صدرت في ليبيا العديد من الكتب التي تناولت المسرح وتوثيق بعض أحداثه التاريخية وسير رواده، ونقد نصوصه وتقنياته الإخراجية والفنية وغيرها من المواضيع، وكان من أبرزها كتاب (الفن والمسرح في ليبيا) للراحل بشير عريبي، و(تاريخ المسرح في الجماهيرية) للكاتب المهدي أبوقرين، و(بعد أن ترفع الستارة) للناقد الراحل سليمان كشلاف، و(تاريخ المسرح في مصراته) للأستاذ علي رشوان، و(مسرحيات بين النقد والتحليل) للأستاذ أحمد بشير عزيز، و(آفاق مسرحية) للأستاذ عبدالله هويدي، وكتاب (المسرح الليبي في العهد العثماني الثاني 1835-1912) للأستاذ البوصيري عبدالله وكذلك متابعته التاريخية حول (المسرح في ليبيا) ضمن سلسلة المختصر المفيد في المسرح العربي الجديد، الصادرة عن الهيئة العربية للمسرح، وثلاثية (مدونة المسرح الليبي) للدكتور عبدالله مليطان، وكتاب (ليبيا مائة عام من المسرح 1908-2008م) للفنان نوري عبدالدائم، وكتاب (العاشق: رحلة العمر عبر الثقافة والإعلام والإذاعات) للأستاذ الراحل إبراهيم العريبي، وغيرها من الإصدارات الأخرى التي وفرت معلومات مهمة، وتناولت العديد من الجوانب المتعلقة بالمسرح وتاريخه وأهم مسرحياته وفنانيه.
ولكن تظل كل تلك الأعمال رغم قيمة ووفرة المعلومات التي قدمتها للحركة المسرحية في ليبيا، بعيدة عن الكتابة الأكاديمية المتخصصة، أو الدراسة البحثية الدقيقة والمتابعة التاريخية المتسلسلة، ولذلك فإن كتاب (تاريخ المسرح في ليبيا وارتباطه بالتغير الاجتماعي) الصادر عن دار الرواد بطرابلس للدكتور حسن قرفال، والذي يتناول المسرح الليبي ودوره الاجتماعي خلال الفترة من 1911م إلى 1977م يعد بحثاً متميزاً عن كل تلك الإصدارات التي سبقته لأنه اعتمد منهجية أكاديمية علمية كما أشار الدكتور حسن قرفال بقوله (يعتبر هذا الموضوع حقلاً بكراً لم يحظ من قبل بأي دراسة أكاديمية)، وقد أنجزت هذه الدراسة بإشراف الدكتور حسن المنيعي أحد الكفاءات الجامعية القديرة في المغرب والذي منحه مجايلوه لقب “أستاذ الأجيال”.
وحتى إن تأخر صدور هذا الكتاب كثيراً، لأنه أعد كأطروحة جامعية خلال تسعينيات القرن الماضي أي منذ أكثر من ثلاثين عاماً، إلاّ أن ذلك لا يفقده قيمته المعرفية، ولا يقلل من أهميته كإضافة للمكتبة الفنية والأكاديمية في ليبيا، فالجهد الذي بذله الباحث المسرحي الأستاذ حسن قرفال في أطروحته لنيل الدرجة الجامعية يعداً مثابرة عظيمة تمثلت في تسجيلات حصرية أجراها خلال سنوات 1993م إلى 1998م مع خمسة وعشرين شخصية مسرحية ليبية من بينها: مصطفى العجيلي، محمد شرف الدين، مختار الأسود، مصطفى الأمير، فؤاد الكعبازي، سعيد السراج، رجب العقوري، علي بوجناح، منصور سرقيوه، علي الخمسي، عمران راغب المدنيني، منصور فنوش. كما طالع ما نشرته الصحف الليبية عن المسرح، بدايةً من أعداد صحيفة “الترقي” سنة 1911م وحتى صحيفة “الأسبوع الثقافي” سنة 1977م، إضافة إلى الكتب والمراجع المتخصصة العربية والأجنبية.
