تراث

تراثيات.. قصيدتان في مديح المحبوب

عبدالله زاقوب

النخيخة (الصورة: عن الشبكة)
النخيخة (الصورة: عن الشبكة)

الأغنية الشعبية، الفاكهة الولهى، التي يعتاش عليها عشاق التراث ومحبيه، منذ الأزل البعيد، فهي المتكأ والرئة التي يتنفس عبرها المحبين والعشاق، والنافذة التي سمحت لهم تلك الظروف والازمنة، ان يعبّروا من خلالها، بدواعي عشقهم، ومواويل احزانهم، فصعوبة الحياة ومرارتها، وضرورات تأمين معاش أسرهم، كان يتطلب جهداً ومعاناة مضاعفة، لذا فقد كانت الأعراس منتدياتهم التي من خلالها وعبرها ابان العشاق والولهى صور حبهم التي ضمّنوها تلك الاغنيات التي أسموها، النخيخة،، و،، السواّقي،، الصورتين الغنائيتين اللّتين تميزتا بهما فنون منطقة الجفرة عن غيرها، والتي عُرفت بإيقاعاتها الباذخة، وصورها الفنية الماتعة والمعبرة على المستوى الوطني.

فالنخيخة تعني: الإيقاع الجماعي الذي يؤديهِ مجموعة من الفنانين الشعبيين المتمكنين من الإيقاع المتعارف عليه، وحفظ كلمات الاغاني المؤداة علي الطبل، وتمتاز بالتنوع والتباين من حيث الإيقاعات، وكلمات ومعاني القصائد ذات الدلالات الغنية والثرية المُعبرة والمشحونة بالعواطف والشجن الرهيف، و أما النوع الثاني من الايقاعات فهو الذي أُطلق عليه مُسمى، السواقي،، وهي ايقاعات خفيفة تؤدى غالباً دون مصاحبة اي آلة موسيقية، و تؤدى بشكل فردي مع ترديد المجموعة الصوتية او الحضور اللازمة المصاحبة للأغنية، ويؤدي النخيخة مجموعة من الفنانين لا يتجاوز عددهم الخمسة إلى الستّة، الذين يؤدون الايقاعات الموحّدة على الطبل بشكلٍ لافت وموزون، وقد يبرز احد الفنانين المتميزين والعارفين بتوقيع الإيقاع بشكلٍ ظاهر وملفت للنظر، ليضفي على الإيقاع العام نوعاً من التميز والفرادة .

وأغنية النخيخة ربما جاء جذر الكلمة من الربط الحاصل من جلوس الضاربين على الطبل وإناخة الإبل، او الرقص الذي كان سائد قبل عقود مضت وتؤديهِ النساء ويسمى النخيخ وهي قصائد :- تُبنى على روي موحّد، او قافية واحدة غالباً بمعظم قصائد النخيخة، وقد تميزت واحات الجفرة بمدنها، هون، ودان، سوكنة، بهذه الألحان والأوزان والايقاعات، وبرز خلال الأربع او الخمس قرون الماضية، حسب روايات العارفين بهذا الفن، الذين أجريت مع جُلّهم من الأحياء بالعقود الماضية لقاءات مسموعة موثقة، شعراء ومغنّين افذاذ، حفظت الذاكرة الشعبية لهم قصائدهم، وتبنت مؤخراً، جمعية ذاكرة المدينة بهون، طباعة هذه الحصيلة وهذا الكنز، حيث اجرت العديد من المسابقات في هذا الإطار، هذا الكنز الذي كاد ان يندثر ويُنسى… وتطوى صفحتهُ، كالكثير غيره من الأمثال والحِكم والأغاني التراثية .

ومن خلال هذه السانحة، نعرض لأغنيتين من هذا اللون، اتفق مؤلفي الاغنيتين، رغم بُعد الشقة بينهما مكانياً و زمانياً، على الكثير من الصور والالفاظ الواردة والمتداولة بالأغنيتين، وعلى رأسهما، او مفتتح الاغنيتين فأولاهما تسمت او تعنونت بـ (اسمِك على الورد) للشاعر العربي زوتو والثانية او الأخرى،، (اسمِك علي الزين)،، لشاعر لم يتم العثور على اسمه بالنصوص التراثية، وهذا ما يطلق عليهِ بالنصوصِ الأدبية، الفصحى، بالتناص، اي ورود او اتفاق نصٍ او اكثر على العديد من الصور والالفاظ والمعاني والمحسنات والتراكيب بتلك النصوص، فقد يكون هذا توارد للخواطر وقد يكون إعجاب احدهما بما انشد واجاد الآخر من خلال الصور او الاخيلة والالفاظ التعبيرية، ففي المقطع الأول لقصيدة الشاعر الراحل العربي زوتو:-

اسمِك على الورد طيب الصنة

انظاري شهنه

وغِيرك علم يا سزي ما بغنه

وفيه يرى ان اسمها مطابق لما سُميّٓ عليه، وهو وردة او وريدة او زهرة ربما، مؤكداً انه عشق هذه الفتاة او المرأة ولم يلتفت او يُعنى بالأخريات اللاتي يمتلكن الكثير من الصفات والميزات الجميلة وغير العادية.

