الذكرى الثلاثون لرحيل الكاتب الليبي سعيد المحروق
في بداية الامر، كنت أظن أن المشكلة برمتها (أعني مشكلتي) تكمن خلف أنفى، هذا الافطس، وشفاهي، هذه المتدلية الغليظة الكريهة.
كنت أظن أنني بمجرد تخلصي من هذين المظهرين الكريهين يمكن أن أكون مقبولا عند أهل جيرتي، ومن يدرى؟ لعلي أتوقف عن الغناء بمجرد (إصلاحي) لهذا الأنف الأفطس، المشين، وهذه الشفاه الغليظة القبيحة.
وبالفعل، لم تأخذ منى المسألة وقتا طويلا من التفكير: إذ سرعان ما اتممت عمليات (إصلاحي)، وتجميلي.
أصبح لدى أنف كتلك الانوف الجميلة الشهاء، تلك الانوف التي يتمتع بها أصدقائي – سادتي البيض، بل ربما أجمل قليلا، أما شفاهي، فقد أجريت لها عملية تقليم، وما زلت أقلمها وأرققها حتى لم تعد تختلف عن شفاه الإنسان الأبيض. لكنني.. ولدهشتي، وجدت أن هذا الأنف (الواقف) قد زاد في رغبتي في الغناء، منخراه اتسعا.. وأصبح الهواء فيهما يجول، ويلف، ويصول أكثر مما كان، أما شفتاي، فلانهما أصبحتا رقيقتين، خفيفتين، فقد اصبحتا أكثر استجابة للانتشار.
وهكذا.. وجدت طربي، وشعرى قد ازداد.. وازداد ضيق الجيران بازدياد إيقاعاتي، وصخبي!
أحدهم.. تقدم إلي، وقال:
– ربما السر لا يكمن في الانف أو الشفاه.
قلت: يكمن فيم اذن؟
لم يلبث أن أشار الى جسدي، وقال:
– انه يكمن في لون بشرتك.
جائز، (… )، أنا جاهز لعمل أي شيء حتى لا أسبب ضيقا لاحد، إنما كيف أستطيع أن أبدل لونى؟ أأصبغ بشرتي بلون أبيض؟ هل أقدر أن أطلى هذا الجسد بالقصدير مثلا؟ أنا مستعد لعمل أي شيء.. لكن هل أستطيع أن أتوقف عن الغناء؟ كنت أفكر في كل ذلك وأنا أرقص.
في يوم ما اهتديت إلى طريقة أبدل بها لون بشرتي! لا أريد أن أروى التفاصيل، حتى لا يقلدني أحد من أبناء جلدتي.. المهم، أنني -بطريقة ما- سلخت جلدي، وارتديت لي بشرة نبيلة بيضاء.
حمدا للرب في سماه!
الآن توفرت لدى كل مؤهلات الأحرار!
أنف وشفاه على طراز ابن آدم الأبيض، بشرة ذات لون أبيض كأنه الحليب… بكل ذلك لن يعود أحد يقوى على تمييزي.. فأنا (أبيض) بين أهل جيرتي البيض.
لكنني.. لم أكن أعلم أنني، بذلك الصنيع، قد تحولت.. إلى أول زنجي أبيض في التاريخ.. لأنني.. مازلت ارقص وأغنى، أرقص وأغنى..
قالوا لي:
– لا يكمن السر في أنفك، لا يكمن في شفاهك، وليس في لون بشرتك. إن السر يكمن في دمك.
هذه المرة، لم يركبوني مركبا صعبا. فما دام السر لم يعد في خياشيم أنفى الإفريقي، ولا في شفاهي الغليظة الزنجية، أو في سواد بشرتي الشمسية ٠٠٠ لم يبق إلا الدماء.
وها أنا ذا مستعد أن أضحى حق بهذه الدماء، لو أستطيع أن أريح الآخرين.
نعم، أنا مستعد لسفح دمى، هذا الدم، الذى هو لا محالة لا يزال دما أسود أسود، مختفيا وراء بشرتي هذه البيضاء.
في مصرف الدم (بنك الدم سابقا)، ذلك المجاور للحى الذى أقطن، أخذوا ذراعي اليسرى، وغرزوا فيها إبرة. الإبرة ثابتة في أنبوبة. الأنبوبة ثابتة في برميل يحتوى على دم إنسان أبيض. ذراعي اليمنى، هي الأخرى، مغروزة فيها إبرة متصلة بحنفية.
