النقد

جماليات السرد وآفاق التأمل في الرواية الليبية – 1

رواية ذكريات بلا صور لعزة رجب سمهود نموذجا[1]

رواية (ذاكرة بى صور) عزة رجب سمهود
رواية (ذاكرة بى صور) عزة رجب سمهود

1.1 حكاية الرواية

تتكون حكاية رواية (ذاكرة بلا صور) من ثلاثة أجزاء، تدور كلها حول الشخصية الرئيسية (آبيا موسيس) ومن حولها في أماكن مختلفة.

الجزء الأول من الحكاية نتابع فيها (آبيا) وأهلها في منطقة أزايا القريبة من مايدوغوري في نيجيريا ونتابع ما يتعرضون له من مشاكل، بسبب انتشار السلاح والقتل والظلم هناك.

آبيا أرملة تعيش مع أمها وابنتها، وتقيم بجانبهم خالتها وابنها بالتبني (إزقيل). مات زوج (آبيا) أدم عندما قتلته إحدى العصابات التي تمارس القتل والسرقة. آبيا وأهلها من الهوسا الذين يعيشون بين النيجر ونيجيريا وتشاد والسودان. يرسم الراوي بيئة الحياة هناك، حيث نجدنا نتابع أطعمتهم وملابسهم وأفكارهم من خلال وعي (آبيا) الشخصية الرئيسية.

قرر السكان مغادرة المكان ليتوجهوا إلى تشاد أو إلى أي مكان آخر قريب يفرون فيه من ويلات هجوم المسلحين، قاد عملية الهروب تلك إزقيل، وتبين في الطريق لآبيا أنَّإزقيل يمارس تهريب البشر ولديه أموال بالدولار نتيجة لذلك.

 الجزء الثاني من الحكاية يبدأ عندما قررت (آبيا) الهرب مع الفتيات اللاتي ينوين الهجرة إلى الشمال تجاه ليبيا، وما حصل من أحداث عند نقطة حدود قبل تشاد، وهي محطة جيدة للاستراحة عندما وصلت مجموعة الفتيات كان إزقيلقد وعدهن بتهريبهن للشمال إلى ليبيا ومنها إلى أوربا.

يتميز هذا الجزء بدخول الرواية في نهايته إلى بعد غرائبي من خلال شخصية الساحرة والطقوس التي تمارسها، كما نتابع قبل ذلك عمليات القهر التي تتعرض لها النسوة المختطفات.
بدأ ذلك عندما عرفت آبيا قيام إزقيل بعمليات التهريب، أخذت تفكر في الموضوع، ثم عندما جاء إزقيل إلى الفتيات وأخبرهن بضرورة النزول لتغيير مسارهن قررت مباشرة أن تكون معهم وهددت إزقيلبأن تخبر عن نشاطه لو رفض، وطلبت منه إبلاغ أمها بذلك. عانقت ابنتها وطلبت منها البقاء مع جدتها وانطلقت مع الفتيات إلى رحلة المجهول.

توجهت آبيا إلى مصيرها المجهول صحبة أربع فتيات هن: آماندا وفيكتوريا وفايا وجلوريا. سنتابع التحول الدرامي الذي حصل بعد إتمام إزقيل للصفقة واستلامه المال وتركه الفتيات مع المسلحين، حيث تمّ سجنهنَّ تمهيدا لنقلهن للسيد أدم دودو الذي أُخبرن فيما بعد أنه اشتراهن.

بعد سجنهن في كوخ من القش تمّ نقلهن إلى مكان آخر تحكمه الساحرة العجوز سامبيسا، وهناك مررن بأحداث بائسة؛ حيث تمّ حلق شعرهن والاعتداء على عفتهن باغتصابهن عديد المرات، كما تمّ عمل جراحة لختانهن، وكانت النقطة الوحيدة التي سمح بها ذلك الوقت هي حصولهن على طعام جيد، وذلك لكي لا يفقدن وزنهن.

في النهاية، تمّ نقلهن إلى الساحرة العجوز؛ حيث يبدأ البعد الغرائبي في الرواية. تم سرد طقوس مختلفة لإبراز قدرات تلك الساحرة وفعلها الإجرامي على التعيسات، تلك الساحرة كانت موجودة في الغابة، والطريق إليها مليء بعظام الجثث المقتولة على جانبي ذلك الطريق.

نتابع كيف يتم القيام بعمل التعاويذ السحرية لهن، لتستمر سيطرة الساحرة عليهن. ولعله من مفارقة الرواية إيمان الشخصية ومن معها من نساء مرافقات في رحلة الألم تلك، بحقيقة السحر، وقدرة الساحرة على التأثير عليهن في كل زمن.

