النقد

(سُحُبُ المارنج) تتهاطلُ في درنة

سحب المارنج،للشاعرة نجاح بن علي.
سحب المارنج،للشاعرة نجاح بن علي.

تعترفُ الشاعرة نجاح بن علي بأن ديوانَها الأول الصادر بعنوان “سُحُب المارنج”(1) (هو هطولٌ من الذات كما تهطل السُحُب.) وتوضح ذلك بقولها (طالما أن “المارنج” هي قطع حلوى مكونة من بياض البيض والسكر الناعم، ينتج عنها كوكتيل مثل السُّحُب البيضاء فإن قصائد “سُحُبُ المارنج” جاءت لتربط هذه السحب المخلوطة اللذيذة مع سحب السماء الطبيعية وتغيراتها الفيزيائية التكوينية والظرفية مع الأيام والزمن).

وفي إصدارها الحديث الغزير بالنصوص البالغة حوالي ثلاثة وستين نصاً، نكتشف منذ قصيدتها (سُحُبُ المارنج) المختارة عتبة أولى للديوان كافةً، أنَّ مفردات لغتها الشعرية حداثوية رقيقة ومعاصرة تنتمي إلى زمنها الواقعي بكل بساطة ألفاظها وجمالية عباراتها وصورها الفنية، وأساليبها التقنية في الكتابة والتي من بينها تلك اللازمة التي تبرز براح وانفتاح تفكيرها، وتأكيد حريتها وأحقيتها الاحتفاظ بشؤونها الخاصة من خلال استخدامها تقنية التكرار في تدويرها عبارة (ليس ضرورياً أنْ أقولَ لكَ) تسعة عشرة مرة، بتناغم جميل تسكنها وسط سطور النص بشكل يوطن مضونها ويبعث إيقاعاً موسيقياً رناناً، يذكرنا بمعزوفات الملاحم والأناشيد الحماسية، وامتلاكها جاذبية آسرةً لمتابعة تلك المعزوفات الأنيقة ترقباً لما تخبئه نهايتها من مفاجأة تليق بنسيج النصّ ورسالة مضمونه:

(ليسَ ضَرورياً أنْ أقولَ لكَ أنِّي أجدلُ خُيوطَ الشعر فيمتزجُ عسلَه بلُعابي.

ليسَ ضَرورياً أنْ أقولَ لكَ أنَّ رشفةَ حُبٍّ في كتابٍ تُدَفِّيء كَـفِّي.)(2)

وبهذه البنية النصية تحيلنا الشاعرة أثناء عزف أناشيدها إلى نصوص الهايكو القصيرة المكثفة، فتمنحنا تأملات فسيحة للأفكار المتنوعة المكتنزة بالمضمون النبيل الهادف والنفس التعبيري الموسيقي مع تناسق مترادفاته اللغوية وأناشيده الروحية العميقة، حتى خاتمته التي جاءت لتبرز الروح الرياضية في القبول والرفض والاعجاب والإشمئزاز والرضى وعدم الاستحسان بكل ما تجلبه تلك الأفعال من ردود أفعال مباشرة من الشاعرة:

(ليسَ ضَرورياً أنْ أقولَ لكَ أني أسافر إلى نفسي شغفاً، لأعود بسلال الثقة.

ليسَ ضَرورياً أنْ أقولَ لكَ أنَّ الحياةَ وعودُها كاذبةٌ تسيلُ كَدمعةٍ من عين الغربال.

ليسَ ضَرورياً أنْ أقولَ لكَ أنَّ أصابعي تصفعُ بلادةَ الفضاءِ وتبتسمُ راقصةً على دموعه.

ليسَ ضَرورياً أنْ أقولَ لكَ أنَّ دعائي يتخلَّى عنِّي ويُرتِّــلُ إسمكَ عند الفجرِ.

ليسَ ضَرورياً أنْ أقولَ لكَ أنَّ سُحُبَ المارنج السَّابِحَةَ بِاللَّيلِ حُبْلَى بِالغَيْث.

