لا شيء يبلل ظمأ الطين سوى المطر…
هكذا كانت تهمسُ(راضية) في أذُنِ أبيها، وهي تدري أنها تحاول يائسة رفع لثغة الوجع عن قلبه العجوز الحزين، هي الحياة لا شيء يذكرنا بها سوى الموت، لها عتباتٌ ضامرة لا يهدمها سوى النسيان، تطوينا بكفها على عجل ولنا أن نتخير ظلام الرحيل على أجنحة القمر، نبحر تاركين خلفنا أحلاماً ورُؤىً صغيرة وفرح يسير، وفي غمرة كل هذا وذاك نختم وصيتنا بوجع الطين.
كستهُ الوحشة ريش العشق، وهو الوارث الوحيد لشهوة الظمأ، كان مُراً مذاقها في الغياب، كمن ظل يختصر مصير الفرح في ضحكاتٍ طاعنةٍ خجولة، وهو يتهجى وجه هذا الغيب بصرخاتٍ يائسة عمياء، كان ينظر من شرفة الليل وهو يتمتم، أنا لا أحاسبك أيها الموت ولكني خجلٌ من مراكبنا التي تركتك تمر دون أن تفصل لك أقمشة سوداء تليق بك لتخيط شراعك وترحل في تابوتك إلى العدم، هكذا كان يشطح شارداً… كلا لستُ هنا لأحاسبك أيها الموت.
منذ أن أحتبس العطر ليلة الفقد الرجيم، أبصر وردته تذبل أمام عينيه، حط غراب الحزن عليه وظل يأكل من قلبه، وهو يصرخ في المدى من كسر ظل وردتي ؟ وسرق مني عطرها ! غدا عارياً وحيداً غريباً بعدها، وهي الهاتفة بالشمس تغزل عودتها مع كل فجر بهيج رحيم، لا شيء سوى الرحيل كان يلوح له بإصبعه ساخراً من مراثيه، وهو من راهن الموت ذات شتاء على طفلته الحبيبة، بأنها ستظل وإلى آخر النزف موسيقاه وأغانيه كما الفراشات تفتح نوافذها للربيع، كان يُخفي دمعته كطفلٍ يتيم أخرسه نشيد البكاء، حين غطى قنديله نهم الظلام، ظل ينظر إليها بقلبٍ عجوز وبينهما وجعٌ ورحيل بدأ يجوس بأنفاسه البغيضة اللامتناهية في حدائق تزينت ذات ربيع بعطرها، وها هي الآن تطاردها خفافيش رمادية تحبو من رحم الظلام لتنهش آخر نفسٍ لها، اقترب منها بحنو الأب على طفله الجريح وله في قلبِها مزارٌ وبستان من الياسمين ينام ويستيقظ معها كل صباح، اخذ يسرد على مسمعها بعض قصائده التي كانت تحبها وأجملها ترنيمة البحر تلك القصيدة التي كان لها وقع خاص في قلبها، كانت تترنم وهي حبيسة المرض ورغم كل شيء استمرت تردد على مسمع أبيها أجمل أشعاره وهي تسبح معه في ملكوت الشعر، وهو من كان رفيق الخيام* قبل أن يشرب نخب عودته من المنفى، أشبه بذئبٍ عجوز أتعبه رجع العواء في وجه الريح، ظل هكذا قرابة عامٍ يرممُ نزف الغياب الأليم من وجعٍ بات يأخذه من منفى إلى منفى، وكلما أراد أن يخلو إلى السكينة أضأت النار جرحها الذي ظل يصهل بداخله منذ يوم رحيلها، هي فلذة كبدهِ أنيسةُ المزامير في ليلِ شتائه البائس الطويل، حارسةُ ظلهِ من وحشة العتمة، عصفورتهُ رفيقة السنابل المضيئة، وحيدتهُ، أُمهُ الرؤوم وإن تنكرت له البيادر، لم يدر في خلده أنها ستفارقه وهو الذي مازال يغني باسمها في كل صباحٍ ومساء، ينتظر بفارغ الصبر نجاحها وهي تاج الفرح ونجمة الدار، أدعيةُ البلابل وزقزقة الفجر الطروب، لم يعد يذكر بعدها شيء سوى طيفها الجميل، قبل أن يقرأ الغيب سقوط الشمس من كفِها، ظل هكذا يفتقِدُها في كل شيء، كما القصيد جامداً في حنجرته النازفة من الوجع، بدأ يصرخ في وجه الليل لعله يصير صداه إليها.
هاتفاً:
رفقاً بنا أيها الموت… هي طفلتي بعضاً مني… أعدها يا إلهي إلي ولو نفساً أخير أقبلُ يدها ولي في قلبها فرحٌ يقيني من وحشة الغياب، فو الله ما متُ بعدها إلا لكي أبصرني حياً في مداها.
* غِيَاث الدِّين أبو الْفُتُوح عُمَر بن إِبْرَاهِيْم بن صّالحَ الخَيّام النَيْسَابُوْرِيْ المعروف باسم عُمَر الخَيّام عالم فلك ورياضيات وفيلسوف وشاعر فارسي مسلم، ويذهب البعض إلى أنه من أصول عربية، وُلِدَ في مدينة نيسابور، خراسان، إيران ما بين 1038 و1048 م، وتوفي فيها ما بين 1123 و1124 م، وهو بعمر 83 عامًا.
مفتاح البركي / ليبيا