من أعمال التشكيلي عادل الفورتية
قصة

أخطر أسراري

من أعمال التشكيلي عادل الفورتية

حين تجاوزت سن الثالثة بقليل شعرت بأن شيئاً ما أصبح يلازمني دون أن أستطيع التخلص منه. شئ كظلي لكنه لايسير بجواري، بل بداخلي، ويصدر أصواتاً وقهقهات وصراخاً وتساؤلات.. وكان قد تزامن مع اكتشافي لهذا الشئ وجود طفل صغير في حضن أمي قالوا لي أنه (أخي)، وحين أصبح عليّ أن أتنحّى جانباً وأترك المكان للطفل الجديد، كان ذلك الظل الناطق يتغلغلل في داخلي.. يحتلني ويجتاحني ويملأ كياني بالأصوات، وكلما حاولت الفرار منه إلى حضن أمي كانت تبعدني برفق ويتجاهلني أبي، حتى استسلمت في النهاية إلى ذلك الصوت.. سمحت له بالاقتراب وتركته يهمس لي بما يشاء، وحفظتُه في أعماقي كأول وأخطر سر من أسراري.

توقفتُ عن الضجيج والبكاء، وفقدت شهيتي للطعام، وانزويت في الأركان القصية من البيت أتمدد على ظهري كالكبار وأتأمل السقف أو أجلس على الأرضية، أثبت نظري على زاوية من الجدار، استمع إليه وأبادله الحديث، وأقابل كلماته بالابتسام أو الامتعاض… قالت عماتي أنني مصابة بمرض طبيعي يسمى (المَمّي) وهو مرض يصيب الأطفال الذين يفطمون فجأة من حضن أمهاتهم حين يأتي طفل جديد، حيث يفقدون الشهية ويصابون بالذهول والانزواء. اكتفى والدي بإرسال بيضة مسلوقة إلى شيخ الجامع ليقرأ عليها رقيةً تقيني من تداعيات الفطام. أطعموني الييضة ولم يغادرني ذلك الظل الناطق.

يوما بعد يوم كان ذلك الشئ ينمو ويزداد وضوحاً وإلحاحاً.. لم يكن صوتاً. لم يكن صورة أو ظلاً. كان رفيقاً حقيقياً يعيش في مكان غامض من رأسي، ينام حين أنام ويصحو مع صحوي.. يتحدث بصوتي .. يرسل لي صوراً عما يحدث في الأماكن المغلقة من البيت… يستدعي وجوه الغائبين.. يؤلف لي القصص الغريبة فأسردها على الآخرين فيصفقون أو يضحكون..يدعوني للقيام بمغامرات لاستكشاف ما حولي تكون نتيجتها عقاباً أليماً من أمي.

كبر الصوت في داخلي.. تشاجرت معه وتصالحت.. ساعدني في عبور مآزق كبيرة وخانني في أخرى.. عرفت أنه لن يفارقني إلى الأبد.. وفي مرة قررت أن أتحلى بالشجاعة وأكشف السر لأمي.. سألتها: ياأمي هناك صوت يتحدث معي وأشرت إلى رأسي: هنا يا أمي هنا وأمسكت بيدها ووضعتها على الجانب الأيمن من عظم جمجمتي.. بسملت أمي وحوقلت وسقتني من ماء الرقية، ومازال ذلك الصوت معي.

مقالات ذات علاقة

الانقسام

حسن أبوقباعة المجبري

زوايا الصمت

عبدالسلام سنان

المفترق

إبراهيم بيوض

اترك تعليق