محمود الغتمي
توافق اليوم 08 يوليو 2023م الذكرى 45 لوفاة أحد أعلام تحفيظ القرآن الكريم في جنزور، وهو المرحوم فضيلة الشيخ الهادي أحمد بن خالد، وكان من أشهر المحفظين والخطباء لأكثر من نصف قرن، إضافة إلى كونه نموذج من الشيوخ الزهاد الذين كان يُضرب بهم المثل في سمو الأخلاق والعفة والاستقامة. فأتشرف اليوم بأن أخصص له هذا الإدراج المتواضع.
ولد الهادي أحمد عبدالله بن خالد في سنة 1896م، وهو ابن الشيخ، والعالِم، والفقيه، والمجاهد أحمد بن خالد مفتي جنزور في أواخر العهد العثماني، الذي دَرَس في الجامع الأزهر في القرن التاسع عشر، واستشهد في معركة المشاشطة (معركة يوم الجمعة) في 09/09/ 1917م.
وبعد أن بلغ من العمر سن التحصيل العلمي، التحق الهادي بجامع الراس [جامع سيدي بوشقوارة اليوم] في منطقة الخوالدية في وسط جنزور وبدأ في حفظ القرآن الكريم على يد والده الشيخ أحمد. وبعد فترة انتقل إلى زاوية عمورة؛ حيث كان والده يُعلّم العلوم الشرعية بالزاوية المباركة.
ولم يدُم هذا الهناء والاستقرار طويلاً في حياة ذلك الفتى المُجد، فسرعان ما عبست الدنيا في وجهه عندما بدأت المدافع الإيطالية في شهر أكتوبر 1911م تدك حصون طرابلس، فأقفلت المعاهد والزوايا أبوابها، ثم اُستشهد والده الشيخ أحمد سنة 1917م، فكانت هذه الأحداث الجسام فاتحة النكبات في حياته، واستحكمت حلقات المأساة في مطلع حياة هذا الشاب عندما اشتدت الحرب الإيطالية على البلاد، فنزح مع عائلته وبعض جيرانهم سنة 1920م إلى بلدة غريان.
إلا أن جميع تلك الظروف لم تقف عائقاً أمام رغبته وحرصه على التعلّم، فالتحق بإحدى زوايا تعليم القرآن الكريم بغريان ليكمل دراسته، واستمر على ذلك إلى أن عاد مع أسرته إلى جنزور سنة 1922م بعد أن استقرت الأوضاع إلى حدٍ ما.
وما من ريب أن الهادي كان شاباً نشطاً تواقاً إلى التحصيل والمعرفة، ولم تمنعه سوء الأوضاع وما صاحبها من أهوال عن الرحلة مرةً أخرى إلى غريان، ولوحده هذه المرة، ولم يتوقف عن طلب العلم إلّا بعد أن حفظ القرآن الكريم في إحدى زوايا غريان.
عاد الشيخ الهادي بن خالد إلى جنزور ملعب صباه، ومن أولى خطواته المباركة التي أقدم عليها بعد عودته هي اقترانه بالسيدة “فاطمة رجب هامان”، وأنجب منها ستة أولاد وبنتين، وترسّم الشيخ الهادي خطى والده؛ حيث وَظَّف طاقاته العلمية والعملية في مهنة التعليم، فاستقر في زاوية المشاشطة بجنزور نحو سنة 1924م، وبدأ يُعلّم القرآن الكريم.
لم يكن الشيخ الهادي شخصاً عادياً، بل كان شعلة من النشاط وكتلة من الحماس المتقد، فطوال إحدى عشرة عاماً قضاها في زاوية المشاشطة كان يقضي سحابة يومه في تعليم القرآن الكريم من الصباح الباكر إلى المساء وهو يتجول بين حلقات الطُلاب، باذلاً كل ما بوسعه من أجل إفادتهم، ولم يكن معه مساعد أو مُعِين، بل كان يقوم بكل ذلك الجهد المرهق وحيداً دون مساعدة من أحد المشايخ.
وبعد تلك السنوات الحافلة بالنشاط العلمي في زاوية المشاشطة، ذهب الشيخ الهادي إلى جامع الراس [جامع سيدي بوشقوارة اليوم] وبدأ يُعلّم هناك، ثم توجه إلى زاوية أبى جعفر خطيباً ومُعلّماً للقرآن، وكذلك علّم القرآن الكريم فترة من الزمن في جامع أولاد أبو غرارة القديم، وفي أواخر حياته استقر به الحال خطيباً وإماماً في جامع الحاج خليفة كرواط بوسط جنزور، كما كان إماماً لقبيلة أولاد سيدي عبداللطيف في عقد الأربعينيات من القرن الماضي.
