الحسين بن عمر (عربي 21)
في الذكرى الثانية عشرة لاندلاع شرارة الثورات العربية من مدينة سيدي بوزيد التونسية في كانون الأول (ديسمبر) 2010، وفيما تشير البيانات الحقوقية الدّولية وتقارير المنظمات الأممية، إلى تدحرج لافت في مؤشرات الحريّة والصِّحافة ومُدركات الفساد…
وبينما ظلّت أشواق الربيع الديمقراطي تموج بين الانتكاسة والارتجاج، يتجدد السؤال من داخل حقل العلوم الاجتماعية: هل فشلت الثورات؟ وهل غرُبت شمسُها قبل أن تضيء الدياجير؟ كيف قَنعتِ الحشود الهادرة دواخل المدن والقرى المنتفضة بالعودة سريعا إلى غَياباتِ جُبِّها قبل أن تُشيّع جنائز أنظمتها الساقطة إلى حيث مثواها الأخير؟ هل تحمل الثورات بذور انتكاستها وفشلها أم أنّ نجاحَها رهينُ فهم تعقيدات معطلاتها؟
بقدر نجاح الأنظمة الأمنيّة والعسكريّة في كلّ من تونس ومصر في إعادة عقارب الزمن السياسي إلى ما قبل الشّرارة وقادِحها في أقلّ من عقد من الزمن، إلاّ أنّ الردّة السياسية والخيبة الاقتصاديّة في كلا البلدين لم تأتيا على مقوّمات البُنى الاجتماعيّة القائمة على روح المواطنة والتي كان للإرث الإصلاحي والتنويري بالغ الأثر في صونها واستدامتها. على العكس من ذلك، وبالرغم من الدّمويّة التي وُوجِهت بها ثورة 17 فبراير 2011 من قِبَل أعتى الأنظمة العربية دكتاتورية وشعبويّة، فإنّ معركة الإطاحة بجماهيرية القذّافي تركت نُدوبَا غائرة وأحيت نعراتِ قبلية وإثنية وعشائريّة لا تزال النخبة الليبية تكافح لإنهاء انقسام جغرافيا الدّولة ومؤسساتها وتناضل من أجل تضميد جراحات مجتمع -ما قبل الدّولة ومداواتها.
أيّ علاقة بين ما تشهده ليبيا اليوم من فورة نزاعات عسكرية دامية وتفتّت اجتماعي وتشظ سياسي ومؤسساتي وصراع على الثروة والسلطة والاعتبار وبين تواصل دور منظومتي القبيلة والعشيرة في الفضاءين السياسي والمجتمعي وتناميهما؟ لماذا يتواصل ارتهان الفعل السياسي من قبل الفاعل المجتمعي الليبي وتعقيداته القبلية والعشائريّة، عكس ما هو قائم في تونس ومصر، الدولتان الجارتان لليبيا؟ لماذا فشل التحديث في ليبيا في تثوير أشكال الولاء التقليدي للحواضن القبلية وما قبل حداثية وتحويلها إلى استحقاقات مواطنية؟
في هذا الإطار يتنزّل كتاب “ليبيا: الدّولة وما دونها: قراءة في مسارات التحديث من 1951 إلى 2001 م”، لمؤلفه خليفة علي حدّاد والذي اشترك في نشره كلّ من “مركز ليبيا المستقبل للإعلام والثقافة” و”دار الرواد للنشر” وقدمه د. حسن الأشلم؛ أستاذ الأدب العربي الحديث بكلية التربية بجامعة مصراتة. وقد اجتهد الكاتب خليفة علي حدّاد في تتبّع مسارات التحديث وتعثراتها بالدولة الليبية الحديثة طوال الفترة الفاصلة بين تاريخ إعلان دستور المملكة الليبية سنة 1951 وتاريخ قيام ثورة 17 فبراير 2011. ولم يغفل التقصي التاريخي مسح البنيتين الاجتماعية والثقافية اللتين بصمتا هندسة المشهد السياسي الحالي، بمختلف تعقيداته القبلية والاثنية والعشائريّة، ونقدها.
