سرد

رواية الحـرز (20)

يشرع موقع بلد الطيوب في نشر رواية (الحرز) للقاص والروائي “إبراهيم عبدالجليل الإمام“، على أجزاء بشكل أسبوعي!! قراءة ممتعة للجميع…

امرأة من غدامس (الصورة: عن الشبكة)

20

 كانت تهم بمغادرة بيتها من باب السطح حين شمت رائحة النار.. أسرعت لتفقد مطبخها.. حمدت الله أن مصدر الرائحة مكان آخر.. لم يكن ذلك كافيا لتطمئن.. صعدت الى الشرفة المفضية للممر الفاصل بين بيتها وبيت جيرانها.. رأت عمود دخان يتصاعد من بيت الجيران.. أنه بيت الأعرج.. هذا يعني أن الخطر داهم وأن عليها أن تنذر الجميع.
صعدت أعلى الشرفة.. صاحت بصيحة الحريق المعهودة:

  • امن آ مومنن… امن آ مومنن ([1])…..

تلقفت الأذان الإنذار فتسارعت النسوة لتلبيته.. حملت كل واحدة منهن إناء به ماء وأسرعت نحو مصدر الصوت.

كانت ألسن النيران ترتفع إلى عنان السماء منذرة بالانتشار إلى أقرب بيت من بيت الأعرج .
هرعت حاضنة الرضيع وبيدها الحرة تناولت سطل الماء لتساهم بدورها في إخماد الحريق.

 وصلت صيحات الاستنجاد لمسامع الرجال في مجلس العشيرة المنعقد.. انفرط عقده وأسرعوا بدورهم للمشاركة في الإنقاذ.. ظل الأعرج واقفا وحده وسط المجلس الخالي.. تنفس الصعداء شعر بثقل ينزاح عن كاهله.. تذكر ذلك اليوم الذي سقط فيه من النخلة.. كان عقابا ربانيا قاسيا على جرم حبه الشديد للتمر.. لم يعاقب سارق قبله ولا بعده أقسى من هذه العقوبة.. ربما لو قطعت يده لكانت ذلك أرحم بكثير من هذه العاهة التي قيدته بقيد البقاء في هذه الواحة للابد.. عاهة تذكره في كل خطوة يخطوها بجرمه.. يا لها من عقوبة قاسية.. قاوم نزول دموعه.

 سارع بخطواته العرجاء بالسير نحو مصدر الصيحات المستنجدة.. لم يكن يعلم أن النار أتت على بيته.. إنها عقوبة أخرى على جرم لم يرتكبه بعد .
علا صراخه ونحيبه.. ترك العنان لدموعه هذه المرة دون خجل.. فالكارثة أكبر من ان يتحملها.

 وصلت صيحات الاستنجاد إلى أقصى الواحة.. تناقلتها كل أذن سمعتها لتنقلها الى أيعد مكان يمكن أن تصل اليه صيحتها:

  • امن آ مومنن… امن آ مومنن

كانت شرسة نهمة تلك النار.. ألسنتها الغضبى قاومت الماء المنهر عليها من أركان البيت الأربعة.. امتدت السلسلة البشرية إلى نبع غسوف الخالد.. شارك فيها كل ذكور الواحة.. صبيانها.. فتيانها.. رجالها.. شيبها.. كهولها.. وحده الأعرج جلس يندب بيته.

ماء كثير حملته السلسلة البشرية الممتدة على طول عرشين.. سلسلة أخرى أقصر كانت تغرف ماءها من ساقية مارة بمسجد العرش بعد أن غير أحدهم مسار ماء الساقية لتقليص المسافة.. لكن النار قاومت.. انهار سقف البيت بعد أن التهمت جذوعه.. سقطت جدرانه لتزداد ضراوة.. لكنها استسلمت وخمدت وانطفئت مع أذان المغرب.
الغريب أن البيوت المجاورة لبيت الأعرج لم تتضرر على الرغم من سقوط البيت كله.. صار كومة من طين سودتها النار.

 اقالت العجوز كلمة تناقلتها الألسن عندما بلغها ما أحدثته النار في بيت الأعرج:

  •  انه عقاب على جرم عظيم ارتكبه لا نعلمه.. يبدو انها صفقة خاسرة تلك التي عقدها مع الغريب الغامض.

[1] – الماء يا مومنين.. صيحة الاستنجاد اثناء نشوب الحريق في واحة غدامس القديمة.. توجد صيحة اخرى لأغراض اخرى لا يتسع المجال لذكرها

مقالات ذات علاقة

حكايات الغروب

سالم الكبتي

عاشوراء

مقبولة ارقيق

لابد أن تقول أن البطل لا يموت

محمد الأصفر

اترك تعليق