بئر قديم
تراث

بينَ عمرٍو بنِ كلثومٍ وحسن لقطع

يفتخرُ الشُّعَرَاءُ فِي كلِّ العُصُورِ بصنائِعِ قبائلِهِم، ومآثرِهَا، وأمجادِ أبنائِهَا، ومن أشهرِ قصائِدِ الفخرِ في الشَّعْرِ العَربيِّ قصيدَةُ عمرٍو بنِ كلثومٍ التَّغلبيِّ التي يفتتحُهَا بهذا البَيْتِ:

أَلا هُبِّي بِصَحنِكِ فَاَصْبَحِينَا * وَلَا تُبْقِي خُمُورَ الأَنْدَرِينَا

ويمضي الشَّاعِرُ مفتخرًا يُجَاوِزُ حَدَّ الغُرُورِ، ويفوقُ آفاقَ المُبَالِغَةِ، ويتعدَّى قفزاتِ المَجَازِ المُعْجِزَةَ، حتَّى يصلَ بإنشادِهِ مفتخرًا بِقَوْمِهِ:

وَنَشرَبُ إِنْ وَرَدْنَا المَاءَ صَفْوًا * وَيَشْرَبُ غَيْرُنَا كَدَرًا وَطِينَا

ويسترسلُ ساردًا بُطُولاتِ قومِهِ، وخوارقَ أهلِهِ، ومعجزاتِ بني جلْدَتِهِ فيقولُ:

وَقَد عَلِمَ القَبَائِلُ مِنْ مَعَدٍّ * إِذَا قُبَبٌ بِأَبْطَحِهَا بُنِينَا

بِأَنَّا المُطْعِمُونَ إِذَا قَدَرْنَا * وَأَنَّا المُهْلِكُونَ إِذَا اِبْتُلِينَا

وَأَنَّا المَانِعُونَ لِمَا أَرَدْنَا * وَأَنَّا النَّازِلُونَ بِحَيْثُ شِينَا

وَأَنَّا التَّارِكُونَ إِذَا سَخِطْنَا * وَأَنَّا الآخِذُونَ إِذَا رَضِينَا

وَأَنَّا العَاصِمُونَ إِذا أُطِعْنَا * وَأَنَّا العَازِمُونَ إِذَا عُصِينَا

وَنَشرَبُ إِنْ وَرَدْنَا المَاءَ صَفْوًا * وَيَشْرَبُ غَيْرُنَا كَدَرًا وَطِينَا

عمرٌو بنُ كلثومِ كانَ يمدحُ قومَهُ، اِنْتِشَاءً ببطولاتِهِم، وافتخارًا بصنائعهم ووقائِعِم – وُجِدَتْ أم لم توجدْ – فهو مُبَالِغٌ حَدِّ الانزلاقِ إلى هاويةِ الكذبِ أحيانًا. وإن كانَ يعنينَا من قصيدتِهِ التي رُبَّمَا قد فاقتِ الألفَ بيتٍ، بحسبِ بعضِ الرِّوَاياتِ، بَيْتُهُ الفردُ الجميلُ نسجًا ومعنًى وَمَجَازًا:

وَنَشْرَبُ إِنْ وَرَدْنَا المَاءَ صَفْوًا * وَيَشْرَبُ غَيْرُنَا كَدَرًا وَطِينَا

ومعنى البَيْتِ واضحٌ جليٌّ لا يحتاجُ تفسيرًا ولا توضيحًا، فَقَومُهُ يَمْنَعُونَ المَاءَ، فَيَحْرِمُونَ غَيْرَهُم منَ القبائلَ التي تجاورهم من أن تشربَ المَاءَ الصَّافِيَ قَبْلَهَا، وإنما تسترشفَ قبيلةُ الشَّاعِرِ (تغلبُ) المَاءَ الصَّفْوَ لِتَتْرُكَ لغيرِهَا السُّؤرَ، كَدَرَ المَاءِ، وَثُمَالَتَهُ، وَالطَّينَ اللَّزِجَ غيرِ الصَّالِحِ للشُّرْبِ في قُعْرِ البئرِ.

