على طول الزقاق تجمع رجال وأطفال يتطاولون بأعناقهم يقفون على رؤوس أصابعهم علهم يلمحون شيئا، أصوات تنوعت طبقاتها تمتزج وتنصهر فتستحيل الى صرخة تبعث الرعب في القلب، رجل يختبئ داخل – جرد – رقيق أبيض. عينان كعيون الأطفال، يتحرك ببطء تحت ثقل جسمه الضخم المكور يحاول أن يسمع صوته الاخرين – لازم تطلع من الشارع – وتعلقت به العيون وكأنما هو خيط الرجاء، تركوا ممرا بينهم فأصبح وكأنه قائد منتصر يتفقد جنوده – هذا الحاج حسن، همست بالكلمات بعض الشفاه وطواها الصمت… طفل يهمس في أذن زميله – حق خالتي مريومة ؟ الزقاق تغرقه رائحة أوعية الفضلات المتناثرة أمام البيوت – الأجساد تتصادم والأيدي. تتحرك وتدفع من أمامها وخلفها، تلتقى العيون لحظة ثم تفر من بعضها تحاول أن تخفى كوامنها الباب بلونه الاخضر الشديد الخضرة والمطلي حديثا مغلق – تتحول العيون كل العيون الى نهاية الزقاق يمزقها شوق مدمر، رجل يظهر من خلف المنعطف يندفع نحوهم وجسمه الصغير يهتز بخفة متناهية – السيارة جاية وراى… مشيتهم بنفسي – ويعيد الجملة أكثر من مرة فيقتربون منه وكأنهم، يترقبون الخبر الذي انتظروه طيلة حياتهم إلا أنه لسبب أو لآخر يبتعد عنهم وفي أعماقه تحترق أحاسيس لا يستطيع الإفصاح عنها، رجال أخرون وأطفال يكتسحون الزقاق يسألون رفاقهم عن أشياء يعرفها الكبار، بعض أبواب الزقاق تنفرج قليلا وتطل منها وجوه تختلس نظرات خاطفة وتتراجع في سرعة مذهلة وكأنما تحتمى من رصاصة انطلقت فجأة، الزمن يمضي متثاقلا، متوترا قابضا، أحد الاطفال يمر من بين الرجال ويقترب من الباب الاخضر ويلقى بحجر تضمه يده الصغيرة فيصطدم بالباب ويترك نقطة بيضاء على طلائه ويرتد متدحرجا بين الاقدام – واندفع أكثر من رجل عندما صدرت حركة وراء الباب وتلاشت كراب اثارت الحاج حسن فاندفع كالعاصفة وصوته يتابع ضربات يده العنيفة على الباب في أيقاع منتظم – مريومة.. مريومة.. مر.. يو.. مة.. وضحك بعضهم فتوقف ملوحا بيده في غضب كما لو كان يقول لهم – لتخرجوها أنتم اذن٠.. ؟ – وانسحب متراجعا وفي صدره تضطرم: انفعالات محرقة تجعل قدميه لا تستقران في مكان وفي اعماقه أشياء يود لو يبوح بها ولخوفه منهم يحاول أن يبعدها عن تفكيره، كذلك في أعماقه أشياء يود لو يخفيها الا انها تغمره كموجة شتاء عارمة تظهر في عينيه ولكن احدا لم يهتم بالنظر فيهما، ذكريات قريبة حدثت بالأمس يسترجعها فيحس بنبضات قلبه تتوقف، ويغمره شعور بالكراهية لكل الذين حوله ترتعش شفتاه كمن يوشك أن يصرخ ويندفع نحو الباب الاخضر ويضربه بقدمه فيتألم ويضرب بكف يده فيتألم أيضا ويصرخ في الملتفين حوله بصوت كريه أجش (كسروا الباب) ويخرج الحرفان الاخيران من الكلمات اشبه بالأنين الا انه لم يكد يكتشف أن الرجل الواقف بجانبه هو مصباح حتى يصرخ في وجهه وهو يدفعه بكلتا يديه (هدى جارتك طلعها شن تراجي) ويستسلم مصباح ويتقدم وعندما يصبح مواجها للباب يتوقف وكأنما هناك قوة خفية تشل منه الحركة. أحس بالعيون تصفعه – خيل اليه أن هاوية سحيقة تطبق عليه من كل جانب فيتمنى لو يعود او يختفى لكن الاجساد تضع أمامه وخلفه سورا بشريا متماسكا لا سبيل لاجتيازه… فقط لو يبقى الباب موصدا… ماذا سيفعل لو خرجت وواجهته بعينيها اللتين طالما تغزل بهما شباب الشارع بل وبعض شيوخه… يستحيل عليه أن يختفى قبل أن تأتي – السيارة – انه يعرف ما سيفعلون سيحطمون بابها ويخرجونها بالقوة سيضربونها واستدار مرة أخرى وهو مصمم على أن يختفي. استجمع قوته وحاول دفع الاجساد الا انه بمجرد ان قام بمحاولته حتى دفعته يدان قويتان كادتا تلقيان به على الباب الأخضر أوين ماشي؟ (ولم يتكلم كذلك لم يتقدم… لم يكن يريد الخروج من بيته ولكنه عندما سمع اسمه يردده بعضهم خرج.