> فكرة الكتاب
يتقصّى كتاب “ليبيا.. الدولة وما دونها: قراءة في مسارات التحديث من 1951 إلى 2011″، فرضيّة شديدة التعقيد تتمثّل في تبيان أسباب فشل النخب الليبية، في كلّ المراحل اللاحقة لاستقلال 1951، في “كتابة عقد اجتماعي يحدد ملامح الهوية الوطنية الليبية الجامعة، ويرسم ملامح الكيان، ويفضي إلى فرض شكل للحكم يكون نتاج جدلية إيجابية بين السياسي والاجتماعي”.
هنا كان مناط البحث الذي حفر في خطورة إسقاط نموذج الدولة الجاهز وإداراتها، تنضاف إليه منظومة سياسية جاهزة، على منظومة مجتمعيّة ليبيّة حاملة لتشوّهات بنيوية عميقة، فيما يتعلّق بمفاهيم القبيلة والإثنية والجهويّة. وحفر الكاتب، على وجه الخصوص، فيما أسماها د. حسن الأشلم، مقدّم الكتاب، بالعلاقة الجدلية ذات الطبيعة الإشكالية المعقدة بين التحديث السياسي والتحديث الاجتماعي، معرّجا على “نقطة جوهرية ألا وهي التعليم بوصفه المرآة التي تعكس حقيقة التحديث في بعديها السياسي والاجتماعي”.
وقد نجح الكاتب “المتقصّي” في البرهنة والاستدلال على عقم مسارات التحديث المسقطة والسطحيّة التي انتهت إلى تفكيك شكليات الدّولة بدل تفكيك البنى التقليدية للمجتمع المناقضة ضرورة لمفهوم الدّولة. ليبقى التحدّي الأكبر أمام الليبيين ونخبهم هو ما أشار إليه د. حسن الأشلم من ضرورة “تشكل وعي جمعي حقيقي يخلق الانسجام بين التحديث الاجتماعي والسياسي”، بديلا أبديّا عن دعاة الفوضى أو ينتصر دعاة العودة إلى ما قبل ثورة 17 فبراير.
> السياقات الاجتماعيّة محرّكا وفاعلا سياسيّا
يؤكّد المؤلّف أنّ ما تشهده ليبيا، اليوم، من نزاعات عسكرية دامية وتفتّت اجتماعي وتشظ سياسي ومؤسساتي وصراع على الثروة والسلطة والاعتبار، “هي أحداث خاضعة لقوانين السببية وسنن الاجتماع الإنساني، وليست مجرد أحداث طارئة على خلفية ما شهدته البلاد منذ فبراير 2011؛ وإن بدت كذلك”.
وخير مثال على ذلك، وفق المؤلف، هو التشظي السياسي والاجتماعي والمؤسساتي الذي شهدته ليبيا، اعتبارا من 2011؛ والذي تمأسس سنة 2014 بظهور مؤسستي حكم، بأجهزتهما السيادية والتنفيذية والبرلمانية، في شرق ليبيا وغربها، والذي مازال ماثلا وقابلا للتكرار رغم التسويات الهشة التي توجت بتوافق جنيف 2021، دافعُ للتساؤل عن طبيعة الدولة التي أعلنت منذ سنة 1951؛ بإقرار دستور المملكة الليبية المتحدة، ثم توحيد الأقاليم الثلاث؛ طرابلس وبرقة وفزان، وعن صلتها بشروط تشكّل الدولة الحديثة؛ القائمة على حكم القانون وإعلاء رابط المواطنة واستحقاقاته بديلا عن الروابط التقليدية.
في ذات السياق، يضيف خليفة علي حدّاد أنّ عملية تتبّع السلوك السياسي للحكم الملكي، حتى سنة 1969، ثم الحكم “الجماهيري” حتى 2011، تمنح مادة خصبة لرصد الهوة بين الخطاب السياسي والتشريعي من جهة، والممارسة السياسية من جهة ثانية. ففي حين كانت الشعارات المنحازة للتجديد والتحديث والقطيعة مكثفة الحضور في الخطاب السياسي الرسمي، “ظلت الممارسة نُكُوصيّة ومُعلّية لروابط القبيلة والجهة والزّبُونيّة ووشائج ما قبل الدولة الحديثة”. وبالرغم من أنّ ظهور أنماط استهلاكية حديثة وارتفاع نسبة التمدرس بالجامعات مهدوا الأرضية، من حيث المبدأ، لتحديث الدولة والمجتمع، إلا أن ضعف المؤسسات التشريعية والرقابية والمدنية، وسيطرة السلوك الرّيعي في التعاطي مع الطفرة الاقتصادية، وتجذر البنى الذهنية والثقافية التقليدية، “حوّلها إلى عائق آخر أكثر تركيبا وتعقيدا، حال دون المضي في تحديث الدولة والمجتمع، وكرّس الغنائمية والزعاماتية”.