بئر قديم
الصورة: عن الشبكة.

قد يبدو لنا أنَّ الأمرَ بسببِ قوَّةِ تغلبِ، قومِ الشَّاعِرِ، ومنعتِهِم ومهابتِهِم، هذا جزءٌ منَ الحقيقةِ، لكنَّ الجزءَ الثَّاني أبشعَ وأشنعَ، فمن يُجَاوِرُونَهُم أليسَ لهم حقُّ الجِوَارِ، وَحَقُّ تقاسمُ ضروراتِ الحياةِ، ومتطلَّباتِ العيشِ، وموجباتِ الوجودِ، فَضْلاً عن حقوقِ النَّسَبِ والقُرْبَى؟ وكلاهما موجودٌ غالبًا..

فأينَ هيَ فضائلُ العَرَبِ ومكارمهم، ونبلهم وكرمهم ومروءتهم التي تُضربُ بها الأمثالُ ..!؟ إن هذا البيتَ ينسفُ كلَّ تلك القيمِ العظيمةِ التي كان يتحلَّى بها العَرَبُ في جاهليِّتِهِم، ثمَّ ترسَّخَتْ وَنَمَتْ وَرَبَتْ واستوَتَ على سُوقِهَا بعدَ إسلامِهِم..!!
أما حسن لقطع فهو يمدحُ الأجوادَ، أهل الجودِ والكرمِ والتضحياتِ، كبارَ النُّفوسِ، عظيمي الفعالِ والخصالِ، والصَّنَائِعِ، وقد يكونُ هوَ واحدًا منهم، وقد يكونونَ أهلَهُ، ومن هم في محيطِهِم، من جيرانِهِم، منَ القبائلِ التي تساكِنُهُمُ الدِّيَارَ، وتقاسِمُهُمُ العَيْشَ، وتشاركِهُمُ المَضَاربَ والمَشَاربَ وَالمَرَابِعَ المَرَاتِعَ. اسمعوه يقولُ عنهم في موقفٍ يشابُهُ موقفَ عمرٍو بن كلثوم:
لجواد يلزموله نين يَرْوَى شريبهم * حَتَّى والمناهل نازحات نزاح
فممدوحوهُ، أيًّا كانوا، يمنعونَ أنفسَهُم، وإبلَهَم وشياهَهُم وُرُودَ المَاءِ (المَنَاهِلِ)، حتَّى يَشْرَبَ من يطلبُ المَاءَ منهم، ويرتوي، حَتَّى وإن كانَتِ المياهُ قليلَةً شَحِيحَةً، والآبارُ جَافَّةً مُعَطَّلَةً.
ذلِكم – لعمري- منتهى الكَرَمِ، وذروةُ المُرُوءَةِ، وَقِمَّةُ التِّضْحيَّةِ والإيثَارِ؛ فهم يؤثرونَ غيرَهُم على أنفسِهمِ بالسُّقْيَا وَقْتَ انعدَامِ المَاءِ، وَشِحِّ المَنَاهِلِ، وَنُضُوبِ الآبَارِ، تَوَاضُعًا وإيثارًا وعطفًا ورحمةً وإشفاقًا وإرفاقًا وجودًا وكرمًا ونبلاً.

فيمَا كانَ قومُ الشَّاعِرِ التَّغلبيِّ يؤثرونَ أنفسَهُم على طالبي المَاءِ وَمُحْتَاجِيهِ، ممَّن هم حولَهُم مِنَ الخَلائقِ أَثَرَةً وَأَنَانِيَّةً وَبَطَرًا وَغَطْرَسَةً واستكبارًا واستبدادًا..

