أستمتع الآن بقراءة الكتاب الصادر عن دار الفرجاني للنشر والتوزيع؛ الذي ترجمه الأستاذ فرج الترهوني تحت اسم “أهل الله: مذكرات أميركية في ليبيا”، منزاحاً عن اسمه الأصلي Children of Allah: between the sea and sahara بما يتوافق مع طبيعة الكتاب ودلالة الاسم في الثقافة الشعبية الليبية.
الترجمة الحرفية ستسميه أبناء الله أو أطفال الله، ما يشبه تعبيرا شعبيا كنا نصف به مثل هؤلاء المهملين الذين يسلمون كل صروف حياتهم للقدر (اعويلة ربي) انطلاقا من أن الله فقط هو من يعولهم، ويبرر المترجم هذه الترجمة الأقرب إلى المفهوم الذي ذهبت إليه المؤلفة بقوله في المقدمة:
“وللوهلة الأولى تبدر إلى الأذهان الترجمة البسيطة المقابلة (أبناء الله)، ومن يقرأ هذا العمل التوثيقي لفترة إقامة الكاتبة في ليبيا، وأسلوب فهمها لطبيعة الليبيين وعاداتهم وطرق معيشتهم؛ سيعرف على الفور أن الكاتبة تلاحظ في مواضيع عديدةٍ ارتباط سلوك وثقافة الليبين -وجل حياتهم- بمشيئة الله وفقاً لمنظورهم الإيماني، وأنهم يسلِّمون بهذه الإرادة في معظم أحاديثهم وشؤون حياتهم اليومية؛ وبالتالي خرج الكتاب بهذا العنوان. وتعبير (أهل الله) في الثقافة الليبية والعقل الجمعي يشير إلى ارتباط شخص أو مجموعة من الناس وإيمانها بالقدرة الإلهية العظمية والتسليم لمشيئتها بشكل مطلق، وهذا الارتباط يحكم كل تصرفات المجموعة وأفعالها وقناعاتها.”.
وهي ترجمة معقولة جدا، خصوصا ونحن ندرك أنه حتى في نقل كتب مثيلة من اللغة العربية إلى لغة أجنبية يحصل أن يغير الاسم بما يوافق أو يقترب من مدلوله في الثقافة المنقول إليها، ويحدث تأثيره في وعي ووجدان قرائه الجدد، ومن هذا المنطلق تم أيضا تغيير العنوان الجانبي إلى “مذكرات أميركية في ليبيا” بدل “بين البحر والصحراء”. دون أن يتضح ما إذا كانت مفردة “أميركية” نعتاً للمذكرات أم مضافًا إليه تحدد هوية المؤلفة الأميركية. وهو التباس محبب في العناوين الجاذبة للقارئ.
في هذا السياق يرد نص في بداية الكتاب تحت عنوان “ملاحظة المؤلفة” أُوردُه كاملاً لأهميته في تفسير هذه التسمية بفرعيها، وفي التمهيد لكل ما سيأتي في الكتاب: تقول المؤلفة أغنوس نيوتين كيث في ملاحظتها: “لأنهم ولِدوا في أرض قاحلة جرداء؛ يجد الليبيون أنفسهم محكومين بثنائية البحر والصحراء، بهطل المطر أو حدوث الجفاف، بانطلاق زوابع الرمال أو بفيضانات السيول، بمواسم حصاد الحبوب، أو القحط وتعرض ماشيتهم للمجاعة. والآن في هذا القرن الذي يشهد ظهور ثروات باطن الصحراء، يجدون أنفسهم محكومين بتدفق النفط من تحت رمالهم.