حينما فتحوا الحنفية، تقاطر دمى في برميل النفايات. كان دما أسود أسود. فيما أخذ الدم الأبيض يتدفق عبر أوعيتي ويشق طريقه للقلب… كانت عملية بسيطة: تفريغ وشحن، هكذا وأنا مستلق، أستمتع بسفح دمي، قطرة قطرة.. قطرة في صندوق النفايات.
لكنني..
ما زلت زنجيا أبيض!
ليلة ذلك اليوم لم أغن، كعادتي، بل أقمت مهرجانا.
لم تزدد حيرة جيراني فحسب، بل ازدادت حيرتي أكثر.
أحيانا أقف أمام المرآة أتأمل ملامحي. بماذا أختلف عنهم؟ أتساءل هكذا، وأنا أتفحص هذا الوجه الجديد، ذا الأنف الأدونيسى الجميل، ذا الشفاه العذبة الرقيقة، أتأمل هذه البشرة البيضاء الملساء… واسأل مرة أخرى: لماذا يتضايق الجيران من غنائي؟ وما الذى أقدر أن أفعل من أجلهم حتى أكسب رضاهم؟
في الحق، أنا أيضا لم أعد أرضى عن نفسى.
فلقد ازداد تعلقي بالغناء، والرقص، والشعر. بل إنني لم أعد أقوى على الوقوف ثابتا بدون أن أترنح كالثمل، أو أتمايل كالدرويش، أحيانا أتحامل على نفسى فأستعين بأيما شيء، أشده، أستنجده لكي أكتم أنفاس هذه الحركات… لكن.. بدون جدوى، حتى كلامي لم يعد كلاما، لقد تحول إلى نوع من الغناء٠.. غناء؟ شعر؟ موسيقى؟ هكذا يتساءل الآخرون، يظنون أنني بهذه الايقاعات أسخر منهم، أولا أبالي بهم، كل ذلك زاد في ضيقهم مني، كما ازددت تضايقا من نفسى.. لكن، ما الذى أستطيع أن أصنع؟
ذات نهار أو ذات ليل، كالعادة، لم يبخلوا عنى في الاجابة، قالوا بان علق الجوهرية تكمن في قلبي.
لم أسطع أن أفقه معنى الكلمة (القلب). كانت هذه هي المرة الاولى التي أسمع فيها أن هناك شيئا بين ضلوعي اسمه (قلب)، قبل هذه المرة، كنت أظن أن جسدي هذا، قد خلق هكذا في إهاب واحد، مجرد كتلة بين الكتل.
أمعنت في التفكير عبر كريات الدم البيضاء: ما دامت سائر أعضائي التي أراها جيدا، قبيحة، فلماذا لا يكون قلبي بدوره، منكرا وقبيحا؟ ولماذا لا أسعى إلى تغيير هذه العضلة السخيفة ما وسعتني الحيلة؟ ولماذا لا أسعى إلى ذلك عسى أن أظفر برضا جيرتي، وأصدقائي؟ صحيح، أنا الآن إنسان أبيض لكنني ما دمت قد أدمنت هذا الداء اللعين، الشعر والغناء، فلست سوى زنجي (أبيض).
لم أعدم الحيلة. لحسن حظى، كان أحد جيراني على وشك الموت فتبرع لي بقلبه. نزع الطبيب قلبي الذى عرفته بسهولة، لقد كان أسود بلون الليل، ووضع بين ضلوعي قلب ذلك الجار الأبيض كنت قد توقعت في البداية، أن جسدي قد يرفض او يطرد هذا الجسم الغريب، بناء على معلوماتي الطبية، لكن يبدو أن جسدي، على استعداد لقبول أي شيء، إذ سرعان ما انتظمت الدقات في شراييني وأوردتي، ثم ما لبثت أن تحولت هذه الدقات الى إيقاعات… خافتة في البداية، ثم أخذت تتصاعد حتى وصلت الى سائر أعضائي… الأمر الذى جعلني في قاعة العمليات، أرقص وأغنى… وأقول شيئا شبيها بالشعر..
(حكاية الزنجي الأبيض)، سعيد المحروق، العدد: 77، 1 سبتمبر 1987م، ص: 90 -93.