> دستور 1951 ومساعي تحديث الدولة والمجتمع
اعتبر المؤلّف دخول ليبيا مرحلة الحكم الدستوري، من حيث المبدأ، تأسيسا لنمط حديث من التنظّم السياسي والاجتماعي يتجاوز المرجعيات التقليدية وروابط ما قبل الدولة؛ التي ظلت المنظومة الاجتماعية قائمة عليها؛ بما يجاري أهم شروط دخول مرحلة التحديث السياسي؛ ومن بينها فصل السلطات، وقيام المؤسسات الحديثة؛ من برلمان وحكومة مركزية وأجهزة أمنية وعسكرية نظامية، ومساواة المواطنين أمام القانون، وتنظيم العلاقات التعاقدية بين الدولة والمجتمع، وداخل المجتمع، وفق مبدأ المواطنة.
كما عُدّت بعض فصول دستور 1951، تجاوزا جريئا للتراتبية الاجتماعية الموروثة وللفرز الاجتماعي وفق معايير تقليدية. ويكتسب هذا التجاوز أهميته عند تنزيله في سياقه الزمني والمكاني. فالمجتمع الليبي، حينها، كان محكوما بنواميس قبلية صارمة؛ ترتّب وفقها المكونات عموديا، سواء بين القبائل أو بين أفراد القبيلة نفسها. ففي حين كانت القبائل الكبرى؛ خاصة في برقة وفزان، تتمتع بالنفوذ السياسي والاقتصادي والحظوة، كانت قبائل أخرى؛ أدنى شأنا وأقل عددا، تكتفي بأدوار تابعة. أما داخل القبيلة نفسها، فكانت مكوناتها ترتّب حسب نسبها العائلي ونفوذها الاقتصادي، وقد بدا ذلك جليا حتى في تكوين الجمعية التأسيسية التي استأثرت القبائل الكبيرة والعائلات النافذة بجلّ مقاعدها.
أما في السياق الاجتماعي والحضاري؛ العربي الإسلامي، فلم تكن فكرة المواطنة واستحقاقاتها، حينها، قد تبلورت كشرط من شروط الانخراط في مشاريع التحديث والتغيير الاجتماعي، ولم تكن تمثل أولوية لدى النخب السياسية التي تولت الحكم في عديد الأقطار التي بدأت تتلمس طريقها بعد جلاء المستعمر الأجنبي. ومازال الانتماء إلى حواضن ما قبل الدولة الحديثة؛ من قبيلة وطائفة وغيرها، عامل فرز ومحددا للنفوذ والتراتبية الاجتماعية والسياسية، إلى يومنا هذا، حتى في الأقطار العربية التي شهدت تجارب تحديث؛ اجتماعي وسياسي، جريئة، نسبيا، قياسا إلى غيرها.
> تعدّديّة حبيسة الفرز القبلي والعائلي
لئن عرفت ليبيا منذ قيام الدولة الوطنية وإلى حين سقوط النظام الملكي، في الأول من سبتمبر 1969، انتخابات دورية؛ أفرزت برلمانات أدت أدوارا سياسية وتشريعية مؤثرة، فإنّ ذلك لا يخفي أن التعددية التي وسمت مختلف البرلمانات لم تضمن الانتقال من الفرز التقليدي؛ المناطقي والقبلي والعائلي، إلى الفرز السياسي الحديث؛ القائم على المشاريع السياسية والبرامج.
فطيلة ما يقارب العقدين لم تفلح دورية الاستحقاقات الانتخابية وتكررها في تطوير الحياة السياسية والبرلمانية، وظلت جلّ مخرجات الصندوق انعكاسا لميزان القوى؛ القبلي والاجتماعي والمالي، وظلت، معها، معظم المناصب الحكومية والوظائف العليا في الدولة غنائم من نصيب القبائل والعائلات النافذة، مع استثناءات قليلة لا تلغي التوجه العام في هذا الشأن. فمن 1951 إلى 1969، تداولت على السلطة 11 حكومة؛ أغلب من تقلدوا فيها رئاسة الوزراء من العائلات والقبائل النافذة؛ عددا أو مالا، ولم يكن بينهم أي رئيس وزراء من القبائل والعائلات ذات النفوذ المحدود، كما لم يكن بينهم أي رئيس وزراء من خارج الأغلبية الاثنية والمذهبية.
