سرد

مقطع من رواية (تراب درنة)

مدينة درنة الزاهرة (الصورة: عن الشبكة)
مدينة درنة الزاهرة (الصورة: عن الشبكة)

تقول جدتي:

بعد طول السفر.. ألقى جدها عصا الترحال.. في قرية قرنادة التي سبقه إليها بعض الأندلسيين و معه بعض النسوة الذين تحطم بهم مركبهم بعد معاناتهم و صراعهم مع الموج.. وهنا تعرف على (سنقر) صاحب والده الذي استضافه فعرض عليه خدماته ودرايته بالطب وبدأ في معالجة شقيقته التي أرهقها الاعياء فظل يطببها لعدة أعوام وهو يفلح الأرض كي يعيش هو وزوجته التي بدأت تتماثل للشفاء.. فقرر الزواج من اخت سنقر.. وكانت الحياة رغم وفرة الأمطار وبداية تكوين مجتمع من الأندلسيين وبعض العائلات التي توطنت المكان من القبائل المحلية.. والبربر..

فقام باستقطاع الأرض وأزهرت بساتينه.. بعد أن غرس. الكثير من أشجار الأندلس التي جلبها معه.. خلال رحلته من غرناطة و طنجة و صفاقس. والتي كانت عبارة عن نباتات الإكليل وزهور الياسمين وشجيرات التين والرمان وكروم العنب.. واثمرت البساتين بالفواكه والحقول بالقمح والشعير. وأصبح خلال سنوات من أصحاب حظائر الأغنام والأبقار.. وكان عدد الأبناء في ازدياد.. فما هي إلا سنوات حتى أصبحوا عشيرة منهم الراعي ومنهم الفقيه والمزارع.. فعندما كبر والدهم.. قال لهم يجب أن تكتبوا وصية بينكم على أن يتم تقسيم الأملاك والارزاق بالعدل وأن اختصمتوا فأرجعوا إلى شرع الله…وكما جرت طبيعة الحياة.. وتوفى والدهم.. وحضر القسمة أخواتهم وأصهارهم.

قالت جدتي أن اخوالها من قبيلة الهنادي الذين كانوا يقطنون ضواحي درنة في ذلك العهد …كانوا من أمهر اصحاب الخيول وأشجعهم في المعارك والحروب وكانت تحفظ تاريخهم وتذكر مواقعها مع القبائل المجاورة في برقة وفي مصر.. و وصولهم إلى بر الحبش . وهي تردد: وخيل الهنادي يلعبن ع التلة.. طرابة لوطن الحبش يمشن له   وتذكر الاميرالاي احمد عرابي من أخوالها..  الذي كانت تردد ما قاله الشاعر فيه.. الله ينصر دين عرابي.. دار طوابي.. وعسكر الانجليز مصابي.. وكانت دائما ما تردد أسم جدتها (قابس) الذي يبدو أنها حملته معها عبر تاريخ الرحيل الطويل.

وكانت جدتي تنظر في عيني وانا اسرح معها في أحلامها وهي تردد:

– الى أين أيها الفتى؟

إلى أين تستدرجك أحلامك في وضح الكهولة؟ وأنت الذي أنفقت أكثر مما ينفق الناس بحثاً عن حلم كان لك … نعم كان لك.. لك وحدك.. نسجته أنامل روحك بحذر طفولي.. ووسدته حنايا فؤادك الغرير ادخارا ً لغد ٍآت، زرعته يد خفية في أعماق طفو…لتك.. فانبرت مخيلتك تجوس حقول الزهور بحثاً عن زنبقتك الأثيرة.. حتى أضناك السفر وأثقل كاهلك الرحيل.

(إلى أين؟) ــوكل هذه الزهور تحتفي الآن بك.. وترسل أريجها العبق بين يديك.. وترسم بأكمامها المشتهاة لوحة للغواية تنادي ألوانها تراتيلك بحنين ـ (هيت لك.. هيت لك) ــ ويظل صدى النداء يصم الحقول.. وأنت كما أنت تحلق بك فراشة أحلامك حيث زنبقتك ال…زاهية ولا تعود. ــ (إلى أين؟) ــ وكل الطيور التي تردد الآن تسابيحك التي أطلقتها في فضاءات مدينتك بخشوع ستنساك أو تلفظك من ذاكرتها المثقوبة غير مأسوف عليك

ماذا تريد؟ وفرحة الحلم عندك ساعة من مساء وليل طويل وصور محرّقة الحواف وقلب غازل النجم كثيراً ثم حاك من خيبته ألف برد للشتاء ومازال يطعنه الصقيع

ـ (إلى أين؟ ) ــ وأنت الذي من وهج كلماتك أيقظت الربيع وزرعت ألف زنبقة على باب المدينة للحالمين بكرنفالات الزهور وبالطيور ووقفت ترقب ـ في خيالك ـ ما صنعت يداك هل كان حقاً ما أردت؟ وكيف كان؟ وأراك تستدني السدول. وتظل وحدك ـ بانتشائك ـ تختزل الحقول، وتنشق عطر زنبقة وحيدة !!ا

مقالات ذات علاقة

إن لم يقتلنا رصاصهم… فحبالنا كفيلة بنا

زكريا العنقودي

حب إلى تجرهي

شكري الميدي أجي

رواية الحـرز (18)

أبو إسحاق الغدامسي

اترك تعليق