وقد شغلنا تتبع جهود الشيخ الهادي العلمية عن جانب آخر من شخصيته وهو خُلقه وسلوكه, كان –رحمه الله- شيخاً وقوراً ثابت الإيمان، ذا نفس قوية مستمدة من تواضعه, فلم يَعْرف الادعاء أو التسلق وحب الظهور, بل كان على جلالة قدره وكثرة علمه يَعمل في سنواتـه الأخيرة غفيراً على خزان ميـاه في منطقة السوق بجنزور, بجانب عمله إماماً وخطيباً في جامع الحاج خليفة كرواط, وكان يجتمع مع أصدقاءه من مشايخ جنزور تحت ظل الخزان بعد صلاة العصر مثل الشيخ سالم بوكر، والشيخ عبد اللطيف القابسي وسواهما يتجاذبون أطراف الحديث ويحِنون لذكريات الماضي. ومرّت السنوات وهو يَعْمل في هذه الوظيفة المتواضعة من أجل كسب عيشه بعرق جبينه، يلتف بجردٍ خشن، وهو الرجل الذي لم تعلق باسمه ريبة، ولم تخالط سيرته البيضاء شائبة قط.
عندما شرَّع القذافي قانون (رقم 4) في شهر مايو 1978م تنفيذاً لمقولة (البيت لساكنه)، وفشى الظلم في البلاد جرّاء ذلك القانون المُشين؛ حيث اُنتهكت المحارم، وسُلبت الأرزاق بعد تنفيذ ذلك القانون الجائر بحذافيره, شَعَر الكثير من المشايخ والدُعاة بمسؤوليتهم المباشرة عن مثل هذه الأحداث المؤلمة, وواجبهم الشرعي في عدم السكوت أو التغـاضي عن مثل هذه الممارسات القبيحة, فنهض الشيخ الهادي بن خالد بدوره في هذه الظروف, وخطب خُطبة نارية في صلاة إحدى الجُمع في صيف سنة 1978م، استنكر فيها الاعتداء الصارخ على حقوق الناس وأملاكهم المغتصبة، واستباحة أرزاقهم, واستشهد فيها بحديث النبي صلى الله عليه وسلم ((كُلَّ المسلم على المسلم حرامٌ دمهُ وعرضهُ ومالهُ)) واشتد فيها بالنقد والتجريح على باقي الأعمال التي كان يقوم بها بعض المحسوبين على اللجان الثورية.
وبعد هذه الخطبة المشهودة استدعاه مكتب اللجان الثورية للتحقيق معه في شهر يوليو 1978م, فحاول الشيخ التهرب وعدم الذهاب للتحقيق بشتى السبل، ولكنه لم يُفلح, إلى أن نصحه أحد المسؤولين في جنزور بأنه إذا رغِب عن الذهاب للتحقيق فعليه مغادرة البلاد في أقرب فرصة حفاظاً على سلامته, ولمّا كان الشيخ الهادي مصاباً بداء الروماتيزم, انتهز الفرصة وقرر التوجه إلى مدينة قربص بتونس للاستجمام في بعض حمامات المياه المعدنية للعلاج, وخَرَج وهو خائفٌ يترقب, وبعد وصوله إلى قربص، دخل أحد حمامات المياه المعدنية, وبمجرد أن استلقى داخل الحمام طلباً للراحة, لم تمضي سوى دقائق معدودة حتى لبّى داعي ربه الكريم يوم الثامن من يوليو 1978م مأسوفاً عليه من جميع الناس.
رحم الله الشيخ الهادي بن خالد، فمنذ أن بدأ مسيرة التعليم سنة 1924م وإلى تاريخ وفاته سنة 1978م لم يتوقف عن مسيرة تحفيظ القرآن الكريم والإمامة والخطابة في مساجد جنزور، ولم يتأخر يوماً عن نصح الناس والإصلاح بينهم، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أربعة وخمسون عاماً قضاها الشيخ في عمل متواصل بعيداً عن الادعاء وأضواء الشهرة والنفاق، رحمه الله.
المصادر:
● الوثــائق:
1- وثيقة مؤرخة في 17 أغسطس 1948م، كاتبها الشيخ سالم بن محمد جليطة.
2- ملفات مكتب السجل المدني جنزور.
3- رسالة من الأستاذ عياد الهادي الميري [حفيد الشيخ من والدته] بتاريخ 2014/10/15.
4- رسالة من الحاج أبو راوي محمد أحمد بن خالد بتاريخ 2014/10/15.
●المقابلات الشفوية:
1- مقابلة مع الشيخ عبد اللطيف إبراهيم القابسي بتاريخ17/ 11/ 2012م.
2- مقابلة مع الأستاذ فتحي امحمد بن خالد بتاريخ 29/ 03/ 2014م.
3- مقابلة مع الحاج أحمد الهادي أحمد بن خالد بتاريخ 29/03/ 2014م.