ولم يعد يستطيع العودة ولم يدر كيف وجد نفسه كتفا للكتف مع الحاج، صمت يخيم على المتربصين (توكده أصوات الاطفال لم يعد هناك موضع لقدم غاب الباب الاخضر خلف الاجساد – السيارة باين مش جاية كسروا الباب- اهتزت كل ذرة من جسمه هل سينفذون وعيدهم والتفت نحو الحاج حسن الذي صرخ بالكلمات وانتظر جوابهم.. قام بمحاولة أخرى للإفلات إلا أن أحدهم سد في وجهه الطريق؟ وين ماشي هادي جارتك طلعها انت (وارتعشت يداه كأنما يوشك أن يصفع الحاج الا أن شيئا من ذلك لم يحدث… ومرت أمام عينيه صور شتى من ماض قريب… تذكر خصوماته مع زوجته عندما تكررت زيارات مريومة لها، تذكر الليالي الحزينة السوداء التي مرت عليها بعد موت زوجها تذكر اليوم الذي جاءه فيه الحاج وطلب منه الابتعاد عنها – تذكر اشياء أخرى محسوبة عليه… في مكتب شيخ الشارع في دكان ابراهيم في المخبز يتحدثون ويصفون لياليه معها… بل وصل بسالم الى أن اختبأ خلف الناصية الى ساعة متأخرة عدة ليالي يراقبه – ومرت لحظات لم يدر ماذا يفعل خلالها – عندما خرج أكد لزوجته أن غيابه لن يطول… قبل شهر قضت أكثر من : اسبوع في (حوش بوها) بعد أن استطاعت زوجة الحاج ان تقنعها انه يلتقي مع مريومة في مكان ما بعيد عن الشارع (كسروا الباب) وسرت الكلمات بينهم واقتربوا من الباب وللحظة داهمه احساس بالخوف وازدادت ضربات قلبه (البارح عياد شبح راجل طالع من حوشها) ماذا سيفعل هل سيهرب ؟ والتفت يمينا وشمالا ورأى العيون تطلق سهامها تجرده من ملابسه وانتشرت همهمات بينهم كأنما ملوا الانتظار (مريومة) اطلقه احدهم نداء طويلا يحمل غضبا ليس له نهاية وذاب الصوت في الفراغ الا ان الحاج كمن استيقظ لتوه من النوم انتفض وجمع أطراف جرده الذي عبثت به الريح فكاد ينفصل عنه وتقدم وابتعد مصباح قليلا وأسئلة حيرى تقربه وتبعده عنها، رغم كل شيء فلن يدعهم يحطمون بابها.
