قراءات

صداقة سرمدية..

كتاب (عيون طرابلسية) للشاعر عمر عبدالدائم
كتاب (عيون طرابلسية) للشاعر عمر عبدالدائم

رغم أنني لستُ من القراء الذي ينهمون الصفحات وراء بعضها لكن لم يأخذ مني كتاب صديقي عمر عبد الدائم وقتاً. انتهيتُ منه سريعاً وفي كل مرة أفكر الكتابة عنه على صفحتي تجدني أؤجل الكتابة لوقت آخر…

هذا الصباح أختلف الأمر، بتٌ ملزماً أن ابارك لصديقي بعيد ميلاده كما أشار لي الفيسبوك، وأستغل فرصة كتابة اسطر عن “عيون” رآى عمر من خلالها طرابلس.

عدتُ بالكتاب معي في آخر زيارة لطرابلس. أهداني إياه، كنت دائماً حين نلتقي ونتحدث في الشأن الثقافي أحسد عمر عبد الدائم على هذه الدماثة والقدرة على جمع أكبر عدد من الأصدقاء، أشعر به كما لو أنه الرجل الممغنط الذي ما إن يلتقي بأحد (ذكراً كان أو أنثى) حتى يسحبه ناحيته. هو واحد من أولئك الذين يحبسون قوتهم في صمتهم.

قلة تلك المرات التي لا نلتقي فيها ساعة أكون في طرابلس، وفي آخر مرة وهو يناولني كتابه قلتُ له مازحاً، أريد أن أقرأ كتاباً آخر في يوم من الأيام يتناول عيون عمر عبد الدائم في طرابلس. لم أكن في الواقع أعني ما أقول لكن مع أول صفحات “عيون طرابلسية” صرت أشعر كما لو أن لسان حالي قال وقتها سننتظر عيون عبد الدائم في هذه المدينة.

أخذت الكتاب معي إلى سمنو، وأخذته إلى الرملة في اليوم التالي بعد عودتي من طرابلس، وفي الطريق إلى مكاني على عرق الرمل الذي يأخذ قرابة نصف ساعة مشياً على الأقدام بقيتُ اطالع غلاف الكتاب وهذه العين الطرابلسية الواسعة، واطالع ظهر الغلاف وهذه الوجوه التي أعرف بعضها ولا أعرف بعضها الآخر، عائشة إبراهيم فاطمة احقيق والدنقلي، محمد المزوغي والبغدادي ثم الرئيس عبد الرحيم الكيب، إبراهيم الإمام، ووجوه أخرى لا أعرفها، تحدث عمر عنهم جميعاً بحميمية وعن بداية العلاقة التي جمعته بهم وجلهم أو كلهم (نستطيع القول) من ذات الشريحة المثقفة ومن نخبة طرابلس، نال الحزن منه كثيراً وهو يكتب عمن رحل منهم، يترحم عليهم ببالغ الأسى، ثم ما يلبث ان ينتقل ليُشعرك والصفحات تتقلب بين يديك كما لو أنك تجوب وتتعرف على طرابلس من خلال هذه العيون…

وكم كانت دهشتي عظيمة معه وهو يفلسف لنا الصورة والصور التي تلتقطها عدسات المصورين على أنها ليست ذكرى عابرة كما نراها، ولا هي تسجيل بارد لمكان أقفرّ، ولا تحسبونها زيارة لملاعب الصبى، لالا، الصورة في مخيلة عمر عبد الدائم حياة أخرى نستعيد فيها طعم ورائحة الزمن. ثم في مكان ما من الكتاب أشار صديقي إلى أنه يفكر في كتاب آخر لأصدقاء آخرين من طرابلس في حين تبادر إلى ذهني سؤال دون مقدمات، وهو ماذا لو ما إن ينتهي من كل أصدقائه في كتابين أو ثلاثة حتى يستحدث لنا صديقاً آخر يحوز على كتاب كبير لوحده، خاصة أن عيون طرابلسية تبدو كعمل لهم وحدهم، بل في كثير من الأحيان تراها كما لو أنها لفتة أو لحظة وفاء لمصادفة جمعته بهم أول مرة، ثم ما تلبث أن تتعزز الصدفة وتتحول إلى زمن سرمدي صديق قد لا ينتهي حتى بعد أن تنتهي الدنيا (بعد عمر طويل إن شاء الله).

يُشعرك وهو يتعقبهم صديقا بعد آخر كما لو انه يستعجل حتى لا يشعرون بتأخيره عنهم أو ربما ليطفئ لهيب شوقه لهم. ثم في أكثر من مكان ظل يعود ويراودني ذلك السؤال وتلك الصورة التي تحوز على صديق واحد يستحق كتاباً لوحده.

أعرف لو قلتُ لكم أن هذا الصديق المستحدث من المخيلة والذي يجب أن يجلس على مقعد إلى جانب عمر عبد الدائم ليستنطقه ويكتب لنا كتاباً عنه هو العاصمة طرابلس، اعرف عندها قد لا تروق لكم الفكرة، وربما أكثركم لا يتصور طرابلس كعاصمة متشيئة أو متجسدة في شيء يجلس على مقعد إلى جانب عمر عبد الدائم، لكن الرجل الذي انتقل إليها بـ 2006 قادماً من سبها وربما أحبها ووقع في غرامها أكثر من أي مكان آخر، أظنه بذلك يستطيع أن يجسدها في شيء جميل يجلس إلى جانبه على مقعد في حديقة أو مقعد سيارة تجوب بهم المطارح، ويسألها عن هذا الغياب، فهي، أي طرابلس العاصمة ليست شوارعاً وأبنية ومنتديات وملاعب كرة ومدارس ومطاعم وأشياء مشابهة، لا، بل نستطيع أن نختصرها في لفظ (حالة) أو حالة حية، أو على الأقل يجب أن تكون حالة حية متفاعلة مع ما يحدث اليوم في ليبيا، إذ هي ليست سبها أو الخمس أو اجدابيا أو يفرن يمكنها أن تنام وتستيقظ متى تشاء، لا، بل هي طرابلس، وحين تقول طرابلس فهذا يعني أنك تنطق بأكثر الأسماء حضوراً عند الليبيين، فهل غيابها اليوم هو الذي غيّب الكل ودفع ببديل آخر إلى الواجهة عن الكل ؟!

أبارك مرة أخرى لصديقي الشاعر والكاتب والمتألق، سيد الدهشات، على روعة كتابه وأتمنى له في هذا اليوم الذي وافق ذكرى مولده العمر السعيد والمديد.

مقالات ذات علاقة

القاص سعيد خيرالله وفتات من خراب الذاكرة

حسين نصيب المالكي

أبطال زوسكند في ”ثلاث حكايات وملاحظة تأملية“

ناصر سالم المقرحي

رحلة ايشي

خديجة زعبية

اترك تعليق