> تواصل معايير الفرز وإعادة إنتاج البنى الاجتماعيّة
يرى المؤلّف أنّ تواصل معايير الفرز؛ الاجتماعية والسياسية، التقليدية، أدّى إلى إفراغ شكليات التحديث؛ من انتخابات وبرلمانات وحكومات وتشريعات، من غائيتها ومضامينها، وإلى تحوّلها إلى أدوات لإعادة إنتاج البنى الاجتماعية دون تطوير يذكر. وأضافت الثروة الريعية، منذ بدء تسويق النفط، وتدشين مشاريع إنمائية بتكاليف مالية عالية، عقبات جديدة أمام التحديث السياسي، باستشراء الغنائمية والإثراء غير المشروع ونهب المال العام عن طريق المناصب والنسب وصلات القربى والمحسوبية ودوائر النفوذ.
وبالرّغم من ذلك، يقرّ المؤلّف بأن الحاصل، لما يقارب العقدين من التحديث، لم يكن منعدما. فعلى مستوى مأسسة السلطات، بدأت البلاد تسلك طريقها، ببطء، نحو ملكية دستورية؛ تتمتع فيها الحكومات بهامش حركة واسع في المهام التنفيذية، كما تلعب فيها السلطة التشريعية أدوارا رقابية تصل حد إسقاط الحكومات؛ وهو ما حصل في أكثر من مناسبة، وتفعّل فيها سلطة القضاء واستقلاليته عن السلطة التنفيذية، بما مكنه من إبطال مراسيم ملكية لعدم دستوريتها؛ على غرار الحكم الصادر في خصوص حل المجلس التشريعي الطرابلسي سنة 1954م.
> السياق الثقافي والاجتماعي وصعوبة التحديث
يشير خليفة علي حداد إلى أنّه يجدر الاعتراف بصعوبة مهمة التحديث في مجتمع ظل محكوما، لقرون، بنواميس قبلية صارمة، زادتها المساحة الجغرافية المترامية وغلبة الطبيعة الصحراوية وتواضع عدد السكان، ترسّخا، وحدّت من فرص التواصل، وحالت دون حدوث ديناميكية اجتماعية وتفاعلات ثقافية بين مختلف المكونات. وفي كل الأحوال، لم يكن الحيز الزمني الذي استغرقته تجربة التحديث السياسي والاجتماعي منذ إقرار الدستور وتأسيس الدولة الوطنية إلى حين الانقلاب العسكري، في أيلول (سبتمبر) 1969؛ والمقدر بأقل من عقدين، يسمح بالمضي في المراكمة وتأصيل القيم والمفاهيم الحداثية؛ في الدولة والمجتمع، والتطبيع معها في سياق ثقافي واجتماعي تقليدي نابذ.
> “الكتاب الأخضر”.. مشروع تحديث أم مسار تفكيك؟
يعود الكاتب على ما عرف بخطاب “النقاط الخمس” الذي ألقاه معمر القذافي في مدينة زوارة الأمازيغية، بتاريخ 15 أبريل/ نيسان 1973، والذي أكد فيه تعطيل كافة القوانين “الرجعية” واستبدالها بقوانين “ثورية” و”شعبية”، وتطهير البلاد من المعارضين؛ الذين أطلق عليهم وصف “المنحرفين”، وعلى منح السلطة والثروة والسلاح للشعب ومنعها عن أعدائه، وإطلاق الثورة الإدارية، والثورة الثقافية.
عقب الخطاب، مباشرة، باشرت الأجهزة الأمنية والتعبوية والإيديولوجية حملات واسعة لاعتقال المشتبه في خروجهم عن السياق الرسمي وسجنهم وإعدام بعضهم في الميادين العامة وساحات الكليات والثانويات، واقتحام الجامعات والمدارس، وحرق كتب الأدب والفكر والفلسفة واللغات والمسرح، والآلات الموسيقية الغربية؛ التي لا تتماشى والثورة الثقافية، وعمدت إلى التضييق على الخيارات الشخصية في اللباس والمظهر، وتشكيل “لجان شعبية” تتولى التسيير على مستوى المدن والقرى والقطاعات المهنية، وأخرى “ثورية”؛ بمثابة الجهاز الإيديولوجي- العقائدي- الأمني الذي يضمن الولاء للقائد ويتصدى لأي خروج عنه.
