قصة

عروس البحر

تصوير: الشاعرة ليلى النيهوم.
تصوير: الشاعرة ليلى النيهوم.

ضرب البحر بعصاه فانفلقت نصفين، نصف ذهب مع الأمواج ونصف راح يهش به عن غنمه، محاذيا الساحل المتعرج المتجه نحو القرص الأرجواني الملتهب الذي بدأ يغوص على تخوم اللجة الزرقاء ببطء شديد.

وضع شطر عصاه على كاهله وراح يترنم بأرجوزة بدوية تحكي عن عاشق فقير، ثم أطلق لعقيرته العنان مصورا ما يسببه ضيق ذات اليد من بعد الأحبة وفراق الخلان.

الشمس تهبط نحو المغيب والقطيع الصغير ببطونه الممتلئة يغذ المسير وكأنه يستعجل لحظة الوصول إلى الحظيرة، لينعم باجترار ما في أحشائه من أعشاب دافئة..

بعد أن أرهبته عصا الراعي التي كان يلوح بها في الهواء بتوتر ظاهر، وهو يفرغ آخر ما في جعبته من شجون بصوت متهدج مخلوط بالبكاء. وهو يقطع (وادي العين)

ويعابث ظهور عنزاته المكتنزة بشطر عصاه، مستسلما في تواطؤ لنسائم الحلم التي هبت من أقاصي الشمال مع آخر خيوط نهار يحتضر تحت عباءة ليل بهيم.

رأى قطيعه يملأ الوادي ثغاء وجلبة.. وصغار الماعز تتقافز فوق ظهور أمهاتها في نزق شيطاني، ثم تبدأ في نوبة نطاح مع بعضها البعض، معلنة عن اجتيازها مرحلة الفطام، واستعدادها لاستلام راية الفحولة من تيوس القطيع.

أحس بالزهو وهو يرى الرعاة يحومون بكلابهم حول القطيع في دأب وانتظام، ولاح له خاطر سريع وهو يتفحص وجوه الرعيان مقلبا صورهم في اطمئنان وغرور، فاختار وجه شيخ قبيلته وألصقه بأحد الوجوه صائحا به:

هيه.. أنت أيها الراعي

نعم أنت…ألا تسمع؟

هيا هيا …آتني بحليب من أجود الشياه.

أريده كامل الدسم …. وافر الرغوة.. هيا.. هيا

لم تتلكأ يا ابن الهرمة… نفذ ما أمرتك به.. وبسرعة

لنر من الشيخ الآن…….ها…ها هاها ها هاها.

أحس بخدر لذيذ يدب في عروقه، فأبطأ خطاه مصيخا سمعه لحركة الموج الوئيدة على صفحة الشاطئ الرملي، وطفق يملأ رئتيه برذاذ اليود المنعش…. مادا بصره باتجاه صورة نجم الشمال النائي التي بدت تتراقص مع حركة الموج بطريقة أدخلت في خلده أنها تحييه بتلك الغمزات، فشرع يفتش في مخلاته عن مصباحه اليدوي، وبدأ يحاكي ومضات الضوء المنعكس على صفحة الماء.

ومضة.. اثنتان… ثلاثا………هوب انفلت مفتاح الإضاءة البلاستيكي وارتفع النابض ساقطا على الأرض.

_ اللعنة.. حتى أنت أيها المفتاح؟

همهم بها وهو يحاول أن يرجع البصر إلى ذات الزاوية، وكأنه ينتظر ردة الفعل، ماسحا الظلام بناظريه.

_يالله…..

إنها ترد التحية بأكبر منها …… بل أسطع منها، وبنفس طريقته، بل وبنفس الفارق الزمني الذي لازالت تختزنه ذاكرته،

ومضه. اثنتان.. ثلاثا… ثم اختفت تماما،

ماذا حدث؟

أأصاب مفتاحها العطب؟

هل غرقت في هذه اللجة السحيقة؟

انبرى يبحث في الأفق الشمالي عن مصدر الضوء بتلهف:

ها هو… شامخ في مكانه منذ الأزل ……شامخ رغم تنائيه وشساعة المسافة التي يدور حول محورها،

أين صورته إذن؟ هل غدا بلا ظل؟ كل هذا الجرم العملاق يختزل ضوؤه وتوهجه في ثلاث ومضات ثم يختفي هكذا فجأة!!!!؟

تقدم نحو الشاطئ متفاديا قطع الصخور الناتئة حتى لامست قدماه الرمال الهشة وهو يحدق في امتداد العتمة ,,,,,التقطت أذناه صوت اصطفاف مجدافين بوجه الماء، استطاع تمييز الصوت بسهولة قبل أن يلمح شبحا لمركب صيد صغير، رغم الو شيش الذي ينتج عن التقاء نهاية الموج بالرمل.