لمدة شهر من كل عام، يصومون طوال ساعات النهار، ويحتفون بالطعام خلال الليل، ويولون وجوههم شطر مكة للصلاة خمس مرات في اليوم، مرددين أسماء الله الحسنى التسعة والتسعين، في خضوع تام لمشيئته. يقودون سيارات الجاغوار، وألفا روميو، كما يركبون الإبل والحمير. البعض منهم لديه في بيوتهم أثاث من طراز لويس الخامس عشر، بينما آخرون يقطنون الكهوف أو الخيام السوداء، كما يذهب البعض منهم إلى روما لتمضية العطلة، وفي الوقت نفسه يخفون زوجاتهم في الجرود والفراشيات وتحت النقاب، بعضهم يحصل على مُنحٍ لللدراسة الجامعية، بينما الكثيرون لا يعرفون حتى كتابة أسمائهم. هذه قصة شعب مسلم فخور بنفسه، يناضل ليحظى بحياة عصرية في مملكة حديثة التكوين، وفي أرض لها الكثير من سمات العصر الحجري. كل ما سيُروى من أحداث في هذه الكتاب حقيقي، أما الأسماء والشخصيات الليبية المذكورة فهي -في بعض الأحيان- من نسج الخيال”.
لا يمكن أن أضع هذا الكتاب في سياق أدب الرحلات أو في سياق الكتابة التاريخية الصارمة، أو كتابة بعض الرحالة الذين مروا على هذه الأرض مرور الكرام وتعاملوا مع السطح فيها، لكنه عمل يشمل كل هذا، مع روح روائية تنعكس في لغة أدبية شعرية سلسة ومبهرة استطاع المترجم أن ينقلها بمهارةٍ بما يملكه من خبرة في ترجمة السرد الروائي، فهي كاتبة أقامت في ليبيا (طرابلس غالبا) لمدة تسع سنوات (1955-1964) وكان فضولها الأنثوي المنتبه لكل كبيرة وصغيرة، يقف عند كل تفصيل ويقترب من دواخل الشخصيات الليبية التي احتكت بها، عبر من عملوا لدى أسرتها، أو عملوا مع زوجها خبير الأحراج في منظمة الفاو، أو من أنشأت معهم صداقة من أفراد وعائلات، واستطاعت بنهمها للمعرفة، وبروحها الاجتماعية وشخصيتها الجاذبة، ووعيها الحاد بأهمية تسجيل كل الملاحظات مباشرة، أن تلمس الكثير مما تتمتع به الشخصية الليبية من ميزات وما يشوبها من عيوب، دون أن تنسى التطرق للخلفيات التاريخية والثقافية التي أسهمت في تكوين هذه الشخصية وطرق عيشها واستجاباتها وردات أفعالها وأسلوب تكيفها مع كل ما يحدث لها.
الكتاب ثري ومغرٍ بمحاوَرَتِه والكتابة عن شجون عدة انطلاقا منه، عبّرت من خلاله الكاتبة بموضوعية ما وسعها ذلك عما عايشتْه وشاهدتْه أو تابعته من خلال عمل زوجها، أو صديقات أوربيات يعملن في مجالات أخرى، وهي لم تأتِ إلى هذا المجتمع -أو المجتمعات المتناثرة في أرخبيل من الواحات السكانية التي تفصل بينها مساحات شاسعة من الرمال، ومازالت تتلمس طريقها نحو الدولة- بأحكام مسبقة كما يفعل بعض القادمين من الغرب، لكنها بدأت مغامرات اكتشافها من القراءة عند درجة الصفر تقريباً، عبر المعايشة والمحاورة والتأمل والفضول، إلى أن وصلت إلى حالة احترام وحب لهذا المجتمع تعبر عنه بقولها: “هذا الشعب الورع التقي الذي أحبه”، دون أن تنسى الإشارات الحاذقة لبعض العيوب والمخاطر المستقبلية، في سياق كتابة تمزج بين الحب والخوف على من تحبهم: “سرعان ما اكتشفتُ أن الليبيين أبعد ما يوصفون بالبدائيين، ومع ذلك فهم ليسوا أوربيين، ولا غربيين، ولا أسيويين كذلك. كنت في طور تكوين فكرة عن الشخص الليبي حينما دخل أحمد إلى حياتنا. ومع ذلك فهو ليس أنموذجاً مناسبا؛ لأن الكياسة وطلاوة الحديث ليست معروفة آنذاك عن الليبيين، بقدر ما كان معروفاً عنهم الكرم والدفء الإنساني”.