وفي سياق تأسيس مرجعية أيديولوجية لنمط الدولة الجديد، أصدر القذافي، سنة 1975، “الكتاب الأخضر”؛ الذي تضمن ثلاثة أجزاء؛ اتصل الجزء الأول منها بحل مشكل الديمقراطية عن طريق “سلطة الشعب”، وتناول الثاني حل المشكل الاقتصادي عبر “الاشتراكية”، فيما أطلق على الثالث مسمى “الركن الاجتماعي للنظرية العالمية الثالثة”. وجه القذافي معظم الجزء الأول من “الكتاب الأخضر” لتسفيه آليات الحكم في الدولة الحديثة؛ من برلمان وحكومة وانتخابات وأحزاب، معتبرا أن “التمثيل تدجيل”، وأن “الحزب هو الدكتاتورية العصرية”، وأن الانتخاب والاستفتاء “أقسى وأقصى نظام دكتاتوري كبحي”.
> “الحكم المباشر” بديلا عن الدستور
مقابل تسفيه مؤسسات الدولة الحديثة وأدواتها، قدم القذافي ضربا جديدا من الحكم المباشر عن طريق آلية “المؤتمرات الشعبية واللجان الشعبية”؛ التي تنطلق من المؤتمرات الشعبية الأساسية على مستوى المدن والقرى، وبالتوازي مع ذلك يتم “إنهاء الإدارة الحكومية لتحل مكانها اللجان الشعبية”، ومن ثم تلتقي أمانات اللجان الشعبية والمؤتمرات الشعبية في “مؤتمر الشعب العام”. وانسجاما مع منهج تسفيه آليات الدولة الحديثة، اعتبر القذافي أن مهمة التشريع؛ التي تتولاها المجالس النيابية، “باطلة وغير ديمقراطية”، وأن الدستور هو “الأسلوب الذي تبتغيه أدوات الحكم في السيطرة على الشعوب”، مقدّما “شريعة المجتمع”؛ التي تقوم على العرف والدين، بديلا عنه.
و”تلعب الجماهير أو الجماعات دورًا مهمًا. من وجهة نظر أيديولوجية، يتم تصوير هذه المجموعات على أنها مجموعات من الأفراد المرتبطين ببعضهم البعض من خلال روابط “طبيعية”؛ وهو مفهوم يشير إلى الخيال القبلي ويفترض تنظيمًا للمجتمع يكون فيه للجماعات الأسبقية على الأفراد الذين لا يكون لفعلهم معنى إلا في الحد الذي يتناسب مع المشروع الجماعي، أي مشروع الجماهير؛ ليس بالمعنى الذي تحدث به كارل ماركس عن جماهير البروليتاريا، ولكن بالمعنى القبلي والمجتمعي للمصطلح”.
> بين التحديث ومأسسة “البدونة”
يرى المؤلف خليفة علي حدّاد أنّ القراءة الموضوعية لمآلات التحديث السياسي والاجتماعي في ليبيا تذهب إلى أن المشاريع التي بدت، في منطلقها، هادفة إلى إحداث تغييرات عميقة لتطوير ثقافة المجتمع وتفكيك المنظومات التقليدية وتطوير البنى التحتية للدولة، وتحقيق رفاهية المواطن وإشباع حاجاته المادية، “لم تتجاوز التحديث المادي إلى التحديث الذهني والاجتماعي والثقافي والمؤسساتي، وآلت، في نهاية المطاف، إلى ضرب من “بدونة” السياسة والمؤسسات”.
إلى حدود ظهور الدولة الوطنية كانت المؤسسات الاجتماعية التقليدية هي الحواضن الحقيقية والصريحة للفرد، وكانت تراتيبها وأنظمتها وشرائعها وبناها الثقافية هي المرجعية التي يحتكم إليها، وتحدد أدواره ومكانته، وتوجه سلوكه الفردي والاجتماعي، وتصوغ رؤاه، غير أن الدولة الوطنية، خصوصا بعد 1969، أقامت مؤسساتها دون تغيير هذه البني التقليدية بما يتماشى ومتطلبات الدولة الحديثة وفلسفتها، فأضفت الصفة الرسمية عليها، وحوّلتها إلى فعل موجّه وممنهج بعدما كانت ثقافة وبنية اجتماعية تراكمية.
