس بوجود كتّاب وأدباء ونقّاد يحرسون المدينة من الدخلاء ولكنهم لا يمنعون من يحمل تميمة الإبداع وسر النفائس المفقودة من الدخول إليها.. تصورات كثيرة من وحي خيالي عن بدايات عائشة إبراهيم في طرابلس، فكأني بها وقد انتبذت مكاناً قصياً على أطراف المدينة لتلقي بحملها الأدبي بعيداً عن الصخب والضجيج. عائشة إبراهيم جاءت إلى طرابلس لتقول أنا هنا صحبة أحلامي وطموحاتي لا أخشى علو أمواجها ولا يقظة حراسها.

ــــ حدثينا عن بدايات عائشة إبراهيم. متى شعرت بأنها قادرة على الولوج لعالم الرواية؟

– كنت إلى وقت قريب، منذ ستة أعوام تقريباً لا أتخيل أنني أملك الجرأة لكتابة رواية، يمكنني أن أنشر قصة أو مقالاً في مجلة أو في مواقع الكترونية، لكن فكرة أن أضع اسمي على غلاف رواية كانت تجربة مرعبة بالنسبة لي ومحفوفة بالمخاطر.

كانت تلح عليّ فكرة كتابة روايتي الأولى (قصيل)، تتوارد أحداثها في خيالي، أتعقب مسارات شخصياتها وأسمع أصوات حواراتهم الافتراضية، أتنقل بين الأمكنة، وأصف تفاصيل الوادي والمباني القديمة وتدفق السيل وأهازيج النساء، لكنني حين أقرر الكتابة تنتابني حالة القلق والخوف والتفكير في آراء القراء والنقاد، وأتورط في مقارنات صعبة مع الروايات التي قرأتها سابقاً لكتّاب آخرين، ويداهمني السؤال ماذا سأضيف أنا للرواية؟ ماهي القيمة المضافة التي تنضوي عليها تجربتي المحتملة، بالتأكيد أنا الآن أكثر وعياً بأن قيمة العمل هي في فرادته، أي في هويته الخاصة، وليس في مدى اقترابه من شكل وبنية الأعمال الأخرى, ولكن على أية حال كان لابد من المضي في التجربة، ولكن بحذر شديد، كنت أكتب فصول روايتي الأولى وأنشرها بصفحتي على الفيسبوك كنوع من التمرين، واستقبل الآراء والتعليقات والتصويبات، واستمع إلى النصائح، وبعد الفروغ منها عرضتها على أصدقاء وروائيين ونقاد، وظل المخطوط لفترة طويلة ينتقل بين أيدي نقاد وروائيين ضالعين وذوي خبرة، وجميعهم أجازوا النص للنشر بكثير من التشجيع والدعم. مع التأكيد أنها ليست تجربتي الأولى في الكتابة، فقبل نشر رواية قصيل كانت لدي مجموعة قصصية جاهزة للنشر، وسبق وأن كتبت في مجال المسرح ونشرت بشكل منتظم مقالات رأي في عدة صحف، ومع ذلك تظل كتابة الرواية لها رهبة خاصة لا يستهان بها.

ـــــ بغض النظر عن كون رواية صندوق الرمل وصلت للقائمة الطويلة كحرب الغزالة. هل تعتبر عائشة أن رواية صندوق الرمل هي الأهم من بين ما كتبتِ؟