خالجه شعور بالخوف، زاد في رسوخه صوت داخلي بدأ يناديه بإلحاح:

_ ما ا لذي تفعله هنا؟ … كيف تركت قطيعك وبقيت على هذا الشاطئ المظلم؟

أي غبي أنت؟ … ما أدراك أنه مركب صيد؟ ألا يمكن أن يكون………؟

تراجع للوراء، وهو يتحسس المخلاة فوق كتفه، والصوت الداخلي الذي تزداد حدته وارتفاعه يطالبه بالإياب، فلا يخرسه سوى صوت حقيقي سرى من بين الأمواج,,,,,, واضحا ومستبشرا:

_ مبروك يا حاج، وصلت العروس.

_انزل قليلا إلى البحر، ثم اجذب الحبل الطافي فوق الدمية الفسفورية.

_ الكمية كاملة، واحد وعشرون إطارا….. الإطار الأول به (مائة ألف دولار)

_الباقية جميعها من ماركة العروس، (أجود أنواع الحشيش).

إلى اللقاء.. إلى اللقاء في المرة القادمة.

وانزلق الزورق بمن فيه إلى حيث أتى، وسط ذهوله التام وتجمد أعضائه.

__ يا إلهي، ما هذا الذي سمعه، ورآه ووعى كل تفاصيله، إنه أكبر من الحلم، بل أكبر من كل أحلامه، بما فيها حلمه الأخير الذي أنتقم فيه من شيخ قبيلته،

_ ياه، ها هي فرصة العمر رهن بنانه، عدة خطوات ويدخل بعدها قائمة الأثرياء، (مائة ألف دولار)، سيصنع بها الكثير _ سيبني البيت العالي الفسيح الذي يراه دائما في أحلامه، وسيتزوج ابنة شيخ القبيلة بعد أن يحشو بطن أبيها بالمال، وسيطلق هذا الفقر الأزلي الذي يلازمه، يا الله (مائة ألف دولار)

ولكن ماذا يفعل ببقية الإطارات، هل يجرها وراءه ويدفنها في الحظيرة ريثما يتدبر أمر بيعها لمن يعرف قيمتها؟، أم يخبر السلطات بأمرها؟، أم يتركها تذهب مع الأمواج إلى غير رجعة؟

_ يا الله كيف حدث ما حدث؟، وأي قدر هذا الذي ساق قدميه إلى هنا؟

وأي مصادفة عجيبة دعته إلى العبث بمصباحه بتلك الطريقة؟

_ هل كانت تلك الومضات الثلاث، مفتاح منحته له الأقدار؟ أم شفرة لصفقة أخل أحد طرفيها بالاتفاق؟

_ هل وقع في فخ استدرج إليه بإحكام؟ هل؟ ,,,,, هل؟ ,,,,,هل؟ ,,,,,,,,,,

كان رأسه يمور بعشرات الأسئلة التي تبحث عن إجابات سريعة وهو يسبح في دوامة من الحيرة…. ويداه تمتدان في تردد نحو الحبل، عندما باغته نداء حازم:

_أيها الراعي لا تعبث بما لا شأن لك به… أخرج فورا والحق بشياهك، دقيقتان وسيخترق الرصاص رأسك الفارغ، وتصبح وجبة للأسماك.

كان الصوت قريبا وحاسما وغير قابل للتكرار، رغم هدوئه، يستحثه على مغادرة المكان، والإذعان لأوامر صاحبه:

_ خطوتان للوراء، وانعطاف لليسار، والركض إلى الأمام بأقصى سرعة، هيا.

بدأ ينفذ ما أمر به في استسلام، ويهرول نحو الجنوب وقدماه تنزلقان داخل الحذاء الذي راح الماء يندفع من ثقوبه كنافورة تلامس شفتيه، فيلعقه بطرف لسانه وهو يشعر بالمرارة.

مقالات ذات علاقة

زَهرة تحت الرُكام

سمية أبوبكر الغناي

الهروب

المشرف العام

أخطر أسراري

عائشة إبراهيم

اترك تعليق