> مأسسة النظام الجماهيري والمحافظة على البنى التقليدية للسلطة
يخلص المؤلف إلى أنّ مأسسة النظام الجماهيري لم تفض إلى القطع مع البنى التقليدية للسلطة والمجتمع، فقد تحوّلت آلية “التصعيد”؛ التي يتم عبرها إفراز أعضاء المؤتمر الشعبي العام (ما يقابل البرلمان في الدولة الحديثة) واللجان الشعبية العامة (ما يقابل الحكومة في الدولة الحديثة)، ومنظومة “القيادات الاجتماعية” التي أضيفت للهياكل الأخرى، مطلع التسعينات، إلى إعادة إنتاج التراتبية الاجتماعية والنفوذ القبلي وشبكات الغنيمة؛ بما يضيّق دائرة المشاركة في السلطة والمال والاعتبار حتى داخل الأطر المحيطة بالنظام، لتتكثف السلطة / الدولة، مقابل ذلك، حول الحاكم الفرد وأسرته وحزامه الأمني والمالي والقبلي.
ورغم أن نظام الحكم في ليبيا يبدو نظاما فرديا مطلقا، منذ منتصف السبعينات إلى 2011، فإن حكم الفرد بنى، مع مرور الوقت، رافعة اجتماعية ومالية وأمنية، مثّلت الحزام الذي يضمن له الاستقرار ويمكنه من التحكم في التوازنات الاجتماعية والجهازاتية، ويحول دون نشوء وتمأسس أي نزعة مدنية معارضة أو نشوز منظم عن السياق.
> ثورة فبراير والانهيار السريع لشكليات الدّولة وأجهزتها
ينتهي المؤلف المتقصّي في نهاية بحثه عن مسارات التحديث في ليبيا بين 1951 و2011 إلى أنّه رغم التغيرات العميقة التي شهدتها البلاد خلال هذا الحيز الزمني في مجال التحديث المادي، خاصة بعد ولوج عصر الاقتصاد الريعي، فإن الانهيار السريع لشكليات الدولة وأجهزتها، ونكوص المجتمع إلى الحواضن التقليدية؛ القبلية والجهوية والاثنية، والتشظي العميق الذي فتّت البنى الاجتماعية، وتراجع قيمة المواطنة لصالح شروط فرز وتراتب ما قبل حداثية؛ مؤشرات دالة على أن التحديث المادي النسبي لم يرافقه تحديث اجتماعي وثقافي وذهني بنفس القدر، ما يمنح المشروعية للتساؤل عن تصنيف المشاريع السياسية والاجتماعية التي شهدتها البلاد، على امتداد ستة عقود، وعما إذا كانت مشاريع تحديث، فعلا، أم مجرد إجراءات قصيرة المدى وأدوات للحكم والضبط وضمان استقرار المؤقت، وعن جديّة النخب ومدى تملكها رؤى وأهدافا وغائيات لإحداث تغييرات بعيدة المدى من شأنها تجاوز البنى الاجتماعية والثقافية التقليدية، وعن ديناميكية المجتمع نفسه ومدى قابليته للتحديث في هذا الحيز الزمني في ظل تراكم الثقافة التقليدية على امتداد قرون.
ويضيف المؤلّف بالقول إنّ أسئلة التحديث السياسي والاجتماعي في ليبيا تزداد حرجا وتعقدا في ظل تهتك الهيئة الاجتماعية، وتشظي شكليات الدولة، وانهيار الأمن الفردي والجماعي، وتراجع مستوى المعيشة؛ ما يطرح أسئلة جديدة حول ترتيب الأولويات، في اللحظة الراهنة، وعما إذا كان التوافق على مشروع وطني جاد وواقعي للتحديث السياسي والاجتماعي طويل الأمد شرطا للخروج من المختنقات الحالية، أم أن أي مشروع تحديثي مشروط بالخروج من المشهد الحالي المأزوم؟
عربي 21، 4/2/2023