ليس ضرورياً أنْ تقرأ ما كتبتُ، فأنا سأمزِقُهُ بعد أنْ يُلاَمسَ عينيكَ الشاردتين.)(3)

ونلاحظ أن شاعرتنا لا تستخدم تقنية تكرار العبارة اللازمة في هذا النص فحسب، بل نرصد ظهور بنية التكرار كذلك في نصوص أخرى مثل (أشواقٌ صغيرة)(4) التي تتكرر فيه مفردة “أشتاق” ثمانية عشرة مرة، وفي نصها (لكنَّها)(5) تتكرر مفردة “لكنَّها” ثلاثة عشرة مرة، وفي نصها (نافذة)(6) تدوِّر فيها فعل الأمر “دَعِي” ثلاثة مرات، وكثير غيرها.

واعتماد الشاعرة على بنية تكرار المفردة الواحدة أو بعض عباراتها في النص الشعري لا يعني التأكيد على رسالة معانيها ودلالاتها فقط، بل نجده يحمل إضافات أخرى مهمة تتمثل في خلق فضاء إيقاعي موسيقي في ثنايا النص يظل منبعثاُ من المفردة أو العبارة المكررة، مما يمنحه استمرارية الإشارة والتنبيه والمتابعة الفطنة لغاياته والانحياز إليها أحياناً. ولا شك أن استخدام هذه التقنية يتطلب براعة ومهارة لغوية، وعلى حد تعبير الشاعرة العراقية نازك الملائكة فإن التكرار لا يصل إلى مرتبة الإبداع والجمال إلاّ على يدي شاعر متمكن موهوب يدرك أهمية المعنى الذي يلي الكلمة المكررة ليتحقق بذلك الانسجام والتكامل والايقاع والمعنى في اكتمال النص. كما يرى بعض النقاد أن تقنية التكرار تعد من أبرز الظواهر الفنية والأسلوبية في الخطاب الأدبي لما تحمله من أبعادٍ دلالية وفنية تحفز المتلقي للتمعن فيها وتأمل تكوين تركيباتها الفنية ودلالاتها وغايات إظهارها في سياق النص.

والشاعرة نجاح بن علي لا تكتفي في (سُحُبُ المارِنْج) بجماليات التكرار وحده في نصوصها الشعرية، بل نجدها تبحر بنا في عوالم رحبة ثرية بالأسئلة المختلفة التي تطرحها بأساليب متعددة وتزرعها في مواطن متغيرة، منذ بداية الظهور الأول في نصها (كأسُ الأمس) حين تقول:

(صَحَوْتُ عَلَى صَوْتِيَّ المُبَلَّل

يَغْمُرُنِي نَتْحٌ مِنَ العَرَق

 لِمَاذَا كُلُّ هَذَا الوَجَل؟)(7)

ثم يتوالى ظهور الأسئلة بأشكال ومواضع مختلفة مثلما في نصها (هذيان):

(هَلْ وَصَلْتُ إِلَى آَخِر القَصِيدَةِ؟

أَمْ أَنِّي مَازِلْتُ مَا بَدَأْتُ؟)(8) 

كما ينزرع السؤال في سطور النص وتتوالى رشقاته بكل انبهار كما في نصها (كل لحظة ضرورة):

(مَا الضَّرُورَة؟

أَلَيْسَ السُّؤالُ عَنْ

لَوْنِ فُسْتَانِي

ضَرُورَة؟

لَوْن كُحْلِي

لَوْن شِفَاهِي

رَقْم حِذَائِي

أَلَيْسَ ضَرُورَة؟)(9) 

ثم نجده في مستهل النص وعلى رأس القصيدة في (امرأة) التي تستهلها:

(هَلْ وُلِدْتُ؟

أَمْ تُرَانِي مَازِلْتُ فِكْرَةً

بِقَلْبِ اِمْرَأَةٍ!