– كل ما يمكن أن أقوله أن رواية صندوق الرمل هي الأصعب مقارنة بالروايتين السابقتين،  كانت تجربة باهظة ومرهقة استنزفت الكثير من مشاعري ووقتي وحالتي الوجدانية والصحية، كانت تجربة تخليق عالم روائي من زاوية صعبة، تجتمع فيها متناقضات كثيرة أعيد قولبتها وفق النسق المحدد للسرد، الأمر كان أشبه بحالة صراع  في كل جلسة كتابة، كانت فكرة نقل كاميرا السرد في منطقة العدو وتصوير ظروفه وانفعالاته والملابسات المحيطة به، إضافة إلى تصوير محنة الضحايا بدون أن أحشر رأسي في مسألة التعاطف أو أن اخترق مجال الحيادية هو تحد كبير لي.. كنت أريدها أن تكون رواية تسير وحدها في شوارع ميلانو ونابولي وتركب البحر المتوسط وتنقل حكايات الجنود المخدوعين والمغيبين أو الطامعين، وتتقصّى عن أحوال طرابلس وترافق الفتيات إلى منفاهن وتصوّر المعاناة والبؤس والعذاب الإنساني، دون أن أقحم نفسي بين السطور، وكان على الرواية أن تقول كل ذلك بمصداقية، دون تشويه أو تزوير للتاريخ، فكل التفاصيل الصغيرة التي تحيط بأبطال الرواية يجب أن تكون تحت إطار الحقيقة، فعندما أقول أن الجندي (ساندرو) يذهب لحضور حفلة موسيقية في تورينو، في سبتمبر 1911 يجب أن أملك التفاصيل الكاملة عن هذا الحدث، شكل المدينة وشوارعها، الظروف الاجتماعية، الحالة العامة، أسماء الأحزاب ورؤسائها والحراك السياسي المظاهرات والاعتصامات، الملابس والأغاني والهتافات والأمثال الشعبية، أيضا اسم الأغنية ولحنها وكلماتها وثياب المغنية وتسريحة شعرها، وعندما نتحدث عن الفتاة الليبية التي تم نفيها إلى سجن غاييطا يجب أن أحيط بكل التفاصيل التي تدور في مستوطنات العقاب، شكل العنابر ونوع الطعام ومكان النوم وكل ما يمكن أن يشكل فضاء الحكاية، إنها الاكسسوارات الكاملة للنص، وكل هذه التفاصيل غير خاضعة لمنطق التخييل، بل يجب أن تكون حقيقية ومؤكدة من مصادر موثوقة، ثم بعد تأكيد هذا الفضاء الزمكاني، علينا أن نوظف ذلك في سياق السرد وفق رؤية خاضعة للمعايير الجمالية، بحيث لا ينفلت العمل في صيغة تقريرية أو حشو البلاغة الاستعراضية، اعترف بأنه كان التعامل مع هذه الرواية مرهقاً وينطوي على مجازفة كبيرة في تقمص كل شخصية وكل موقف، وكان علي أن أتعامل بحذر مع القارئ  وأن احترم ذكاءه، بحيث لا تحدث أي هفوة تخلخل ميزان السرد.. وبحجم ما بذلته فيها من جهد ووقت وبحث واشتغال جاءت مكافأة القارئ عظيمة، والقبول قفز إلى أبعد من كل التوقعات..

ـــــ الكاتب اللبناني سليم بطي يقول إن رواية صندوق الرمل أوطان تقطع لأبنائها تذاكر مجانية للموت، مؤكد أنه يتحدث عن حقبة الاستعمار الايطالي لليبيا غير أن هذا القول من زاوية أخرى وكأنه يتحدث عن ليبيا المنقسمة التي عانت من ويلات الحروب الداخلية ما تعليقك على هذا القول؟

– سليم بطي ناقد ذكي وجاء عنوان مقالته مفتوحا على تأويلات كثيرة تتناسب وكل الحروب المعاصرة وليس فقط أبناء إيطاليا الذين تم الزج بهم في الحرب في ليبيا، وبالنسبة لرواية صندوق الرمل وهي وإن كانت رواية تاريخية تتحدث عن فترة الاستعمار ولكنها أيضاً لا تستغرق في التاريخ بوصفه سرداً وثائقياً منفصلاً بلا مغزى، بل بمدى ما يمثله هذا التاريخ من انعكاس على الحاضر، وبما يتضمنه من رسائل في ثنايا النص تذكر بمعاني وقيم النضال والروابط المشتركة بين أبناء الوطن الواحد. أي أن الرواية رسالة تتجاوز الأزمات والانقسامات قبل أن تكون حكاية أو إنتاج معرفة. 

 وكمثال بسيط أشير إلى الفصل (15) من الرواية حين اجتمعت السجينات من طرابلس وبنغازي في زنزانة واحدة بسجن غاييطا، فيضيء السرد العلاقة الإنسانية التي جمعت بين سليمة البنغازية وعالية الطرابلسية، وهما تتقاسمان الوجع والحكايات والسلوان، وكانت كلاهما تواسي الأخرى وهما تبكيان الأهل والأبناء في مدينتيهما، كما ينقل السارد حديث السجناء وهم يسألون بعضهم بعضا: أنت من طبرق؟ يجيب أحدهم: من البيضاء، ويجيب الآخرون: من العزيزية، من مصراتة، من يفرن، من ترهونة، من ورفلة، …الخ، ثم يتناقلون قصيدة السجين الفضيل الشلماني عن الشوق إلى الوطن والأهل وهم في ذلك يشتركون في الوجع ذاته لا فرق بين ليبي وآخر في إحساسه وانتمائه إلى وطنه..