واما المقطع الأول بالقصيدة المُناظِرة

الأخرى فهو يفتتح ب: –

اسمِك علي الزين وزينِك كمال

ولالك مثال

وخدِك شلع كيف ضي الهلال.

فيرى الشاعر هنا أن اسمها مطابق للكمال، فربما تكون كاملة او الكاملة والتي ليس لها نظير او شبيه، وتناظر الهلال بجمال خديها الرائعين المبهرين بهاءً واشراق… وبالبيت الثاني بالقصيدة الأولى نرى ونسمع الشاعر يقول: –

اسمِك عليّ الورد طيب الريحة

طفلة مليحة

تقيم الغلا كانت صارت صحيحة

جرسها عليّ البُعد تسمع ضبيحه

الليّا دار رنه

تحلف قطا في قربل رمنه

يستعيض الشاعر هنا عن الاسم بالصفة حيث يراها أو يصفها بأنها جميلة وباهرة الجمال، حيث يصفها بالمليحة، وبأنها ستحفظ الود والحب عندما يكون عفيفاً ضمن الأطر الشرعية والواضحة، وعلى البُعد يُعلن عن مقدمها بصوت حليّها التي تثير السامع، وكأنها طائر قطا قد وقع بحبائل معشوقه.

ويرى شاعرنا الآخر حين يصف محبوبته بقوله:

اسمك علي الزين وزينك يهبّل

غثيثك مخيّل

كما زرع رويان تاواً يسبّل

اسنون عاج وعيون تحلف قربل

نهار القتال

خذيت خاطري يا نظيف المحال

وهنا ينقلنا الشاعر الى وصف محاسنها كما بدت له، بأنها تُفقِد الرأي أو الناظر اليها عقله ولبه، وان شعرها وافر وغزير كزرعٍ خصيب أوان نضجه وإثماره، فالأسنان بيضاء كما العاج والعينان يُقسم كأنها بندقية مُعدة وجاهزة ليوم حرب وقتال.

وبالنقلة الثالثة بقصيدة الشاعر العربي زوتو نراه يصفها:

وغيرك علم يا سزي ما نريده

وحق العقيدة

واللي جرى بينا بالوكيدة

ولو نصير شايب وفي ايدي جريدة

وشيبي محنى

حبك سقط ما نبراش منه

ويخاطبها الشاعر هنا قائلاً برغم ان الكثير غيرك من الفتيات الجميلات اللاتي لهن من الصفات الكثير، إلا أنني تعلقت بكِ انتِ مقسماً ومؤكداً على ذلك بما تم بيننا، حتى أصير شيخاً طاعناً بالسن وبيدي عكازي او عصاي التي أتوكأ عليها، ورأسي مخضب بالحناء عند شيبته، فحبك تمكن بالقلب، ولن أبرأ منه مطلقاً، وفي إطار التخييل ووصف ما أصابهُ من ولهٍ وعشق يقول:

اسمك على الزين وزينك خذاني

بصوب ومعاني

بديت منسبل يابس الريق ضامي

ومن داك يازين صبغ الحناني

خشيت بالي

يا باهية يا شبه الغزالِ.

صفاتكِ وطلعتك الأخاذة، وبهائك الذي يسلبني التفكير أصبحت بسببه فاقد القدرة على التماسك، عاجز عن فعل أي شيء فقد تملكت كل أحاسيسي ومشاعري الشبيهة أنتِ بالغزال، الرقيق والوديع والبديع الصفات.

ويختتم الخال زوتو قصيدته بقوله:

اسمك على الورد طيب الروايح

بالمسك فايح

خدودك على البُعد بانن سمايح

ولي قلب من داك مجروح طايح

شقي ولاتهنا

في جرته بوالغثيث المثنى.

يعودُ الشاعر الى ما بدأ به، مادحاً صفاتها ومحاسنها بقولهِ أنكِ تِبدين عطرة وبهية كعبق المسك وعطر الجنان الفوّاح وخداك اللذين يبدوان جميلان ومشرقان، وأني لم أعُد أملك مفاتيح قلبي، فقد دخلتهِ وملكته، وأنني صرتُ شقياً بهذا الحب ولن امتلك الراحة والهناء إلا بوصولنا الغاية المثلى لحبنا.

ويستمد الشاعر المناظر المزيد من الدفاعية المؤكدة على حبه بقوله:

اسمك على الزين وزينك قليل

ولالك مثيل

غرض صادني كيف ضرب الثقيل

أنا ما طقت يوم عايش ذليل

وخشت البال

ويا عالم الحال هوّن الحال.

