المقالة

تغليط الأبوِّية

وصف الكاتب عمر الككلي قصته “أبي” بأنها تحتل مكانة خاصة في علاقتها الوجدانية به”. ومانع دمغها بأنها سيرة ذاتية “نعم، هي عن أبي فعلا، و ذكرت فيها اسمه واسم أبيه وجده وجد أبيه، ولو كانت شجرة العائلة متوفرة لمضيت أكثر ـ لكن للأسف لا يستطيع الفقراء الأميون توثيق نسبهم ـ وأوردت اسم أمه، ولكنها تظل، مع ذلك، قصة، أي تخييلا، وليس سيرة ذاتية. ذلك أنني أرى أن ما يحدد طبيعة الجنس الأدبي هو طريقة الكتابة، وليس مصدر المادة. لو كنت أكتب سيرتي الذاتية أو سيرة أبي لكتبتها بشكل آخر، مثلما تكتب السير، حتى ولو حاولت التجديد في شكل الكتابة فسيكون تجديدا في كتابة السيرة الذاتية أو السيرة”.

في مقالتي السالفة بموقع بوّابة الوسط “مانقرأه دُعابةً في السيرة” اعتبرتُ النُبذ التي اعترف الكاتب عمر الككلي بسيريتها فيما يكتبه تباعاً منذ أشهر في موقع قناة 218 أحد ألوان الكتابة مُكشّف المجتمعية الليبية التي تصير مثار اهتمام المقالة الفاهمة، المفهّمة للحادثات: الواقعات والظواهر الملّمة بالمجتمع التي تكون غير مُدركة، وربما غير القابلة للإدراك، لغياب معطياتها الشارحة”. بالنقد سنجلب بعضاً من المعطيات للشرح والتفسير:

ـ مانراه مُلحاً في خطاب السارد بضمير الطفل في النصوص التي بين أيدينا هو إثباث تميّز البنوية خارج عالم الإبيسية المغالط لحقيقة الإبن، وهو ما يبدو هاجساُ متكرّراً في قص السيرة. ففي المدرسة يتكلم الإبن بضمير السارد “كان هدفي أن أثبت وجودي وألفت النظر إليَّ منذ البداية“ (الارتجال كتابةً). “في السنة الخامسة ابتدائية انتبه مدرس اللغة العربية، الأستاذ (…)، إلى تفوقي وتميزي في مواضيع الإنشاء، فأعارني رواية أرض النفاق ..” (انعدام الحماية والتحالف الموضوعي) .. ومع التحوير بضمير الغائب (هو) نقرأ في “سرقات الطفولة” فإن “خدعته للطفل الآخر تتميز بما هو مسلٍ له ومضحك وتشير إلى دهاء فعلته وإن لم يكن في فعلته كبير دهاء، لكنه يظن أن حجم الدهاء فيها كان متناسبا مع غفلة الطفل الآخر المخدوع” التراجع التكتيكي عن المتعلّقات الوجدانية بالسيرة التي انكتبت بتخييل القصة القصيرة وخضعت لاشتراطاتها عدا المضمون: بنيةً وتقنية وجماليات، يشجعنا أن نداور إشارة الممنوع التي لوّح بها الكاتب الككلي في المقابلة الصحفية الآنفة. فنقتحم نصوصه كقصة “أبي” التي قرأتها منشورة في سنة 2004 في صحبفة العرب اللندنية، والتي يضمّن جزءاً من معطياتها بما يخذم نصّه السيري “الحلم بالأب” ثم بعض من قصص السجنيات ومنابت الحنظل. ويعيننا في المهمة النقدية السيرية ماينشره تباعاً كما أسلفنا كسيرة في موقع قناة 218. فنقرأ النصوص مجتمعة من جديد بأدوات الباحث في السيرة الذاتية ـ الأدبية.