ــــ لو قلنا إن رواية صندوق الرمل طغت على رواية حرب الغزالة إعلاميا وتقنيا وفنيا فلو عاد الزمن قليلا إلى الوراء وكان كتابة صندوق الرمل قبل حرب الغزالة هل تتغير رؤية القارئ لحرب الغزالة؟

– قد تكون صندوق الرمل طغت على حرب الغزالة إعلاميا، لكن تقنيا وفنيا قد لا يكون التعبير دقيقاً مئة بالمئة، فحرب الغزالة كتبت كما ينبغي لها بناء على ما توفر لها من أدوات وهي أدوات شحيحة جداً ومع ذلك كانت نصاً غنياً جداً بالتفاصيل والمشهدية، صندوق الرمل استندت على وثائق ومعلومات وحقائق فيما خرجت حرب الغزالة من شبه العدم، وبالتالي كان التحدي في  كتابتها أمراً غير مسبوق، فليس هناك أي رواية مكتوبة باللغة العربية ذهبت في عمقها التاريخي إلى ما يزيد على عشرة آلاف عام لتصور حياة مجتمع حقيقي وتؤطر واقعه وسلوكه وطريقة حياته وتقدمه للعالم بتلك الكيفية الثرية التي ظهر بها نص حرب الغزالة ودون أي إخلال بشروط الواقعية أو استغراق في متاهة الفنتازيا..

رواية صندق الرمل للرواية الليبية عائشة إبراهيم
رواية صندق الرمل للرواية الليبية عائشة إبراهيم

لكن ما حدث لهذه الرواية أنها اجتمع عليها عاملان من عوامل سوء الحظ وأولهما: ظروف النشر في ليبيا، فالرواية لم تصل إلى القراء خارج ليبيا رغم الطلب عليها والبحث عنها بعد إعلان القائمة الطويلة للبوكر 2020، لم يكن هناك أي انتشار أو ترويج لها، فليبيا كانت في ظروف حرب، ودار النشر التي طبعتها رغم جهودها الطيبة ولكن لم تستطع المشاركة في المعارض الدولية بسبب التضييق على التأشيرات الخاصة بالناشرين الليبيين، حيث منعوا من المشاركة في معرض الرياض في ذلك العام ومعرض الشارقة وأبوظبي ومسقط، وشاءت ظروف الانقسام السياسي في ذلك العام أيضاً ألا تشارك دار النشر في معرض القاهرة الذي يعد أهم معرض دولي ويحقق أكبر انتشار ممكن للرواية وخاصة لتلك الروايات التي تصل لقائمة البوكر، كما أن عدد النسخ الذي طبع من الرواية أساساً كان قليلاً 200 نسخة فقط، وهذا رقم لا يحقق ترويج أو انتشار للعمل مهما كان مبدعاً، لذلك كانت حرب الغزالة غائبة عن المشهد الإعلامي.

وثانيهما: لم تحظى الرواية بالقراءة الواعية التي تقدر الجهد المبذول فيها، فكثير من القراء اعتقدوا أنها رواية تاريخية تنقل تاريخ ليبيا القديم وأساطيره وحكاياته، تماما كما تنقل بعض الروايات قصص ملوك الفراعنة، أو الهكسوس أو غيرهم، وهذا تصور ظالم للنص، وللجهد التخييلي المبذول فيه فليس هناك أي مصادر تاريخية مكتوبة تتحدث عن ليبيا أو غير ليبيا، منذ ما يزيد على عشرة آلاف عام. التاريخ المكتوب بدأ منذ 3500 سنة قبل الميلاد وتحدث عن الأشوريين والسومريين والفراعنة والهكسوس وغيرهم ممن جاءوا بعد هذا التاريخ، لكن الأقوام الذين عاشوا قبل 10 ألف عام في جنوب ليبيا لا يوجد أي مادة مكتوبة تتحدث عن تاريخهم وحياتهم، باستثناء الرسوم الصخرية على الكهوف وهي التي استندتُ عليها في بناء حكاية حرب الغزالة، وبالتالي لا يمكن القول إن حرب الغزالة توظيف للتاريخ المنقول أو الأساطير القديمة.  فجميع أحداث الرواية هي عالم متخيل بالكامل وجميع الأساطير بها من نسج خيالي، والنقاد يعلمون مدى صعوبة بناء أسطورة وصياغتها لغويا بما يتوافق مع بناء السرد الأسطوري، وبالتالي لم يكن هناك قراءة واعية للرواية تستطيع أن تميز بين السرد التاريخي والسرد التخييلي، ربما لأن ضخامة الفعل التخييلي بالرواية لم يكن متوقعا، وخاصة لكاتبة مغمورة من ليبيا كدولة لم تكن قد برزت بعد في المنافسات الأدبية الكبرى.