يصرّح هنا بأن من يشبهها أو على مثالها هن قليلات، وليس لها مناظر على الإطلاق، وإن ما أصابني وصادني كضرب الرصاص، وإن لم يتحقق حلمي، سأظل ذليل وناقص الأهلية ويا عالم بحالي وبكل الأحوال ارحمني من هذه الأهوال التي اطاحت بعقلي وقلبي وجسدي.

وعندما يلتفت لسلطة المجتمع المتمثلة في المجتمع، الأسرة، المحيط الاجتماعي، الأصدقاء، والفضوليين ينشد:

اسمك علي الزين وزينك نحسه

وفي الجاش رسّىٰ

وللناس لا نذكره ولا ندسه

وعلي خويلتي لو يديرو العسه

ويردّو البال

نجي وأردك يا ظريف المحال.

يخاطب المُحب حبيبته بقوله لستُ منشداً أو متغزلاً فحسب، بل إن هذا الحب الموغل صار يدبُ ويسري داخل جسدي وأحاسيسي، وفي القلب وكافة مفاصل ومسارب جسدي رسّى مراكبه، وسوف لن أبوح للناس به، وإن عاتبوني لن أنكره، وإن تمكنوا من السُبل والطرق للوصول اليك، ايتها الظريفة البهية.

ومادحاً أصولها، وحسن ادراكها للمعاني الخفية الملتبسة ونفاذ مشاعرها وأحاسيسها لما يبغي الوصول اليه بقوله:

اسمك على الزين وزينك وصول

وتحضي القول

ومشتاق لك كيف شوق الرسول

وانتِ زاد وفيّ على ما نقول

وقولي تعال

ولا يشغلك قوت قالت وقال.

يمدح هنا أصول أو أصل محبوبته وأنها تستحق الشعر والغزل والإشادة بالمناقب والصفات التي أوردها بالقصيدة المحسوس منها والمعنوي، وأنا بغاية الشوق لك كما أشتاق لرؤية الرسول الكريم، فأنظر الى صورة المبالغة والحد الذي وصل اليه من الهيام والغرام كي تقتنع بما يحس ويشعر به وما يعمل بصوره من شوق وحنين، ولك أن تضيفي على ما قلته من طرفك بقولكِ تعال دون أن يهمك أو يشغل بالك قول القائلين مختتما قصيدته ومضيفاً على مديحه السابق قائلاً:

اسمك علي الزين وزينك روايع

وتبرى الوجايع

ويا ونس يا أم العيون الوسايع

ونا عبد مملوك دوم طايع

كسوبة حلال

ولى لاخرة يوم طُلب السوال.

يلخص الشاعر أنشودته مجمل مديحه بأنك رائعة بل يجمع ذلك على (بالروايع) ومهما حصل وجرى أو أصابني من هوى هذا العشق، والصبابة، فإنني سأشفى واتعافى وسأكون لك عبداً مطيعاً وعاشقاً مخلصاً، في صورة مباركة من قِبل الأشهاد. وسنكون نحن الاثنان رفقاء متحابين حتى قيام الساعة والنداء بالسؤال.

وختاماً: تتفق وتتضافر القصيدتان، وتتجاسر المشاعر والأحاسيس لدى الشاعرين في صور عديدة منها:

– الغزل والتشبيب بمحاسن وصفات وقيم المعشوق وحُسن التربية والأصول التي يعود اليها المحبوب.

– التخييل والجنوح الى المفارقة، ومنح المعشوق أو المحب صفات طهرانية مفارقة، حتى انه يشبّه شوقه لمن أحب بشوقه لملاقاة الرسول عليه الصلاة والسلام.

– الاستعانة بالظواهر الطبيعية للتشبيه كالقمر والهلال وتارة كالغزال لإيصال المعنى بأنها ليس لها مثال أو شبه بين النساء، وإن كن على قدر من البهاء والجمال.

– الارتهان للمعشوق وربط ذلك بأنه سيكون مخلصاً ووفياً الى يوم يبعث الناس، والدعوة إلى الحساب.

– رغم ضيق المساحة المكانية بالواحة ساحة القول، إلا أنهما لا يعولان على ما يقول الآخر إرضاءً للحبيب، وسعياً للظفر به ونيل رضاه، والقبول بالتلاقي بصورة شرعية، وصولاً لإعمار الكون وبناء أسرة سعيدة.

مقالات ذات علاقة

تقديمة أوبريت “حلّومة”

المشرف العام

الإتبَاعُ في اللَّهْجَةِ العامِّيَّةِ اللِّيبيَّةِ.

جمعة الفاخري

«المرسكاوي».. موسيقى مرزق الساحرة

أسماء بن سعيد

اترك تعليق