الدّالات والمعطيات التاريخية والوقائعية الملموسة هي ماتجعلني في هذه المقالة أقترح إجرائياً لقرائتي مبدأ مُفسّراً لتصرف الطفل في عالم سلوك الأّب أسميته بجملة فعلية “تفنيد الأبيسية”. وفي أيدينا “الحلم بالأب” نبذة سيرية لافتة، يطرح الكاتب عمر الككلي فيها، مفهوم الأبويّة “الأبيسية” ليس بمعناه المنتمي إلى البيولوجيا “الوالدية” بل بالمعنى المنتمي إلى الآنثروبولوجيا والسوسيولوجيا، بتشكله سلطة في ثقافة المجتمع، ليس كـ: والد أصل ومعطي حياة وواهب وجود. لكن كأب تتمثله سلطة إزاء الإبن قد تقيد الحياة وتحصر الوجود وتخنق حريته.

الإحراج درجة من درجات التفنيد يأتي كسلوك مناوئ لتغليط الأب حقيقة الإبن كما يتلفّظها، وجدارته في قولها فيغالطها الأب لأنه يُمعن لمضّادتها لرغائبه في عدم تصديقها أو الاعتراف بها فيعاندها “كان أحيانا يحتاجني لأقرأ له محتويات رسالة من رسائل العمل، وحين أقرأ له يقول لي: لا!. مش مزبوط!. وكأنه لم يكن يريد الاعتراف باكتسابي قدرة لا يحوزها هو. فأمد إليه الورقة قائلا: اقرا بروحك!.“ (الحلم بالأب)

عندما يكون الكاتب من جيلك ومن بلدك ويسكن مدينتك، ومن طبقتك وبيئته العائلية في أصولها مقاربة لبيئتك فأنت تقرأ متذكرّاً سيرة طفولتك في سيرته. أنا لي تجربة إلى حدٍّ ما مُرّكبة مع تغليط الأب أبرزها في شاهدين من تجارب حياة طويلة تمثلت في كوني ليس كحال الككلي الثالث من الأبناء الذين لم يموتوا في الترتيب ولادةً والثاني الذي يدخل المدرسة. وقد كان الأوّل ترتيبا دخل، دروس محو الأمية ونال شهادته فيها بسن متأخرة. أما أنا فإني الإبن الأوّل الذي دخل المدرسة في عائلتي الأُمية أعني جدي وأبي وأعمامي ففيما يخص أبي ويجمعه بجدي وأعمامي فالتغليط وإن كان يمر عبر أبي تفصحه حجج قطع الأراضي المبينة لملكيتنا المتوّزعة في حدودها إزاء عدد لاباس به من أفراد العشيرة بل القبيلة: “قسايم ومناقع وطبابيش زيتون وأراضٍ قبلية” .والتغليط هنا إجماعي إذ الميدان الذي تدور فيه الحجة يعرفونه فقط وظيفتي إحضاره وتثبيته لهم مفهومياً بالقراءة ولكن عذابي عدا كوني جاهلاً بمضمون الوثيقة (الحُجة) المادي كمن في مسألة تقنية: وهي عدم قدرتي على فك رموز الخط المغربي الذي لم أتعلّمه في المدرسة الابتدائية، وهذا مالم يستوعبوه وسبب لأبي حرجاً أمامهم فكان مبرراً له لتعنيفي وتبخيس قيمتي. أما التغليط الثاني المقارب لنبذة سيرة الككلي فهو يخّص أبي ويخصني. فالثنائية عنصراها هو وأنا والتغليط كان منه ويستند على رغبته في عدم تصديق الرقم المصروف المسجّل في فاتورتي الكهرباء والماء وكان التحقيق مني بنفس تصرف طفل الككلي وهو مايدعوه بعد الهزء مني وتبخيسي لتوّفر عامل الثقة اللجوء إلى خالي الذي كان يتعلم الابتدائية في المدرسة الليلية بالتوازي معي وعندما جاورنا سكناً في صفي الرابع وكنت أتقنت إلى حدٍّ مقبول قراءة الخط المغربي كان مُعيناً لي في واجباتي بمادة الحساب حتى حصولي على الابتدائية.

