جازية شعيتير
في مدينة بنغازي وبتنظيم من مجلس الأمن القومي مطلع العام 2023 أقيم مؤتمر دولي يشارك فيه العديد من الدول بحضور فعلي، لا مجرد مشاركة عبر أحد تطبيقات الاجتماعات السيبرانية، وقد كان المؤتمر ملتقى عربيا مهما لتبادل الخبرات ونقل التجارب، واستمرت جلساته وورش العمل المصاحبة له حتى يوم 23 يناير.
وقد أثير في الأوساط النخبوية الليبية تساؤل حول منطقية اهتمام مجلس الأمن القومي الليبي بقضايا السيبرانية، في حين أن قائمة أولويات الأمن مليئة بقضايا أكثر واقعية وأشد إلحاحا؛ جاوب عليه بوجاهة السيد مستشار الأمن القومي في كلمته الختامية للمؤتمر: القول بأن الأمن السيبراني أبعد ما يكون عن أولويات الأمن القومي الليبي حاليا ينبئ عن عدم إدراك لما يحدث في الواقع الليبي، فالتهديد السيبراني دخل بيوتنا، وتأثيره شمولي على المستوى السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي والديني.
ولعل هذا التساؤل يحيلنا إلى البيئة الليبية للوقوف عن مدى دخول ليبيا «دولة وشعبا» في الفضاء السيبراني حتى تخشى من مخاطر السيبرانية…
معلوم أن الليبيين «طبيعيون واعتباريون» عرفوا شبكة الإنترنت العنكبوتية العالمية حديثا؛ مطلع الألفية الثالثة، وبدأ دخولهم لمواقع التواصل الاجتماعي ومحركات البحث الشهيرة تدريجيا، ولعل ما حدث في 2011 ما كان ليحدث، على الأقل كما حدث، لولا عامل الفضاء السيبراني ومواقعه الاجتماعية. ولا يخفى على مُطلع ما تلقاه مواقع التواصل الاجتماعي من مقبولية لدى الشعب الليبي، كما أن المجتمع المدني الليبي قد أنشأ جمعيتين ناشطتين في هذا المجال: الجمعية الليبية للإنترنت منذ 2012، والجمعية الليبية للإنترنت الآمن في 2021.
وفي 2021 تحول الاهتمام من شعبي إلى رسمي؛ فقد اعتمدت الحكومة الليبية الأول من يونيو في كل عام يوما وطنيا لتقنية المعلومات، وأنشئت لجنة وطنية للتحول الرقمي، إضافة للهيئة الوطنية لأمن وسلامة المعلومات.
وقد استضافت هيئة الاتصالات الليبية منتدى شمال أفريقيا لحوكمة الإنترنت، وأعلنت في أثناء الحدث بأن خطتها للعام 2023 الاهتمام بالتحول الرقمي تحت شعار ليبيا دولة رقمية 2023. ويرصد المتتبعون للشأن الرسمي الليبي تصريحات لمسؤولين عن انطلاقة ليبية في تكنولوجيا المعلومات، وإطلاق مشروع سايبر ليبيا.
فإذا كانت الدولة الليبية تريد أن تذهب نحو التحول الرقمي، فليس من المنطقي ألا توجد خطة للأمن السيبراني في جعبتها، لكونها أحد العوامل الأساسية المساهمة في تحديد جودة الخدمات؛ ولذلك فقد استجابت السلطة التشريعية ممثلة في مجلس النواب الليبي لهذا التطور السيبراني، وقامت بالتدخل التشريعي لتنظيم المعاملات الإلكترونية بالقانون رقم (6 لسنة 2022) ولحماية التعاملات الإلكترونية، وذلك من خلال قانون رقم (5 لسنة 2022) بشأن مكافحة الجرائم الإلكترونية.
وفي نظرة تقييمية للمؤتمر يمكننا القول إنه مثل رؤية متبصرة للتهديد السيبراني ولتداعياته وسياقاته، وكان القائمون عليه في حالة سعي لتحديد التهديدات، ولكنهم كانوا مدركين للفرص، وكانت المعادلة الصعبة هي الظفر بالحسنيين معا: العمل على تسيير وإدارة النمو الرقمي، وصنع سياسات مثلى للأمن السيبراني.
فإضافة للورقات القانونية ذات البعد الأمني، تنوعت الورقات البحثية؛ فكانت ذات البعد الاقتصادي التنموي، وذات البعد الاجتماعي التربوي، إضافة للمداخلات ذات البعد الفلسفي التوجسي، تعبيرا عن إيمان القائمين على المؤتمر بأهمية المنهجية البينية في تناول الملف السيبراني. وقد تميز المؤتمر الأمني الطابع بسياقين متوازيين: السياق الأمني التقليدي، والسياق الأمني الإنساني، في إدراك مستبصر لشمولية التهديدات السيبرانية ولزوم شمولية المعالجات الأمنية السيبرانية ضمانا لنجاعتها.
تمثل السياق الأمني التقليدي، في الحضور القوي للمنتسبين لوزارتي الدفاع والداخلية ولغيرهم من العاملين في القطاع الأمني، وفي المستهدفين من ورش العمل المصاحبة للمؤتمر، فقد كان منتسبو الأجهزة الأمنية هم المستفيدون من هذه الورش التدريبية باعتبارهم كوادر أمنية يجب أن تؤهل لبناء وتعزيز قدراتهم في مجال تقييم المخاطر السيبرانية والدفاع ومكافحة الجرائم السيبرانية. كما أشار المؤتمر لحقيقة الافتقار إلى التشريعات السيبرانية الإجرائية وبالذات ما يتعلق بالدليل السيبراني وقيمته الثبوتية.