تَهُشُّ الغُبَارَ

بِخَصْلاَتِ أَصَابِعِهَا

تَمْنَحُ الصُّبْحَ

الحَيَاةَ

هَلْ وُلِدْتُ؟

أَمْ تُرَانِي مَازِلْتُ عَالِقَةً

بِعَالَمِ الغَّيْمِ

شَهْقَةَ مَاء

أَوْ وَمْضَةَ بَرْق

هَلْ وُلِدْتُ؟

أَمْ تُرَانِي مَازِلْتُ خُطْوَةً

لِلْوَرَاء)(10) 

وبقدر ما كان هنا تكرار السؤال كلازمة استفهامية (هل ولدتُ؟) ستة مرات، بارزاً في هيكل النص البنائي، فإن ما يبثه موضوع السؤال ذاته من فلسفة فكرية وجودية عميقة أضفى قيمة إبداعية عظيمة بجانب الإيقاع الموسيقي المميز في روح النص وهو ما يعزز الاهتمام ويقوي الإنشغال والبحث عن إجابات من أجل بعض اليقين لطرد هواجس الاضطراب ومطارق القلق وإنهاء الترقب المميت.

وإن كانت طبيعة جميع الأسئلة في هذه النصوص الشعرية بكل صيغها المتفاوتة تبدو عادية ذات غاية واحدة وهي السعي للحصول على معلومة من خلال إجاباتها، فإن السؤال الشعري لدى الشاعرة نجاح بن علي يحيلنا أحياناً إلى الغوص في الشأن الفكري الأيديولوجي والسياسي الراهن الخطير كما نكتشفه في (حقيبة):

(بَوَّابَةُ تَفْتِيش

أَسْئِلَةٌ وَإِجَابَة

هَلْ تَحْمَلِينَ

مُخَدَّرَاتٍ

سِلاَحٍ

مَنْشُورَاتٍ؟)(11)     

ويتواصل الحوار في النص الشعري مندفعاً نحو المزيد من الجرأة والمغامرة حين يفجر سؤاله الذي يصرِّح بنوعٍ من اللباس الذي اختاره بعض الإسلاميين زيّاً للنساء أطلقوا عليه “النِّقَاب” متسائلاً عن مكمن الخطورة فيه:

(أَيْنَ الخَطَرُ المُنَقَّبُ؟

صَرَخَ بِوَجْهِ الحَقِيبَة

عَلاَ خَفَقَانُ قَلْبِهَا، تَمَزَّقَتْ

قُلْتُ بِهُدُوءٍ:

حُرُوفُ الرِّسَالَةِ خَمْرٌ عَتِيق

صُورَتُهُ رَصَاصَةٌ صَامِتَة

واَلوَرْدَةُ

مَنْشُورٌ يُحَرِّضُ عَلَى الجَمَال

لَيْسَ فِي الحَقِيبَةِ سِوَى تَفَاصِيل وَطَن

وبَعَضْ أَحْلاَم)(12) 

وأيضاً في نصها (نَغَمُ الحِنَّاء) :

(سَنَحْتَسِي فِنْجَانَ الضَّحِكِ سَوِّياً

هَلْ تَنْتَظِرُ عَيْنَاكَ

مُمَازَحَةَ قَلْبِي

قِطَعاً مِنَ الشُكُولاَ البَاسِمَةِ

وَكَثِيراً مِنَ النُكَاتِ الطَّازِجَةِ؟

عِنْدَمَا تَبْتَسِمُ المَلاَمِحُ

مَاذَا يَحْدُث؟)(13) 

إن تناسل الأسئلة في نصوص الديوان يشي بأن الشاعرة وظفتها كأدوات تبث من خلالها معاناتها وشكواها التي تتفاعل أثناء صراعاتها الفكرية وتجاذب مشاعرها العاطفية، وهي بذلك لا تسعى للحصول على إجابة محددة لها، لأن غاية استحضارها هو إظهار وبيان حالاتها النفسية بكل درجات مستوياتها الحزينة أو السعيدة، وقد حققت بذلك أمرين، الأول هو إطلاق زفرات البوح والتخلص من حالة الكبت والقلق الداخلي الذي يعتمرها، والثاني هو جذب المتلقي للإبحار في نصها بكل تأملاته وتفاعلاته لنيل شيء من الانبساط بما يكتسيه من حضور لغوي بليغ وإيقاع موسيقي رقيق.

وفي جانب آخر يكشفُ ديوان (سُحُبُ المَارِنج) بعضاً من ملامح نصوص الشاعرة نجاح بن علي كتعلقها بمجموعة من الأشياء المادية العينية والإنسانية الحسية ومنحها إنتماءً خاصاً إلى الذات الشاعرة واقترانها بها وتشريفها بعنونتها في العتبة الأولى للنصوص مثل: (أمي)، (قصيدتي)، (غرفتي)، (مرآتي)، وبذلك نالت بها توثيقاً وإسكاناً في متن الديوان وتوطيناً في سطور نصوصه.