عند سامبيسا أخذ التعاطف والتقارب بين الفتيات المظلومات يزداد وكانت الأقرب إلى قلب آبيا رفيقتها آماندا.

الجزء الثالث من الحكاية بدأ عندما تمّ نقل الفتيات إلى الشمال تجاه ليبيا، وهناك كُنَّ في كل المحطات يتعرضن للاغتصاب والإهانة، حيث وصلن بعد عدة انتقالات إلى سجن يسيطر عليه شخص اسمه عبيدة.

الحاكمة في سجن عبيدة امرأة أفريقية اسمها فاطمة، وكانت على غير وفاق مع آماندا، وقد كان يتم تسخير الفتيات في البغاء ويعشن بطريقة مهينة في السجن وكان أن أصبحت آبيا مقربة من عبيدة مدير السجن الذي أعجب بها. ومع استمرار الوقت كانت آماندا رفيقة آبيا تذبل، خاصة بعد أن حاولت الهرب من السجن في إحدى جولات عمل البغاء الخارجية. هربت وصارت تتوقع الشر من الساحرة التي اعطتها حرزها. وقد تم إعادتها إلى السجن، بعد فترة قتلت فاطمة حارسة السجن آماندا، وقد تمّ نقل آبيا ومجموعة من الفتيات إلى طرابلس، واستمرت في العمل هناك في طرابلس بنفس الطريقة السابقة في سبها، وكادت تتحول إلى عبدة لسجانها بسبب إيمانها بسحر الساحرة الذي يقيدها. خرجت بعد زمن من نقلها إلى طرابلس مع سائقها الحارس في مهمة مكلفة بها، وبعد حادث سير نتج عن اقتتال بين مليشيات وجدت نفسها حرة، هربت إلى الكنيسة وحماها القس الذي عالجها من السحر الذي يحيطها ووعدها بنقلها إلى تونس ثم إلى لامبيدوزا في ايطاليا.

الشاعرة عزة رجب سمهود.
الشاعرة عزة رجب سمهود.

 1.2 أساليب السرد المميزة

  • أولا. استعارات مميزة لتصوير التحولات الداخلية للشخصية:

يمكن أن يلحظ القارئ تلك الاستعارات المميزة التي تشكل صوراً مختلفة وتمتلك دوراً مميزاً في رسم تحولات وعي الشخصية تجاه شخص ما أو موقف ما، وقد وظفت هذه الاستعارات في هذه الرواية بشكل مميز لتخرج السرد من السقوط خاصة مع بعض التحولات غير المتوقعة/ ومنها ما حصل من تبدل رؤيتها إلى ابن خالتها إزقيل، الذي تبين أنه مهرب بشر وضيع، لنتابع في البداية تصوير تحولات تصورها لإزقيل بعد معرفتها بعمله مهرباً:

سقطتُ في فخِّ الصدمة من هذا التصريح المفاجئ، عن عمل إزقيل كوسيط هجرة، لقد أخفى عنا أنه وسيط فعلي ودائم فهل أصبح إزقيل بهذا الاجتهاد العظيم، وهذه المعرفة القوية بخطوط التهريب حتى أنه تمكن من توفير خط رحلةٍ آمنةٍ إلى إيطاليا.”[2]

في المقطع الماضي تبدو الصدمة فخاً يسقط فيه، وهي أداة لإبراز تعجب الشخصية مما اكتشفته وفي الوقت نفسه رصد لحالتها الراهنة تجاهه، ويستمر استخدام الاستعارات المميزة لوضعنا في الحالة النفسية للشخصية لنتابع الصورة التالية المميزة:

“شربني الصمت جرعةً وراء جرعةٍ، وأحسستُ بحرقةٍ في صدري، كنتُ أنظر إليه بحقدٍ كبيرٍ بين حينٍ وآخر، وهو يتحدث إلى أحدهم، ثم يرفع صوته ويغير مكانه ويخاطب شخصاً ما في الحافلة.”[3]

وهنا أيضاً الشخصية تصور وضعها الشخصي لتقنعنا بما تقوم به، حيث نتابع صورة مميزة للشخصية وقد قررت السفر مع الفتيات مهاجرة وتبدو في كل المقاطع السابقة مفعول بها وهو تمهيد لما ستعيشه في المستقبل:

“وانطلقتُ أعدو بخطى سريعةً نحو مؤخرة الحافلة، بعدما علقتْ فكرة الهجرة في دماغي كما تعلق سمكة بصنارة قدرها، ألقيتُ حقيبتي قريباً من الفتيات”[4]