رواية حرب الغزالة نص مخاتل وتحتاج إلى قراءة أكثر تبصّراً. حتى لو جاء ترتيب صدورها بعد صندوق الرمل فسوف تعاني من النتيجة ذاتها، ولكن في العموم هي مغامرة كان لابد من الخوض فيها، لقد كان هدفي من الخوض في تلك المنطقة الصعبة، هو تحدّي الرواية التاريخية القائمة على الوثائق، والعودة إلى أبعد ما يمكن من الزمن لإنتاج نوع آخر من الرواية تبدأ من نقطة الصفر، من العدم، قبل اكتشاف الحرف، حيث لا وثائق، لتصبح هي نفسها وثيقة تحيل إلى زمن مجهول لم يخُض فيه أحد من قبل، بشروط الواقعية التي تحقق مصداقيتها بما لا يتصادم مع التاريخ.

ــــ بعض النقاد الذين كتبوا عن رواية صندوق الرمل كانوا يشيرون من زاوية لكونها رواية الصراع التاريخي بين الشمال والجنوب أو عودة للتاريخ، فكأني بهم يهملون الجانب التقني والفني للرواية، كيف ترين ذلك؟

– يسعى كل كاتب أن تحقق روايته مقروئية جماهيرية، وهذا هو المعيار الذي يشير إلى نجاح الرواية، أي أنها رواية تلامس المشاعر والذائقة لدى كل الأوساط ويقرأها الشخص برغبة خاصة من دون إجبار، خلافاً للقراءة البحثية التي تفرضها الجامعات أو المشاركات الأكاديمية.

 والقراء الذي كتبوا عن صندوق الرمل في معظمهم هم من محبي القراءة والشغوفين بالأدب وليس من النقاد المتخصصين الذين يحتاجون إلى وقت طويل للإطلالة من صوامعهم والتعامل مع الأعمال الأدبية إلا في حال كانت لديهم بحوث للترقية أو طلاب الدراسات العليا.

بالتالي فإن القراءات التي نُشرت عن صندوق الرمل في أغلبها (75%) منها قراءات انطباعية وليست أكاديمية، وتناولت قصة الرواية والانطباعات الشخصية والصراع التاريخي والبعد الإنساني وما تثيره الرواية من مشاعر وأسئلة ونقلة معرفية ووجدانية لدى القارئ، أما دراسة الرواية من الجانب التقني والفني فهذا جانب آخر كتب عنه نقاد مختصون، وإن كان بدرجة أقل، بعضُها مقالات منشورة ومتوفرة على شبكة الانترنت، وأخرى طية بحوث علمية ورسائل ماجستير ودكتوراه لم تنشر بعد.

ــــ سر نجاح أي رواية في نظر عائشة إبراهيم. هل الاستعداد الذهني أم فكرة الرواية وهل كل شخوص الرواية تكون حاضرة منذ البداية أم تتداخل مع بناء الرواية أثناء الكتابة؟

– قرأت من قبل تعبيرا أعجبني ولا أتذكر قائله، يقول: لا تصف لي سقوط المطر ولكن دعني أشعر بالبلل، لذلك الرواية الناجحة هي التي لا تصف من الخارج ما يحدث بل ما تجعل القارئ يعيش بداخل النص، عوامل كثيرة تساهم في نجاح الرواية يأتي في مقدمتها أن يتوحد الكاتب مع نصه ويذوب فيه، كتابة الرواية مثل تجربة التصوف لابد أن يعيشها الكاتب بعشق وتوحد وذوبان، وهذا ما يشكل الفارق بين روايات متوهجة ونابضة بالحياة وأخرى باهتة. بالنسبة لشخوص الرواية في العادة هناك شخصيات أساسية يقوم عليها النص تكون حاضرة من البداية، ومع تقدم السرد تظهر شخصيات أخرى لم يكن مخطط لها، ولكن وجودها يحرك السرد نحو محطات أخرى مهمة.  