ولا أَحْرِمُكُم بعضَ أبياتِ هذِه القصيدَةِ المُدْهِشَةِ قِيمَةً وَنَسْجًا وَمَعَانِيَ عظيمةً ، فإليكموها:
يقولُ الشَّــاعِرُ حسن لَـقطع – رحمه الله – :

تنشد عَلَى لجواد مَطْوَل سريبهم .. لو كان خاطري فاضي لهم مرتاح

لجواد لا تفارقهم وجيبكْ يْجيبهم خِذْ إسعافهم ديما مْعاهم راحْ

لجواد اسمهم فيهم أملح سريبهم بِأسعاد مدح مِ الطَّالب أدنى ما لاح

لجواد كلّْ منقض فيه ودَّك أتجيبهم * لهم أحقوق ما يوفن عَلَى المدَّاح

لجواد جارهم بدَّا أدنى من قريبهم .. اِيبَات بين قَدره والحَرَم مرتاحْ

لجواد يلزموله نين يَرْوَى شريبهم * حَتَّى والمناهل نازحات نزاحْ

لجواد هم أولاد هلال معقب عقيبهم * اللِّي ما بعدهم نسل ناس املاحْ

لجواد بِهْ ايْقوم النَّصرْ حَتَّى عطيبهم * عليه ينزلن في الكرب عشر أملاحْ

لجواد دايمًا لازال رابح حبيبهم * حتَّى في المنام إن جوا فرج وأرباحْ

لجواد لو نزل لو طار واقع طليبهم * دباير نجاه بْهن يْطيح اطياح

لجواد قطِّعن روس الدَّوَابِر ونيبهم * عليهم تفرسن جِمْلَةْ النَّبَاحْ

وتمِّ الخروف ايْعَضّْ في وذن ذيبهم * اللِّي قبل عادي غالب الشَّحْشَاحْ

لجواد يرسلوا لْهم طرف كاغط يْجيبهم * ما تقول شي كانوا اِسْبَاعْ بَيَاحْ

تَقَّايَةْ المَضَمَّنْ وين عَكَّف سَبِيبهم * لا ما اِنْقِرْ عالي الزَّنِيفْ ونَاحْ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــ

#التعريف_بالشَّاعِرِينِ:

1- عمرو بن كلثوم بن مالك بن عتّاب، أبو الأسود، من بني تغلب. 39 ق. هـ / ? – 584 م شاعرٌ جاهليُّ، من
الطبقة الأولى، ولد في شمالي جزيرة العرب في بلاد ربيعة وتجوّل فيها وفي الشام والعراق ونجد.
كان من أعز الناس نفساً، وهو من الفتاك الشجعان، ساد قومه (تغلب) وهو فتىً وعمّر طويلاً وهو الذي قتل الملك عمرًا بنَ هندٍ.
وأشهر شعره معلقته التي مطلعها (ألا هبِّي بصحنك فاصبحينا ……).
يقال: إنها في نحو ألف بيت وإنما بقي منها ما حفظه الرواة، وفيها من الفخر والحماسة العجب، مات في الجزيرة الفراتية.
قال في ثمار القلوب: كان يقال: فتكات الجاهلية ثلاث: فتكة البراض بعروة، وفتكة الحارث بن ظالم بخالد بن جعفر، وفتكة عمرو بن كلثوم بعمرو بن هند الملك، فتك به وقتله في دار ملكه وانتهب رحله وخزائنه وانصرف بالتغالبة إلى بادية الشام ولم يُصَبْ أحدٌ من أصحابه.

2 – هو حسن احميدة عبد الرحمن علي إبراهيم علي اصليب ادخيِّل المهابي الفاخري.
الشَّهِيرُ بِـ (حَسَن لَقْطَع) ، وَسَبَبُ شُهْرَتِهِ بِهَذَا الاسِمْ أَنَّهُ كَانَ فَاقِدًا لِإِصْبَعَيْنِ مِنْ يَدِهِ اليُمْنَى (البِنْصِرِ وَالوِسْطَى).
يُرَجَّحُ أَنَّهُ وُلِدَ حَوَالَى عَامَ 1872م، وَتُوِفِّيَ عَامَ 1952م، وكانَ قَدْ تجاوزَ الثَّمَانِينَ مِنْ عُمُرِهِ، قضى الشَّاعِرُ مُعْظَمَ حَيَاتِهِ في مَدِينَةِ اجدابيا.

مقالات ذات علاقة

الإبرة.. لبوجلاوي

ناجي الحربي

يزيد غششهن

المشرف العام

يا طير يا طيار

المشرف العام

اترك تعليق