إن ديوان (سُحُبُ المَارِنج) للشاعرة نجاح بن علي يزخر بالعديد من الجماليات التي تستحق مطالعةً عميقةً وافيةً لتأمل أركانها وإبراز مكامنها اللغوية والفنية التي تضمنتها نصوص متفاوتة النفس التعبيري ولكنها تشترك في كونها بوح إنساني تطلقه أنثى عاشت مكابدات وتجارب عديدة، وصارت تلهث وراء لحظات زمنية تقتنص فيها لذائذ الشعر بكل غاياتها النبيلة ورغائبها المشوقة فتعالقت مع أغاني الفنانة “فيروز” واستخضرت شخصية “كيلوبترا” التاريخية وشاهدت شريط “تيتانك” السينمائي، والتقطت حادثة واقعيةً بطلها خالها وحكايته مع فساتين “مانيكانة” فأدارت معها حواراً افتراضياً مفعماً بالتشويق حين خاطبتها:

(فَأَنْتِ مَلِكَةُ المَكَان

نَظْرَةٌ مُشَجِّعَة

تَقْفِزُ فَيَبْتَهِجُ قَلْبِي

هُوَ خَالِي

الجَالِسُ بِهَيْبَتِهِ

وَرَاءَ مَكْتَبِهِ الخَشَبِي اللاَّمِع

كَانَ سُؤالِي مُسْتَعْجَلاً

اِنْسَابَ مِنَ الأَهْدَابِ قَبْلَ العُيُونِ

هَلْ سَيَقْتَنِعُون؟)(14) 

في الختام لابد من التأكيد على أن ديوان (سُحُبُ المَارِنج) للشاعرة نجاح بن علي رغم ما ظهر به من هنات فنية بسيطة مثل افتقاده لتأريخ النصوص وتسجيل بياناتها المهمة للنقاد عند تتبع تطور النص الشعري سواء بالنسبة للشاعرة أو المشهد الوطني كافةً، وكذلك افتقاد تصميم الغلاف لأية علاقة ارتباطية أو رمزية بعنوانه أو بالنصوص التي تضمنها، وأيضاً ظهور بعض الأخطاء النحوية التي أزعم أنها بسبب الاستعجال للطباعة وعدم توفر الوقت الكافي للمراجعة الدقيقة، فإننا نجده قد تخلص من غموض المفردة اللغوية، وطلاسم الرمزية والتعاويذ الغارقة في العتمة، فتزينت نصوصه الشعرية السلسة بالأسئلة الفكرية والحوارات الممتعة والأمنيات والمفاجآت والأخيلة الخلابة، وهمسات قلب أنثوي تتراقص دقاتُ نبضه المتسارعة مع كل حرف تكتبه الضحكات تارة والدمعات تارة أخرى، ولكنه في كل الأحوال يمثل انتماءً حقيقياً وصادقاً للحياة بأسرها.


هوامش:

 (1)  سحب المارنج، نجاح بن علي، دار الجابر للطباعة والنشر والتوزيع والإعلان، بنغازي، ليبيا، الطبعة الأولى 2021م،

(2)  المرجع نفسه، ص  35

(3)  المرجع نفسه، ص 36-37

(4)  المرجع نفسه،  ص 125

(5)  المرجع نفسه، ص 23

(6)  المرجع نفسه، ص 7

(7)  المرجع نفسه، ص 8

(8)  المرجع نفسه، ص 6

(9)  المرجع نفسه، ص 78-79

(10)  المرجع نفسه، ص 14

(11)  المرجع نفسه، ص 27

(12)  المرجع نفسه، ص 28

(13)  المرجع نفسه، ص 40

(14)  المرجع نفسه، ص 91-92

مقالات ذات علاقة

عندما يَروي الشاعر قراءة في رواية «عمر آخر»

المشرف العام

وصول فانطباع

المشرف العام

جماليات السرد وآفاق التأمل في الرواية الليبية – 1

عبدالحكيم المالكي

اترك تعليق