ثانيا. تصوير جديد للتحولات بلغة استعارية مميزة

في المقطع التالي بعد وقوع الفتيات في الفخ، نتابع التصوير الذي يعتمد على مقاطع فيها جملة بها استعارات مميزة، تضعنا فيما تعانيه الشخصيات من ألم، وهو تصوير مستمر لصدمة الذات تجاه تلك المرحلة والاستعارات المميزة لا تتوقف كما سنرى فيما يلي:

“(أ) اقشعرَّ جسمي من الصدمة التي ابتلعتْ معاني اللغة بداخلي، (ب) فتلاشت التعابير والكلمات من قاموسي، (ت) وغابت في محرقة التفسير تاركةً روحي عالقة في بقايا القراءة، الآن فهمت رسالة دوسيبو، عن وداع وجوهنا في المرآة قبل حلاقة شعرنا، لماذا يحلقون لنا شعرنا؟ (ث) تاهت أفكاري في متاهة تكاثفت أغصانها فوق أشجار السؤال، فاقتربتُ منهن لأتحسس وجوههن بأصابعي. (ج) تحسستُ وجه الأولى، رأسها الأملس ثم عينيها وشفتيها الممتلئتين، هطلت دموعها، سقط جواز السفرِ من يدها فقرأتُ اسمها ميغان فورساتو، تابعتُ أتحسُّس بيدي باقي الوجوه غير مصدقةٍ، انهرتُ قربهن، (ح) وفقدتُ شعوري بنفسي كأنثى، فيما ظلَّ تساؤل كالمطرقة يدقُّ رأسي: ما الذي استحق إطلاق هذا الكره وراءهن؟ (خ) اقتربت مني دوسيبو، همستْ لي بصوتٍ خائفٍ: سيفعلون ذلك بنا جميعاً عند العجوز سامبيسا.”[5]

المقطع الدرامي السابق يبدو مميزاً جداً وهو يتناول لحظة حرجة من لحظات الشخصية آبيا، وهي تكتشف ما سيعمل بها من خلال ما عمل لباقي البنات الأسيرات عند تلك العجوز سامبيسا، لنتابع في (أ) كيف يقشعر الجسم وتضيع اللغة، ثم نتابع في (ب) تلاشي التعابير وعدم القدرة على الكلام نتيجة للصدمة، ثم نتابع في (ت) كيف يبدو التفسير محرقة، وتظل ضمن ذلك كله، ويمكن أن نلحظ من طبيعة التعبير السابق كيف كانت الشخصية دائماً مفعولاً بها.

 في (ث) نجد تيه الأفكار في أغصان تكاثفت لشجر السؤال، بينما في (ج) توظيف حاسة اللمس للتأكد من الكارثة في وجوه البنات رفيقاتها، ونجد في (ح) النتيجة النهائية وهي فقدان الشخصية للشعور بذاتها الأنثى، فيما تصور السؤال في ذهنها كمطرقة تضربها لتجعل من الفعل المسبق منطقيا؛ بحكم عدم تصديقها لكل هذا الكره، وكل هذا الإجرام، بينما في (خ) نجد ما يؤكد تحقق كل تلك التوقعات البائسة على لسان دوسيبو رفيقتها التي تخبرها بهمس أن كل ما حصل للأخريات سيحصل لهن.

 2.2 توظيف الاساليب الإنشائية والتقنيات السردية المختلفة في السرد

  • أولا. نهج الأسئلة أو سرد الأسئلة لرفع دراما السرد

أضع هنا نموذجاً عن هذا الأسلوب السردي الذي نجد فيه أسلوب الأسئلة، وأسلوب النفي، وغيره من الأساليب الإنشائية، لنتابع ذلك فيما يلي:

“ظلت آماندا تهذر الكلمات في حضني، أسمعها وأجني محصولاً من كلامها الحزين، فأزرعه من جديد في قلبي، لماذا لا يكون للحلم الجميل فرصة البقاء أكثر؟ لماذا يجب أن يتشوه ويتلون بالأسود أو الأحمر؟ بعدما نبت في مخيلتنا باخضرار شديدٍ! لماذا يا إزقيل تحولت إلى سارق علب التلوين التي كبرت في مخيلتنا منذ الصغر؟”[6]

نلحظ من المقطع السابق توظيف نهج الاسئلة مع السرد، وهو أسلوب إنشائي مميز يستخدمه الروائيون والروائيات للتنبيه، ولتفعيل السرد في لحظة درامية خاصة، حيث الأسئلة تنبه المروي له، وتجعلنا أكثر حضورا.