وتطاول قدر استطاعته ينظر بعينيه الى باب منزله وكأنما يخشى أن ينفلت زمامهم ويستديرون نحوه – غاب هو ايضا اختفى (اكسروا الباب السيارة مش جاية) وتدافعت الاجساد وتقاربت حتى أصبحت جسدا واحدا ولوح الحاج بيده في وجه مصباح يبعده عن طريقه الا انه في اللحظة التي كاد يوشك فيها أن ينادي على مريومة مرة أخرى توقف وكأنما انغرس في الارض ولم يلاحظ واحد منهم الرعب الذي ارتسم في عينيه ويداه تبحثان عن شيء ما في جيوب (فرملته) ودفعة واحدة تذكر الليلة الماضية دقيقة بدقيقة ولحظة لحظة تذكر كل شيء، اختفاءه في المسجد بعد صلاة العشاء… زوجته وهي تسأله وين كنت – الطفل الذي أرسله الى بيتها ليطمئن على وجودها لقاءه مع عياد وهو يسأله (وين كنت يا عمي الحاج) ثم تردده عندما وجد نفسه أمام الباب… انتظاره….٠
خوفه ترقبه شوقه وحنينه اليها… تذكر ليالي طويلة عذبته خلالها احاسيس كادت تدفعه احيانا الى الانفصال عن زوجته… الليلة الماضية يتمنى ان تزول من عمر الزمن… العيون ترقبه – أخذ خطوة الى الوراء… غاب الطريق والزقاق والسماء ٠.٠
كل شيء – التراجع اصبح مستحيلا هل سيستطيع الصمود عندما تخرج؟ ودعا من كل قلبه أن يبقي الباب موصدا. وامتدت يداه مرة أخرى تعبثان في جميع ثنايا ملابسة، قد تكون سقطت من يده وتعلقت بأحد خيوط جرده وفحص بعينيه موضع قدميه… تزاحمت الرؤى أمام نظره ولم يعد يميز بين لحظة الامس ولحظة اليوم الباب الاخضر العينان… مصباح… الفراش… جيرانه… زوجته.
الجسد الابيض المتفجر… ليالي الانتظار… تفاحة آدم… العيون التي لاحظت… ارتباكه، وبدأت إترقبه وتنتظر منه أنَ يفعل شيئا، كل هذا يجعل رأسه يدور ويدور فيحس انه يسقط ويبقى معلقا في الفضاء، سيتراجع بأي ثمن سيختفي، ليس في مقدوره أن يواجه ما سيحدث عندما ينفتح الباب الاخضر كيف امكنه أن ينساها لماذا لم يتذكرها الا هذه اللحظة أين كان تفكيره كيف لم يتفقدها عندما انتهى من صلاة العصر؟
لم تكن تفارقه قبل ذلك أبدا… حتى في مناعة… كان يضعها تحت رأسه… كيف لم تلاحظ زوجته اختفاءها؟ قبل لحظات كان يندفع نحو الباب ويدفع مصباح أمامه والان يتمنى أن يبتعد مصباح أيضاء.. سيعود. سيضرب من يقف في طريقه وحاول أن يشق له سبيل (حاج ؟وين ماشي؟ تردد السؤال وبعنف… قبل أن يحدث أي شيء أخر… بدا الباب الأخضر ينفرج ببطء. وظهرت مريومة وتعلقت بها العيون.. إلا عينين، الصمت – لا حركة… لا همسة… وقفت على عتبة الباب ترميهم بنظرات فاحصة وكأنها تبحث عن شيء معين وعندما اصطادت عيناها الحاج حسن الذي كان يحاول الاختفاء بين الاجساد… اتجهت نحوه ورأى الجميع مسبحة من العاج تتلألأ تلف بها معصمها ثم قضمها في كفها الابيض وكأنما تخشى أن تسقط منها. وكاد كل واحد منهم أن يسأل زميله عن سرها الا أنه ولسبب ما يتراجع واقتربت اكثر من الحاج. للحظة تصبح دهورا. وهو يرى يدها تهتز وتتلاعب بالمسبحة كأنها توشك أن ترميها في وجهه… تقترب حتى تصبح ملاصقة له لصورة ليست متوقعة (حاج حسن؟؟؟؟) وخرجت الكلمات من فمها تهزه بعنف حاول أن ينظر اليها، لكن عينيه بقيتا مسبلتين في خشوع وارتفعت يدها بالمسبحة وقربتها من وجهه وكأنما تذكره بأحداث الليلة الماضية… الا إنها في اللحظة التالية تراجعت خطوة الى الخلف وأخذت طريقها بينهم مبتعدة واختفت خلف المنحنى، وبقي الباب الاخضر مفتوحا.
مجلة الثقافة | الباب الأخضر- قصة، يوسف الشريف، العدد: 3-4، 1 مارس 1982م، ص: 86-88.