طيوب عربية

 الكُمبارس

عبدالكريم الساعدي | العراق

من أعمال التشكيلية شفاء سالم
من أعمال التشكيلية شفاء سالم

  هناك حيث مقاهي الظلّ، ضجيج أسى وأحلام يقظة تحلّق في مستنقعات يابسة، منفعلة بأوهام التخيلات، ثمة مقهى تقع في طرف زقاق منسي، تعجّ بالحالمين، ينتظرون إطلالة مندوب أستوديو الإنتاج كلّ يوم، علّه يشير بسبابته على أحدهم؛ ليؤدي دوراً صغيراً في فلم، أو دوراً هامشياً على خشبة المسرح، أي دور كان، خليفة، تاجراً، سكّيراً، مليونيراً، جندياً، أي دور حتى لو كان قوّاداً، كانوا مهووسين بالسينما، يتقاضون أقلّ الأجور ليسدّوا رمق الإملاق، لا أحدّ منهم يستطيع الفكاك من أسر العيش في الظلّ، يتنفسون أحلامهم خلف الكواليس، إلّا هو، كان يحلم أن يكون نجماً، لكنّه لم يفلح، كان منسيّاً، منفياً، يفكّر في تزيين صومعته، قابعاً في صمته، محدّقاً في سقف الزمن، يرمي حجراً في الفراغ، يتوسّل أحلامه لمّا بدا يجوس قتامة الخريف. يطلّ على عالمه المنتظر من ثقب إبرة، يرتدي ثوب الكُمبارس منذ عشرين عاماً، يمتطي الحلم حصاناً في ميدان المتاهة والضياع. كثيرون فتحت لهم أبواب السماء، اعتلوا صهوة المجد صدفة، وآخرون لفّهم نسيج العنكبوت ليخوضوا في وحل النسيان.  يفتضّ صوتُ أحدهم صمته:

 – الريجسير قادم.

تشرئب الأعناق، الأبصار تمتدّ نحو باب المقهى، تنطلق الأحلام مرفرفة بأمل دور صغير، بيد أنّه تجاوز الجميع. أسمع وقع خطواته، أتوكّأ على التفاتة أمل، تتهودج نظراته فوق ملامحي، رعشة تسري في جسدي، أتأرجح على خيط نور، فأنا ما زلت وسيماً، حاذقاً، أتقنت كلّ الأدوار المذلّة، تلقيت صفعات وسباب حتى لامسني الجنون، يأسرني الصوت:

 – أنت .

 أرتكن إلى نرجسة الروح؛ كي لا أنطفئ، مختلطاً بتلة من الهواجس، لأبقى صامتاً رغم دهشة الحضور، حدّق الرجل في وجهي مبتسماً على غير عادته، يتفرّس ملامحي، وكأنّه يمعن النظر في مرآة لم يرها من قبل، جلس لصقي، ناولني حزمة من الورق، أكبحُ استغرابي، لهفتي، لمعرفة الدور، أفكر بقلق شديد، عشرات الأدوار أسندت إليّ، لم تتجاوز جملة، جملتين، مشهداً صغيراً، مشهدين، فما بال هذه الأوراق؟. يقدّ صمتي بصوت أقرب للهمس:

– أنت محظوظ، ستؤدي دور البطولة هذه المرة أمام ” كاميليا”، لا تبرح مكانك.

” الكُمبارس” عنوان فلمٍ جميل، يسرق ابتسامة شفيفة من شفتيه الملتهبتين بالصمت، يبدو أنّي ما زلت على قيد الحياة ، تنفتح له كوة، يطلّ على مقهى النجوم، ينظر عبر الممر المؤدي إلى معبد الجمال، معبد منثور بأزهار النرجس، ينثّ سحراً، تظهر له كاميليا بكامل زينتها، كانت تنتظره، يحدّق فيها، يشمّ عطرها عن بعد، يتشربه بعمق، يغرق فيه ثملاً. ابتسامتها، شفتاها المنقوعتان بماء الورد، بياضها، يجرح شغاف قلبه، يبهج حواسه، سأقيم عزاءً لكلّ ذكرياتي النابضة بالجفاف على شرفة رقّتها، شرفة مغطّاة بالنرجس وزنابق الدفء، وأمارس بعض جنوني في جلال يليق بروحي التائقة للتوهج، سأتهدّج في البروفة كما نسمة صيف على ضفة جدولها، ستعشق كمبارس أتقن دوره شغفاً ببريق عينيها، أكاد أقترب منها، أختلس همسة عطرها، أتعرى شوقاً لأنفاس رعشتي، سرور وحشي ينتابني، تستعر فتنتها، تحتلّني ابتسامتها، أرتعد من ذات الصوت:

 – الريجسير قادم.

أهرع إلى باب المقهى، الحالمون يحلّقون حول فجر أمنية، يطاردون حلماً ضبابي البهجة، يَتْلون رغبات بسيطة، لا خيار لهم سوى أن يكونوا جزءاً من المشهد. مندوب أستوديو الإنتاج يحرث ملامح الحضور بنظراته، يتجاهلني، يشير إلى أحدهم بطرف سبابته، تنطلق السيارة وسط ذهولي، العرق يتصبّب من جبهتي، أرتطم بوجه الحيرة، ألتفت إلى يمين الوجع، أحدّق في اللافتة المنتصبة وسط الجدار، أقرأ حروفها بالمقلوب  “مقهى النكرات”، أغرق في صمت يبوح بالدموع، يسكرني كأس الخيبة، ينخر فاكهة الخيال،

” هل الحلم خرافة؟، أيمكن أن يكون حقيقة ذات يوم؟ “. قهقه بصوت عالٍ،

 ” أنّى للثمل أن يحلم ولمّا يتبيّن الخيط الأبيض من خيط النسيان؟”.

 يمضي وحيداً في أساه، يحصي تخوم الذكريات، تتزاحم خلفه أزمنة شائهة، كان الطريق أضيق من خطواته.

 

 

مقالات ذات علاقة

هكذا تحدث الأسعد الجميعي

المشرف العام

مديح ظل العاشق برهانه

إشبيليا الجبوري (العراق)

ترجيعة اليعــربي

حسين عبروس (الجزائر)

اترك تعليق