مُذ كنت في الابتدائية ـ عدا موقفيه من عجزي في فك خط الحجائج، وتشككه في قراءتي للأرقام المثبتة في الفواتير ـ كان أبي يفاخر بأنه أدخلني للمدرسة وأني كنت عند حسن ظن معلمييّ بل يستعرضني أمام زملائه المتعلمين في العمل ومعارفه ممتناً لمقدرتي المعرفية، بل أذكر أنني في الصف الرابع ابتدائي رويت مرة في مساء موسم ديني على مسامعه هو وأمي بأسلوب عامّي من كتاب هداية الناشئين مقتطفات من سيرة ولادة النبي محمد وطفولته فكنت محلّ إعجابه وامتنانه.
ما أوردته بخصوصي يجعلني لا أعتقد بالنتيجة التي حكم بها الككلي على تغليط أبيه من أنه نابعٌ من إرادته بعدم الاعتراف باكتساب ابنه قدرة لا يحوزها هو. بل في مايتعلّق بمسرودي التشكيك وعدم اعتراف أبي برقم مصروفنا من الكهرباء والماء الوارد في الفواتير التي هي في نظره محل تلاعب وتحايل من المصلحة الحكومية. وبالنسبة لمسرود الككلي التشكيك من طَرف الأب في الإجراء أو التكييف الإداري الوارد في رسالة العمل، وليس في قراءة الإبن التي يقرّ بينه وبين نفسه حقيقتها الدامغة.

في النبذة السيرية “الحلم بالأب” يفتعل الكاتب تسوية تقنية تفيد قراءتنا إذ يقحم تخييل الأب كقصة في نصه “أبي” ويزرعه وقائعيةً في قلب السيرة الذاتية ـ العائلية. والتسوية هنا إضافة لافتة في تخييل القصة الذي استخدمه الكاتب عمر الككلي في مواضع متباينة من نصوصه المنشورة في “سجنيات” و “منابت الحنظل” باستعمال منعطف سجن الإبن عنصر إحراج لافت لإبيسيّة الأب بموازاتها بالوالدية وإضعافها وإهشاشها بالعاطفية وتأنيب الضمير والندم على المعاملة القاسية والمجحفة لابنه أو بالأحرى “ولده”.

ثاني التسويات التقنية إستعمال واحدٌ من الهروبات من السطوة الأبيسية .في الوظيفة التي ما برح يؤديها الحلم في النوم، للطفل المهجوس بالتبوّل كما تورد بضمير المتكلم في السرد أنه مازال يُسدي له ثلاث خدمات هي: منحه فرصة أطول في النوم، واحتفاظه بمثانته ممتلئة إلى أن يفرغها في يقظته في المكان المناسب، وحفظه له ماء وجهه إزاء العائلة التي تعيّره، وتخجّله مستبطنة إبيسية الأب .(وظيفة الأحلام) .ولكن الحلم كتقنية تسوّية مخيالية يقوم بمهمة أخرى تكون خارقة في القص ـ السيرة وهو مايحققه موت الأب كمصير مفارق قبل خروج إبنه من السجن السياسي بيومين وشكل كمنعطف السجن زحزحة مغايرة للصورة أُستخدمت من طرف الأبن لقلب ثنائية تغليط (الأب) وتحقيق (الأبن)

“فبداية من سنوات السجن وإلى أكثر من سبع عشرة سنة بعد وفاته وخروجي من السجن أخذ أبي يظهر في أحلامي. بشكل مسالم أحيانا، حيث يكون عاديا، إلا أنه أحيانا يكون يعرف القراءة والكتابة، بل ويؤلف!. وبذا لم أعد متميزا عنه“. لكن الأبيسية كظاهرية فينومنولوجيةمختلفة تظهر بإزعاجها القديم كمشكلة حضور مربك يحوّل الحلم إلى كابوس يُعيد بالتغليط إبطال تميّز الأبن مرّة ثانية “كأنه كان يتقرب مني أو يبطل تميزي!. وأحيانا يقتحم أحلامي بشكل يجعل الخلافات تنشب بيننا ويتحول الحلم إلى كابوس!“ (الحلم بالأب)

__________________

نشر بموقع بوابة الوسط.

مقالات ذات علاقة

آفاقُ الرَّخَاء

يوسف القويري

نسيجُ العنكبوتِ

مفتاح العماري

مقال : الباب الخطأ!

عبدالرحمن جماعة

اترك تعليق