سبق -قبل قراءة هذا الكتاب بثلاثة أشهر- أن نشرتُ مقالاً في جريدة الوسط بتاريخ 23 مارس 2023، بعنوان “الولع الليبي بالجمال” أذكر فيه أنه “من السمات الغالبة على المزاج المجتمعي الليبي الشغفُ بالجمال والنظافة، وهي أيضا سمات تنتبه لها، عادة، العين السائحة، القادمة من الخارج، وأذكر أن سيدة عراقية زوجة أستاذ كان يعمل في جامعة درنة، لفت نظرها أناقة ونظافة البيوت الليبية، وكما قالت يظهر هذا الاهتمام حتى في البيوت الفقيرة”. وفي سياق حديثها عن خصائص هذا المجتمع التي عادة ما تلفت نظر الزائر من الخارج أكثر ممن يعيش في قلبها، تقول المؤلفة أغنوس: “في البدء فاجأني التعلق الشديد بالنظافة، لكن الآن وقد خبرت المكان أكثر، سأتحدى أي شخص يعطي الليبيين أي وصف آخر غير أنهم شعب نظيف، حينما تتوفر لهم الفرصة للحصول على الماء.”.
باعتبار المؤلفة جاءت رفقة زوجها “الحرّاج” خبير الغابات والموارد في منظمة الفاو، فإن كتابها يحوي الكثير من المشاهدات والتصورات المستقبلية عن هذا الشأن المهم المتعلق بظاهرة التصحر، حيث كما يشير عنوان الكتاب الجانبي “بين البحر والصحارى” يجد هذا الساحل الرقيق الذي يأوي إليه معظم الليبيين نفسه في خطر زحف البحرين على ما تبقى فيه من خضرة وتربة، لا تقاوم فقط عوامل التعرية الطبيعية، ولكن أيضا الخراب الذي يحدثه البشر بهذه البيئة والذي مازال مستمرا حتى وقت كتابة هذه المقالة، والتي ستكون موضوع مقالات قادمة. وهو شأن يحيلني إلى ما نشاهده في هذه الأيام، تجهيزاً لعيد الأضحى، من ألوف الأطنان من الفحم المكدس في كل مكان وهو نتاج تجريف مئات الهكتارات من الغابة، يشبه ما يحدث قبل شهر رمضان من طوابير السيارات التي تحمل أكوام الأشجار التي تحولت إلى حطب حيث الشهر موسم لخبز التنور الذي يلتهم أيضا مئات الهكتارات من الغابات. وما تشير إليه المؤلفة من تقوى وورع تميز به الليبيون، تصبح مناسكها وسيلة لتدمير البيئة والثروات الأخرى، فضلاً عما سيتكدس من قمامة في الشوارع والوديان وعلى جنبات الطرق ومشاكل في الصرف الصحي، بعد عيد الأضحى؛ والتي ستتحول إلى بيئة لنشر الأمراض الخطيرة بين الأطفال خصوصاً. فهل نتيجة تدفق النفط من تحت رمالهم الذي أنساهم التفكير في أي موارد أخرى، تحوَّلَ من سمتهم المؤلفة قبل 60 عاماً “أهل الله” إلى أهل الشيطان وفق ما يترتب على هذه الشعائر من سلوك مدمر للمكان ومستقبله، ومجسدا لخوف زوجها الخبير هاري حين قال قبل ستة عقود مخاطباً زوجته أغنوس: “الجبل الأخضر عبارة عن منطقة غابات سروٍ طبيعية وغابات العرعر، وينبغي أن تكون منطقة غزيرة الإنتاج؛ فقد كانت كذلك خلال الاحتلال الإيطالي لأنهم منعوا كل قطع عشوائي ورعي في الغابات الطبيعية، لكن بعد الحرب، ألغت سلطات الاحتلال العسكرية بشكل أو آخر الحظر الإيطالي… وانظري ماذا حدث! عاد الرعاة الرُحّل بقوة مع قطعانهم وماشيتهم يرعون كل شيء تحت رُكَبهم، ويقطعون كل شيء من فوقها من أجل الحطب! إذا استمروا على هذا النحو فإن الجبل الأخضر سيكون مجرد هضبةٍ من الحجر الجيري!”.
بوابة الوسط، الإثنين 26 يونيو 2023