وعند قراءة عنوان الكتاب والتعرف على مجال الدراسة البحثية الزمني (1911-1977م) يمكن للقاريء أن يتسأل: هل كان لدينا مسرح ومسرحيون وفرق مسرحية في ليبيا سنة 1911م؟ ولماذا اختار الباحث هذه الفترة الزمنية؟ ولكن سرعان ما يكشف لنا الباحث ذلك بقوله (اخترتُ الفترة التاريخية الواقعة بين 1911 و1977 لاعتقادي بأن هذه المرحلة كانت تضم بين طياتها أحداثاً هامةً على الأصعدة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية أثرت تأثيراً مباشراً على المجتمع الليبي والحركة الفنية فيه). كما نلاحظ من خلال فصول الكتاب أن الفنان حسن قرفال يذهب بعيداً إلى ما وراء سنة 1911م حين يعتبر أن العديد من المظاهر الاجتماعية والدينية ومناسباتها الاحتفائية تتشكل في حياتنا اليومية كعروض مسرحية بجميع ما فيها من طرب ورقص وألعاب وفنون وتقليد مثل “القره قوز” و”الشيشباني” و”البوسعدية” والراوي “الحكواتي” و”أمك طنبو” ورقصة “الكاسكا” و”الغزال” وحلقات الحزب والذكر والفنون الصوفية بالزوايا العيساوية وغيرها حين تنتظم بالمدن الليبية بمناسبة إحياء ذكرى المولد النبوي الشريف أو غيرها، إضافة إلى إشاراته وتوثيقه لزيارات الفرق المسرحية العربية والأجنبية لليبيا التي قدمت عروضاً نقلت من خلالها حب المسرح وتولدت منها إرهاصات بدايات تكوين المسرح الليبي ونواة تأسيسه.
وفي مقدمة الكتاب يؤكد مؤلفه الدكتور حسن قرفال على أهمية المسرح ودوره في الحياة الاجتماعية فيقول (إنَّ للمسرح أهمية كبرى في تشكيل مسيرة الأمم، فتاريخه وخطورته في الأمة من الأمم مقياس حضاري ومسبار اجتماعي، وطبيعة المجتمع العربي ونوعه وألوان المسرحيات التي ظهرت عليه حقائق تاريخية وحضارية يستفيد منها المؤرخ والباحث الاجتماعي الذي يتعرض لدراسة هذه الفترة)10 ويضيف (إنَّ المسرح في تصوري ليس شيئاً هامشياً، كما يدعي بعض أصحاب القرار السياسي، وإنما هو عنصر فاعل ومؤثر في تنمية المدارك داخل المجتمع، بل هو عصب سياسي في حركة التنمية الثقافية.) 10
وتضمن كتاب (تاريخ المسرح في ليبيا وارتباطه بالتغير الاجتماعي) ستة فصول جاء الأول بعنوان (التقليد المسرحي في ليبيا) وتتبع فيه الكاتب التظاهرات الفنية ذات الطابع الاجتماعي مثل الراوي، والقره قوز، والشيشباني، والبوسعيدة، وامك طنبو، وكذلك الرقصات الشعبية مثل (الكاسكا) و(الغزال) برشاقة حركاتها التعبيرية ودلالاتها الموضوعية. ثم التظاهرات ذات الطابع الديني التي زخرت بطقوسها الخاصة في تلاوة الحزب وأناشيد الذكر والفن بالزوايا العيساوية.
أما الفصل الثاني فقد اختار له عنوان (المسرح الليبي 1911-1944) وتتبع فيه الفرق الفنية الغنائية والمسرحية الوافدة من الدول العربية والأجنبية وتأثير عروضها على الحركة الفنية في ليبيا بصورة عامة والمسرحية خاصةً. كما تطرق إلى السياسة الحكومية المتبعة لتطور المسرح الليبي وأثرها في الحركة الفنية الليبية، وكذلك تناول بعض الجوانب التقنية مثل الإخراج والتشخيص والديكور والإشهار وقضية الجمهور والممثلين، والنقد المسرحي الذي أكد أهميته في تحليل العناصر المسرحية كافةً وتطويرها، وأوضح أنه رغم ثراء تلك الفترة الزمنية إلاَّ أن (حركة النقد الفني كادت أن تكون منعدمة، وليس بإمكاننا أن نتحدث عن وجود نقد درامي، أي النقد بمفهومه الحالي، الذي يتتبع العمل الفني ويقيمه من أوجهه المختلفة، ويعكس ثقافة الناقد وعمق إدراكه للمسرح) 89
وتناول الفصل الثالث الذي كان بعنوان (المسرح الليبي من نهاية الحرب العالمية 1944م إلى عشية الاستقلال 1952) جانبين هما الأوضاع العامة في البلاد، الذي يعد تمهيداً شارحاً للأحوال السياسية والاجتماعية في ليبيا خلال تلك الفترة، ثم استعراض بدايات تأسيس الفرق المسرحية عن طريق النوادي، والانطلاق المبكر لعرض المسرحيات مثل (ناكر الجميل) و(غرام وانتقام) وغيرهما في طرابلس، و(ماسح الأحذية) و(الشيخ ابراهيم) في بنغازي.
