كتاب القمر المربع.
قراءات

القمر المربع: شيزوفرنية واقعية لشخوص يطالها الوجع.. غرائبية السارد و حقيقة السرد

يقول .. “نيتشه: اللغة نوع من الجنون فعند الحديث بها يرقص الإنسان فوق جميع الأشياء “

كتاب القمر المربع.
كتاب القمر المربع.

تجليت همساً لحروف مبدعه نسجها قلم غادة ، الغادة التي تثور بالكلمات وتعشق باللهفة السكونية و تمزج المعقول فيما لا يعقل.

غادة بهذه السطور أدهشتني عندما تعمقت السرد في عالم غرائبي التركيب مزاجي الأحرف تائه الخطى ، بين الذي يوارب علي المصداقية وبين الذي لا يتحمل العقل تصديقاً له .

تلقفت القمر وحضنته برفق و طيب خاطر كون القمر رائعاً و الأروع أن يكون مربعاً ، متماشياً مع العصر و منسجماً مع تقلباته فمحاولة الولوج بالأدب الغرائبي الذي تقتحمه غادة في قصصها بشكل لا ينفصل عن واقعنا ولكنه يتجلي به و يندمج في تصور ٍ لحياة خارجية و نفسية لشخصيات القصص التي نقشها القلم بإصرار و شعور يعمل علي تحريك الشخوص والأحداث.

كقارئة تهت داخل نفسيات الشخوص و دار بي السؤال تلو الآخر: هل يعيشون ضمن حياة عادية أم تتقمصهم الأرواح ؟

لحياة أبطال القصص خيال مغرق في التفاصيل المدهشة بين الذي يحدث لهم و الذي لا يمكن أن يحدث و حدث ، لا يخضع تفكيرهم للمنطق عالم غرائبي تستولي عليهم أحداثه و تقودهم حالاتهم النفسية و المعقدة إلى التوهم بأنهم علي صواب و العالم مخطئ من حولهم .

في قصة سجل : أنا لست عربية ! تعيش الشخصية مع الأشباح تتحاور معهم تحلم بأن تزور أماكن طفولتها يمسكها الحنين و يكتنفها الأمل و يقع اليأس موقعه من آمالها لتعاود محادثة الأشباح تراهم و لا يراهم الأشباح الذين بمثل جنسهم تتحاور الشخصية بأكثر من قصة متضاربة مع بعضها تشعرك أنها تعيش بوضع غير طبيعي مثل الذي يحلم الحلم ويصدق كونه حدث فعلا ، فهناك تصرفات من الشخصية لا شعورية لكنها توهمك بحقيقتها

هنا تلعب غادة لعبتها مع الكلمات و المعاني فهي لا تبتعد عن اتجاهاتها فيما تكتب عادتا ، و تحاول كما سابقتها رشق القارئ بمعادلة حروفية لذيذة النظم مراتبة الأحرف فتنسجها متفردة و مدهشة ليتلقفها القارئ بشيء من الرضا و التقبل .

ذكرني القمر المربع ، بالسباحة في بحيرة الشيطان وامتزاجه مع رحيل المرافئ القديمة ، بمحاولة غادة اللعب بكلماتها و شخوصها و إدخالهم بحالة نفسية واقعية ، لواقع الحس الشعوري الذي تتبناه الشخصيات و تطوف من خلاله علي الأحداث ، تنتهج البحث عن مخاوف ومجاهل النفس البشرية و ما تحتويها من شذرات نفسية عكسية و إيجابية و كيفية معالجتها و تسليط الضوء عليهما من خلال سرديات الأحداث و مجاهرات الشخصيات بعضهما لبعض ولأنفسهما، شخصيات تفتقر إلى التوازن النفسي وغير سوية بكل المقاييس ، قد تفهم بشكل صحيح أو تستغرب ولكن في قصص غادة شيء من مواصلة التحدي و التلاحم وكذلك النفور بين الشخصيات و الواقع المعيش بين العوامل النفسية للشخصية و الداخلية وتعميق الشخوص بعالم الهذيان و الكوابيس و التي توضح الشخصيات كم بداخلها من اضطرابات و توتر وفقدانها بذلك السيطرة علي ذواتها .