ولم يغب عن إدراك المشاركين في المؤتمر تحديد الطبيعة القانونية لكل من الفضاء السيبراني والآلة الرقمية.
ولم يغفل الحديث عن التهديدات السيبرانية الواقعة على الدولة بوصفها شخصا اعتباريا أو الواقعة على إحدى مؤسساتها، حيث برز الإرهاب الإلكتروني بأشكاله المختلفة كأحد أهم التهديدات في هذا المجال ولم تغب تهديدات أخرى ذات علاقة بالمؤسسات الاقتصادية والإدارية.
كما برز الاهتمام بالتهديدات السيبرانية الواقعة على الإنسان مثل: الابتزاز الإلكتروني، خصوصا ما يقع على النساء باعتباره أخطر التهديدات، ولم تغب الإباحية الإلكترونية عن قائمة التهديدات الخاصة بالأطفال، وفي المجمل كان حاضرا شاغل حماية البيانات والخصوصية من التهكير وصنوف التهديدات السيبرانية كافة.
أما السياق الأمني الإنساني فقد تمثل في كثير من التجليات، لعل أهمها الاهتمام بالعوز المعرفي الشخصي والمؤسسي للوعي السيبراني، فمن لا يمتلك المعرفة لا يمتلك القوة؛ لذلك لم يكن غريبا أن تناقش بعض الورقات نشر الوعي السيبراني بين طلاب المدارس، وقيام بعض الورش المصاحبة للمؤتمر بتوعية الإخصائيات الاجتماعيات في المدارس عن الاستخدام الآمن للإنترنت، وطرحت فكرة الحاجة لحماية البيانات الشخصية والمؤسسية في البيئة الرقمية. وضرورة تعزيز مشاركة جميع أفراد المجتمع ورفع وعيهم بأي نشاطات إلكترونية مشبوهة، وتمكينهم من استخدام منجزات التكنولوجيا الرقمية في بيئة أقل تهديدا.
كذلك الاهتمام بالجانب الاقتصادي التنموي؛ سواء في كلمات الخبراء الدوليين أو في بعض الورقات العلمية المقدمة أو حتى في ورشة العمل التي دارت حول التحديات الأمنية الجديدة في منطقة الساحل والصحراء؛ كما دار النقاش حول التنمية الرقمية والاستثمار في الشباب وإعادة تأهيلهم سيبرانيا؛ وطرحت فكرة التكلفة الاقتصادية للجرائم السيبرانية.
يرصد لدى المشاركين في المؤتمر وعي عميق بأهمية إدراك تعدد أصحاب المصلحة: القطاع العام والقطاع الخاص وحتى القطاع الثالث المدني؛ وبأن مسؤولية التأمين من الأخطار السيبرانية مسؤولية مشتركة، وبوجوب مساهمة مختلف أصحاب المصلحة في تنفيذ الخطط السيبرانية التنموية والأمنية؛ وذلك من خلال استهدافهم بالحوار المفتوح والمستمر بشأن قضايا السياسات العامة العالمية المتصلة بالإنترنت.
كما عبر خبراء المؤتمر عن قلق بالغ بشأن حماية رأس المال المجتمعي، وهو العلاقات الاجتماعية والقيم المجتمعية، ولذلك أثيرت مسألة تأثير السيبرانية على الإنسانية ومدى الاستعداد الفردي والمجتمعي، العربي عامة والليبي خاصة، للولوج إلى العالم السيبراني والتحول الرقمي.
قيل في إحدى المداخلات: «نحن نعاني من هشاشة اجتماعية في مواجهة مجتمع عالمي متحول تحكمه الإمبريالية الناشئة (التكنولوجية الرقمية العالمية)، مجتمع يذهب حثيثا نحو ما بعد الإنسانية».
وبالاتفاق مع من يؤكد أن ليبيا لا تملك من الدعائم الخمس للبرنامج العالمي للأمن السيبراني ما يؤهلها للانضمام لقائمة الدول في مؤشر القوة السيبراني الوطني، وشت التوصيات عن حلم القائمين على المؤتمر بأن تمتلك ليبيا تلك الدعائم عبر مطالبتهم بتأطير صناعة الأمن السيبراني، وتبني خطة استراتيجية للتحول الرقمي، وبإعداد استراتيجية شاملة قانونية وسياسية واجتماعية للأمن السيبراني، وبالاهتمام بالوعي السيبراني، وتحديث التشريعات الوطنية لتجسير الهوة الأمنية السيبرانية، والمطالبة بإنشاء مركز وطني للأمن السيبراني ومركز عربي للأمن السيبراني.
وكما قال أحد خبراء المؤتمر إننا هنا ندرك أن البشرية على أعتاب الثورة الصناعية الخامسة، ونسعى لأن تكون قيمة القيم في المجتمعات البشرية هي قيم الحلم؛ أن نحلم بغد أفضل لا تسحق فيه الرقمنة الإنسانية؛ إنما تؤنسن فيه الرقمنة، من خلال احترامها لحقوق الإنسان وللقيم الإنسانية.
بوابة الوسط | 3 فبراير 2023م