أجل: عندما لا تعثر عَلَيَّ الكلماتُ، أنا ضائع. الكلمات التي كانت في يوم ما تناديني، لم أعد اسمعها كما كنت قبل أن ينهار جسدي. كان كل شيء تحت أصابعي يتحول إلى كلمات، المتحرك والساكن والعصيّ واللين، النساء والأحلام والطعام والمدن والبحار والأصدقاء / كل شيء، التاريخ والحكمة، وسفر الأنبياء، والجنود، ولغة الرياح، والظلال، وقداسة العزلة.
رائحة الخوف تصّاعد من خطواتي، بينما أقطع الشارع بصعوبة، مرتابا وحذرًا من تهوّر السيارات المسرعة، أضربُ الإسفلت بوهن صوب الضفة الأخرى، حيث تربض حديقة ميتة، كانت في يوم ما سجنا، يسمى بورتا بينيتو؛ فيما طلقات الرصاص تحدث ضوضاء حدّ التقاطع؛ فيما الثوار المتربّصون فوق عربات الدفع الرباعي، حاملات المدافع الرشاشة لا يكفون عن إطلاق نيرانهم الطائشة؛ فيما ثلة زرازير تجفل بكثافة لا أثر لها؛ فيما أصوات تكبير ترتفع بخشونة تجرح لون السماء. كنت كهلا، وعليلا أمشي بوهن دونما إثارة أيما شكّ في كوني محض ظلّ يتعثر. فما من أحد هنا، يمكنه الإصغاء لروحي. أنا نكرة. حتى العجوز أمي، بعد اعتلال جسدي، صارت تزدريني؛ فلطالما دللتها واحتفيت بها، جلبت لها اللوز والرمّان، والجوافة التي تحبّ. كان ذلك قبل أن تتهدّم أركاني؛ حتى أننا لا نلمس درهما واحدًا من معاشها الضماني. أمّا الآن، وقد تحزّبت الصحفُ وتمذهبت الإذاعاتُ، والتي على كثرتها لا تقيم وزنًا للأدب ومريديه، ضاقت اليدُ وغابت الحيلة؛ إذ غدا المجال نهباً للمتسلقين من دهاقنة السياسة؛ فهم وحدهم من يهيمن الآن على المشهد؛ وبذا لا مناص من الاتكاء على معاش العجوز. كانت هذه حلقة الضعف التي جعلتني أستجيب أخيرًا لذلك الخبر المتعلق بتعويض المحاربين القدامى، الذين زجّ بهم في حرب تشاد.
من بعيد، بانت واجهة مقر المنظمة. هناك حيث شجرة التوت. الزحام على أشده. وكلما اقتربت أكثر، بات من المتعذر، محض التفكير في اختراق الحشد الصاخب والمتهالك بعنف، دونما انتظام حول شبّاك ضيق، بالكاد يتيح رؤية رجلين غاضبين، كانا يرتديان سترات عسكرية مرقّطة، ولا يكفان عن تعنيف القطيع المتدافع بمناكب عشواء.
كم آلمتني رؤية سحناتهم المدبوغة بعراء الفاقة، وأيديهم الخشنة، المتصالبة والمعروقة وهي تتحفّز هائجة، أو تتعلّق بقضبان النافذة الحديدية ملوحة بأوراق مجعلكة، لكي يُتاح لأصحابها تسجيل أسمائهم ضمن قوائم المحاربين القدامى في تشاد ولبنان وأوغندا وغيرها من مناطق الشؤم، لعلّهم يظفروا أخيرا ببطاقة تعريف تثبت رسميا، كونهم من متضرري تلك الحروب التي خاضوها رغمًا عنهم. يا الله هل يكفي أن يكون المرء جريرة جور، ومنجم إجحاف، وصناعة غبن وجهل ومرض وخديعة، لتنصفه الأقدار بعد لأي، بصفة الضحية. دلّني أحدهم على لوحة إعلانات، أُسندتْ بإهمال حدّ الحائط، على يمين باب المقر المقفل. دونت في مفكرة جيب أسماء الوثائق المطلوبة، وعدت أدراجي خائبا، أفكر فيما سأقوله للعجوز، والتي تظن بأنني سأقبض تعويضا ماليا مجزيا، حال مثولي أمام اللجان المختصة.
عندما شرعت في كتابة روايتي التي أسميتها: ثلاث نملات تعبر كتابا، كنت أغادر نومي وأنا أفكّر في الحياة وحدها التي يتعين عليّ إنقاذها لدواع كثيرة، من بينها مكابدتي الطويلة للمرض، وأن ما يحيط بي أمسى مشرعا على خراب مفتوح. لعل هذا ما يسمّى بالفوضى المستدامة. وأن الموت وحده هو ما يكتسح عناوين الوقائع في هذا الوطن. لذا تعذّر هنا، إفشاء كل شيء، كما ترتّب على الكلمات أن تكون أكثر تمهّلا وحيطة، وهي تروز ما يقال. ليس خوفًا، أو تحفّظا، أو خشية فضيحة؛ إنما تحاشيًا لتطفّل الغثاثة، لحظة ثمالة المخيلة. ولأنني لست بالسارد الدربة؛ بل محض منقّب هاو، وحفّار ذاكرة يبحث عن نفسه، قد اقترحت هذا التربّص، بالقدر الذي يتيحه التحايل على مقتنيات السرد وآلة الراوي، مستأنسا بين وقفة وأخرى، التزود بكثافة الشعر في محل السرد. هذا ما تبدّى حين نذرت مخيلتي لاستدعاء تلك الصور والحكايات التي تتعلق بتقاليد الثكنات. فيما لم تكن طرابلس في الواقع سوى ثكنة. لذا كتبتُ ما كتبت، فقط كمحاولة لإعادة تأثيث المباد من الذاكرة المهجورة، من الإنسان الذي تخلى عن وجدانه بدءا من تلك اللحظات التي شهدت نزوح الشعر عن مضارب اللغة. ربما لأن الوجدان صار منبوذا؛ وما الحياة في هذا الجزء من العالم، سوى بهيمة تتمرغ.
من كتاب: تقطير العزلة.