في قصة ” جنية البجع ” قرأتها أكثر من مرة تمعنتها بشغف و أكثر ما شدني بها الحوار مع جنية البجع كيف تتسلسل الأحداث من الواقع إلى الخرافة ، مما يحدث في عالمنا و مما لا يحدث أبدا الحلم يصبح حقيقة ملموسة بكافة تفاصيلها و أنا واقفة حيرى في تفسير الأحداث ، فغادة لاتدع فرصة أمامي كقارئة كي أتنفس عن عالم شخوصها و أحداثهما الغريبة التي تشعرني بغرابية العالم و الخوض في عوالم المجهول من خلال تراتبية الجمل و فقراتها المتراشقة بحرفية فنان ، نحات ، يصقل الكلمة ويقدمها في قالب مغاير عن المألوف ففي هذه القصة زوجان مهاجران عن الوطن يسكنان باريس الزوج عاجز عن التأقلم مع مدنية باريس في حين الزوجة أعجبتها الحياة المتمدنة بعيداً عن بيروت ،وبانتهاء الحرب يطلب الزوج منها الرجوع إلى بيروت و العودة الي الحياة الهانئة في حين ترفض الزوجة ذلك و تتحاور مع جنية البجع علي رغبتها بعدم العودة و طلب الجنية أن تحقق لها أمنيتين بدل ثلاث وقبل أن تكمل كلامها مع الجنية تحيلها الجنية وزوجها الي تمثالين في الحديقة و تعيش الزوجة هذا الدور لدرجة أن أحد الصبية في الحديقة يمزق لها أحد جوارب ساقيها بمسمار ، و أن الطيور صادقتها و تعايشت معها ، هذه القصة الرائعة بالمجموعة أكثر ما شدني بها مضمونها المبدع بكافة التفاصيل فمزجت القاصة (وهي غادة )بين الأسطورة و الحقيقة الغائبة ، وجمعت بين الحقيقة و الحلم بشكل مبدع و الغرائبي فيها مقنع جدا ليس به اصطناعية بل أعجبني السرد كما قصص الطفولة سلس و بسيط ورائع مدهش و لذيذ و غريب بكل التفاصيل تتقبله القلوب كما العقول .

كما أعجبني سرد ” الجانب الآخر من الباب ” بنفس القدر الذي شدتني إليها “جنية البجع ” وهي قصة بطلتها صحفية لبنانية تحب و تتزوج ممن تحبه و تنجب طفلا يصاب بالحرب و يصبح مشلولا ، و يسافران به إلى باريس لمحاولة علاجه هناك ، يعمل الزوج و تبقي هي بالبيت من أجل طفلها تتقمصها أفكار الانتحار بسبب الحياة البائسة التي كانوا يحيونها و صعوبة التأقلم في باريس ، لكن من أجل الطفل تتأقلم مع هذه الحياة ذات يوم تلتقي بمهرج لبناني الأصل يحترف إضحاك الأطفال من خلال العمل مهرجاً لهم يقترح عليها أن يصبح مجالساً طفلها المعاق ، ومن خلال استعداد الأم لحفل عيد ميلاد ابنها يتأخر المهرج عن الحضور و يتلقي الأب نبأ مصرعه في حادثة سير و ترفض البطلة تصديق النبأ و تؤكد على وجوده مع طفلها ساعة موته ، ففي داخل البطلة أن المهرج لم يمت باقٍ مع الأطفال مستمر بإضحاكهم بهذه الحياة ، وهذا ما تود غادة أن تظهره للقارئ بقصتها لما تحتوي من مشاعر عن الأمل تدفع باستقبال الحياة و مصائبها بشكل أفضل فلا معني للموت بهذه القصة سوي استمراراً للحياة.

فوراء كل قصة حكايات ، و وراء غادة الكثير ، فبعد فراغي من قراءة كل القصص العشر التي يلتحفها القمر بطابعه المربع ، ترصد غادة الغربة بشكل قريب جداً لما عانته هي و ما يعانيه المواطنون اللبنانيون في الغربة وعدم التأقلم بين العادات و التقاليد العربية و الغربية .

في هذه المجموعة تحاول غادة تقديم نماذج يمكن دراستها وفق معطيات علم النفس ، منها انفصامات الشخصية ، و التوهم و الأشباح ، فعبر الهاجس القصصي لهذه المجموعة تناولت غادة مسائل غرائبية لم يجد علم النفس لها تفسيرا إلى الآن ، كقدرة النفس علي تحريك الأشياء ، و التقمص .

كما تطرح هذه المجموعة شخصيات هزتها النقلة بين عالمين غريبين أفقدتهم توازنهم ، فالغرائبية لواقع شخوص لم يتأقلموا مع واقعهم المأساوي الذي يتقاسمه الناس كما الشخوص نموذج لهم .

فمن خلال السرد غير المباشر و الرمزية المكثفة التي منحت القصص إيطارها القصصي بمرجعية غنية من الناحيتين الفنية و الجمالية.

مقالات ذات علاقة

أوشاز الأسلاف لداود حلاق.. سير التاريخ وتوطين أحداثه

المشرف العام

أحمد مصطفى الرحال يدرس أحوال يهود ليبيا

سالم أبوظهير

«السنوسي»: سيرة الدم من داخل معسكر في بنغازي

محمد الأصفر

اترك تعليق