وفي الفصل الرابع بعنوان (المسرح والتغير الاجتماعي في ليبيا من بداية الاستقلال إلى قيام ثورة الفاتح “1952-1969م”) يتابع الباحث عرضه التوثيقي التاريخي للفرق المسرحية مع عناوين وأسماء لنماذج من بعض مسرحياتها التي عرضتها خلال فترة الدراسة المحددة، مثل الفرقة القومية للتمثيل، والفرقة الوطنية للتمثيل، وفرقة الأمل، وفرقة المسرح الجديد، وفرقة الجيل الصاعد بمدينة طرابلس، وفرقة المسرح الشعبي بمدينة بنغازي، وفرقة هواة التمثيل بمدينة درنة، وفرقة النادي الأهلي بمدينة مصراته. كما تطرق إلى جوانب مهمة عن دور الصحافة الليبية في تنمية الوعي مشيداً بهذا الدور الطليعي بقوله (لقد لعبت الصحافة المكتوبة في ليبيا دوراً رائداً وفاعلاً في تنمية الوعي المسرحي لدى جماهير القراء. ولأول مرة في تاريخ الصحافة الليبية، تخصص صحيفة كصحيفة “طرابلس الغرب” وهي الصحيفة الرسمية، أولى صفحاتها المخصصة أساساً للأخبار السياسية، للإعلان عن قدوم فرقة يوسف وهبي التمثيلية..) 183
واستعرض المؤلف في الفصل الخامس (المسرح الليبي منذ ثورة الفاتح من سبتمبر إلى قيام عصر الجماهير 1970-1977) ما قامت به الثورة الليبية من جهود وإنجازات في مجال المسرح، مبيناً بالجداول الإحصائية زيادة عدد منتسبي الفرق المسرحية حتى وصل إلى 182 عضواً في فرقة “رجب البكوش” في بنغازي، وأعداد الطلبة الموفدين لدراسة التخصصات المسرحية خارج ليبيا، ثم تناول الفرق المسرحية الجديدة التي تأسست بعد 1969 واستعرض ما قامت به من عروض وأعمال مسرحية. ومن بين هذه الفرق فرقتي المسرح الحر، والأنوار بمدينة طرابلس، وفرقتي المسرح الحديث والمسرح العربي بمدينة بنغازي، وفرقة هواة التمثيل بمدينة درنة، إضافة إلى الفرق المسرحية المخضرمة وأعمالها بين 70-77 وهي فرق الجيل الصاعد، والمسرح الليبي، والأمل، الوطنية للتمثيل، والقومية للتمثيل بمدينة طرابلس، وفرقة المسرح الشعبي بمدينة بنغازي.
ويختتم المؤلف فصول كتابه التوثيقي بالفصل السادس الذي جاء بعنوان (الفرق المسرحية التابعة للدولة منذ إنشاءها وحتى 1977) وتناول فيه تأسيس فرق المسرح الوطنية الحكومية التابعة مباشرة لوزارة الإعلام في كل من طرابلس وبنغازي ومصراته ودرنة، والذي جاء وفق استهلاله نتيجة النجاح الجماهيري الذي حققته الفرق الأهلية المسرحية من خلال عروضها التي نالت استقبالاً مشجعاً من الجماهير والمهتمين.
إن كتاب (تاريخ المسرح في ليبيا وارتباطه بالتغير الاجتماعي) للدكتور حسن قرفال يتتبع أحداث الحياة الاجتماعية في ليبيا من خلال واقعها المعاش ومشاهداتها في التمظهرات الاجتماعية أثناء المناسبات كافةً، وحتى انتقالها كنص تقليدي أو إبداعي على الركح المسرحي، وبما يصاحب هذا الرصد الزمني والتتبع الفني لمسيرة المجتمع الليبي من متغيرات سياسية واقتصادية واجتماعية، وبذلك فهو لا يعد كتاباً يسلط الضوء على المسرح الليبي فحسب، بل استطاع أن ينقب في الذاكرة المجتمعية ويستدل بالتوثيقات الصحفية والمراجع المتخصصة والتسجيلات الصوتية الخاصة لاستحضار العديد من الجوانب الحياتية في ليييا ويبحث في علاقة المسرح بها من قبل تأسيسه وحتى نهاية عقد السبعينيات، وفق منهج أكاديمي، لا شك أنه أضاف الكثير للدراسات الخاصة بالمسرح الليبي بوجه خاص وللمكتبة الثقافية بشكل عام، وهذا الكتاب يتطلب قراءة نقدية تخصصية من أهل المسرح لإثراء النقاش حول ما ورد به، وتوسيع دائرة المعرفة عامةً، ودور المجتمع بجميع كياناته في الاهتمام بالمسرح سابقاً، وما هو مطلوب منه حالياً، فهل يفعلون ذلك؟