المقالة

موكب الكلمات

من أعمال التشكيلي محمد الخروبي.
من أعمال التشكيلي محمد الخروبي.

لطالما غبطت اصدقائي الذين يكتبون باستمرار. منهم من يكتب بشكل يوميّ في مختلف ضروب الكتابة ومناحيها.. يكتب في الشأن السياسي، وفي الاقتصاد، ويكتب عن الحرب، وعن كورونا.. يكتب القصة، والمقالة، ويكتب القصيدة أيضاً. يكتب بإسهاب في كل قضية…

لم استطع أنا فعل ذلك.. أبداً.. ربما كنتُ ـبطبعي ـ قليل الكلام، بل في أحيانٍ كثيرة اُنعَت بأنني ”صموت”. ولا أخفيكم أن هذه الصفة تسبب لي حرجاً احياناً، لاسيما مع بعض الرفاق أو الجُلَساء.

أسأل نفسي دائماً.. إذا لم يكن لدى الشخص ما يقول، أو حين يستشير نفسه “بسرعة البرق” فيما إذا كان كلامه للطرف المقابل سيكون ذا فائدة أو على الأقل سيمنحه المتلقي براحاً لفهمه، فيأتيه الرد “من نفسه وبسرعة البرق أيضاً” سلبياً.

أليس من الأفضل حينها له أن يصمت ؟!! فهل نتكلم من أجل الكلام فقط؟!! أو كما يقول “نوفالي”: إنّ الكلام للكلام دستور انعتاق. أم نحن نتكلم لنقول شيئاً.. بمعنى أن يكون الحديثُ، بالضرورة، مُنتجاً؟

في روايته الرائعة (الديوان الإسبرطي) المتحصلة على جائزة البوكر العربية، يقول الكاتب الجزائري الشاب عبد الوهاب عيساوي: ”بعض الحوارات لا تحتاج إلى إطالة، كلٌّ يحتفظ بوجهة نظره، ولن يتخلى عنها ولو ملأوا له المدى براهين وأدلّة، الاقتناع لا يُولّده العقل فقط بل القلب أيضاً…“.

بالفعل، بل لعلّ أصعب من يمكنك اقناعه ذلك الذي تتكون قناعته في القلب لا العقل، ربما لأنها تتحول حينها لنوعٍ من الإيمان. وهذا بالطبع يختلف كلياً عن ذلك النور الذي أضاء بصيرة “هوجو” تحت قبة البرلمان الموشاة بالذهب، يوم أدرك أن كل مايقوله أشياعه عن بؤس الشعب ليس إلا كلاماً منمقاً وقال قولته الشهيرة: ”أنا لا أرضى أن يُخطّئني أحد إلا إذا أعطاني الدليل أفعالاً لا أقوالاً، وسنرى إذا كان المستقبل سيظهر خطأ قولي، وسنرى أنه لن يحدث شيء سوى مزيد من الضغط والقمع“.

هذه الرؤية التي امتلكها بعد ذلك ماياكوفسكي الروسي وإيلوار الفرنسي ولوركا الأسباني ونيرودا التشيلي وناظم حكمت التركي والشلطامي الليبي، لم تكن تعني اليسارية الماركسية الضيقة ولا حتى الواقعية الإشتراكية بمعناها الأكثر اتساعاً، بل تعني معاناة الإنسان أينما كان وتطلعه للانعتاق.

يرى (حنا مينه) أنّ الشعر وسيلة تعبيرية ذات وظيفة جمالية ودلالة اجتماعية. ويقول (بول إيلوار) إنّ رسالة الشاعر أن يمنح الناس الرؤية. وبذلك يصرّح (بابلوا نيرودا) في (نشيده الشامل):

لا شيء أبداً يسلخ بعد الآن

الكلمة المُغنّاة على الشفاه

وكل شيء يقارن بالحرية التي لا تتجزأ

إننا نتكلم اللغة نفسها وتربطنا الأغنية نفسها

والقفص هو القفص

سواء كان في فرنسا.. أو في تشيلي

ويتساءل (ماياكوفسكي) صاحب قصيدة (كيف صرتُ كلباً):

ما الذي نستفيده من فمٍ بلا شفاه

ومن سماءٍ بلا زرقة

ومن غابةٍ بلا شجر؟؟!!

(حتماً سيكمل القارئ .. ومن حياةٍ بلا حرية).

في حين يُنهي (الشلطامي) قصيدته (المحضر) التي كتبها قبل أكثر من نصف قرن بما يلي:

لم يعُد في غرسة الحزن التي أحملها

زهرةً بيضاء، أو غصن نديّ

كنتُ قد جرّدتُها منذ سنين

باقةً، في إثر باقة

يُقفل المحضر، ولنمضِ إذن

ربما كان القتيل

هذه المرة شعباً.. أو وطن

طرابلس، 10 فبراير 2023

مقالات ذات علاقة

الثقافة مدخلا للتنمية

المشرف العام

دونية المرأة في الذاكرة الليبية الجمعية

وفاء البوعيسي

لذكرى ليالي نجمة

جمال الزائدي

اترك تعليق