ــــ هل تؤمن عائشة إبراهيم بمفهوم الرواية النسوية وهل ترى أن المرأة الليبية استطاعت أن تخترق كل الظروف لتقديم رواية تفضح كل العقد الاجتماعية والسياسية والتي تتعارض مع حقوق المرأة؟

– ربما أكون متطرفة في رأيي قليلاً إذا قلت إن السرد في أصله كان نسوياً، منذ أن كانت المرأة ومنذ فجر الإنسانية، تسرد الحكايات حول حفرة النار عند مدخل الكهف لتسامر العائلة الخائفة حتى يدركها النوم، اكتشاف الحكي كان لدى القبيلة البدائية مثل اكتشاف النار، فالنار أضاءت الكهوف المظلمة، والحكي أضاء الخيال وأشعل جذوة التفكير الذي قاد إلى الابتكار، فأخرج الإنسان من حياته الكهفية إلى المدنية المتطورة، ومازالت الأمهات والجدات إلى اليوم هن الحكاءات اللاتي يزرعن بذرة الخيال الأولى في الأطفال، وكتّاب الرواية الضالعون جميعهم عرفوا مفهوم القص من حكايات الأمهات والجدات منذ طفولتهم الأولى، وكل الحكايات القديمة والقصص الشعبية المنقولة في التراث المحلي منقولة من حكايات النساء، من هذه الحكايات تطور فن القص ليتحول إلى السرد بمفهومه الحديث وانبثقت أجناسه الأدبية من القصة والقصة القصيرة والرواية.

أنا هنا حين أشير إلى أقدم تأصيل لفن القص، أريد أن أقول بأن رأيي في مصطلح (السرد النسوي) ربما يكون فيه بعض (التقزيم) لتجربة المرأة، كأنه بذلك  فرع من الأصل، بعد أن كان هو الأصل نفسه،  لذلك عندما أتعامل مع مفهوم السرد النسوي فهو بالنسبة لي يحمل التعبير البسيط وليس المركب، أي أنه السرد الذي كتب بأقلام نسائية، وليس السرد الذي يتناول عوالم المرأة أو يحلل كينونتها كأنها مخلوق من الدرجة الثانية، ففي الحالة الأولى (التعبير البسيط) هو تصنيف شكلي تماما كما نقول هذه بدلة نسائية وهذه بدلة رجالية، أما في الحالة الثانية (المركب) فهو تصنيف مجازي يستبعد المرأة من تجربة السرد الإنساني عامة التي يشترك فيها الرجل والمرأة، ليضعها في نطاق ضيق يحد من أفق أثرها الإبداعي في تطور الحياة. 

وفيما يخص الشق الثاني من السؤال، أظن أنه لم يستطع لا الرجل ولا المرأة اختراق كل الظروف لتقديم رواية تفضح كل العقد الاجتماعية والسياسية والتي تتعارض مع الحقوق الإنسانية عامة للرجل والمرأة.

المرأة قطعت شوطاً طويلاً في تأسيس تجربتها الإبداعية، وتكتب في جميع الموضوعات، السياسة والمجتمع والتاريخ والفلسفة والفنتازيا والعوالم النفسية، وفي كثير من الأحيان يصعب تمييز الرواية إذا كان من كتبها رجل أو امرأة، لكن الشيء الفارق الذي يحسب للمرأة، أن روايتها- التي لا تقل جمالية وعمقاً وإمتاعاً عن رواية الرجل- تكتبها في ظروف أكثر صعوبة، وتناور في مساحات ضيقة من الحريات مقارنة بتلك المتاحة للرجل ومع ذلك تأتي متوازية مع المنجز الذي يحققه الرجل.

مقالات ذات علاقة

محمد الدنقلي لصحيفة فسانيا: نحن نريد أن نقول عصرنا

المشرف العام

أنيس البرعصي لن يتمكن من حضور حفل التكريم لعدم امتلاكه جواز سفر

المشرف العام

الأوجلي: تركونا نتشاجر كأطفال في مخزن خزف

محمد الأصفر

اترك تعليق