  • ثانيا. نموذج من توظيف تقنيات الممارسة السردية

نتابع في المقطع التالي التداخل بين الحواس وهي الحاسة البصرية والسمعية[7]مع سرد التذكر[8]:

“(أ) طال الليل وانتهك الجوع والعطش (ب) حرمة الصمت، فتعالتْ الأصوات باحثة عن طعام وماء، (ت)فيما تداولت بعض النساء قطع خبزٍ يابسٍ وبضع الحبيبات من الفول السوداني، واللوبياء الخضراء التي يبدو أنها كانت بقايا من آخر إفطار تناولناه في معقل سامبيسا، (ث) تذكرت كيف كنا نمرر الكاسافا المجففة والعصيد أثناء الهروب الجماعي والاختباء في الأدغال، كم يبدو الحال متشابهاً رغم اختلاف الأغراض والمواقف.”[9]

في (أ) نلحظ توظيف التأطير[10] لجعل السرد مميزاً، التأطير كان يتم مع صورة بصرية متخيلة تتحقق من خلال تصور الجوع والعطش فاعلين يمكن تصورهما مرئيين، وتختلط الصورة السابقة في (أ) البعد السمعي (ب) بالسمعي؛ حيث حرمة الصمت تخرقها الأصوات، والجوع والعطش كانا قد تحولا من شعور داخلي كأنما فعل بصري يتداخل مع الصمت في فضاء حاسة السمع[11].

نتابع في (ت) تصوير بصري متحرك (لمشهد) يتم فيه تصوير أفعال متحركة، وتأكيد تلك الأفعال في (ث) من خلال سرد التذكر، حيث الشخصية تتذكر من خلال الحاضر الماضي، كيف كان يتم – زمن الهروب الجماعي من العصابات المسلحة- تقاسم طعام شديد القسوة بطريقة فيها تعاون وتعاضد من الجميع.


[1] عزة رجب سمهود، ذاكرة بلا صور، 2020،

[2] عزة رجب سمهود، ذاكرة بلا صور، ص. 11

[3] عزة رجب سمهود، ذاكرة بلا صور، ص. 11

[4] عزة رجب سمهود، ذاكرة بلا صور، ص. 11

[5] عزة رجب سمهود، ذاكرة بلا صور، ص. 17، 18

[6] عزة رجب سمهود، ذاكرة بلا صور، ص. 42

[7] يقصد بالممارسة السردية التقنيات التالية: الترهين والتأطير على مستوى السرد، والاشتغال على الحواس والوصف المقارن على مستوى الوصف، وهي ممارسة تهدف إلى إبراز المادة السردية وجعلها ذات أكثر، حضورا ًوفعلاً على المروي لها كما تتميز بكونها تمكن الراوي من أن يجعل نصه أكثر درامية أو اكثر توتراً.

للمزيد راجع كتاب: عبدالحكيم المالكي، السرديات والسرد الليبي، الكتاب النظري.

[8] يستخدم الكتاب الجدد ورواتهم سرد التذكر بإبراز ما يتذكرونه وهذا التذكر يجعل من المادة التي تمّ تذكرها أكثر حضورا ًعند المروي له، أو مؤكدة بشكل قاطع عنده بحكم علاقتها بمنجزها المتذكر لها، وهو من الأساليب الحديثة المميزة في السرد.

[9] عزة رجب سمهود، ذاكرة بلا صور، ص. 45

[10] يتحقق التأطير بالحديث عن الليل فقد صار للجوع والعطش إطارا زمانيا حاضرا هو الليل.

[11] الحواس كما هو معروف خمسة: الحاسة البصرية، والسمعية، والتذوقية والشمية، واللمسية، ولكل حاسة من الحواس فضاء يحتويها ليتحقق لها تمثل في وعينا كبشر، فيتحقق البصري ضمن عالم مرئي ويتحقق السمعي ضمن عالم مسموع في حدود معينة، ويتحقق التذوقي عند تناول شيء ما أو الإيحاء بتناوله وهكذا مع باقي الحاستين الشمية واللمسية، وفي الآن ذاته عندما تكون المادة مكتوبة، كما في حالة الرواية التي ندرسها، يكون الفضاء السمعي منجزاً من الكلمات محققا من خلال الكمات لفضائه الحاوي له الذي يمكننا من تمثله ذهنياً.

مقالات ذات علاقة

قراءة في تراتيل

المشرف العام

جدليَّةُ الظل والجسد في ومضات جمعة الفاخري القصصيَّة

المشرف العام

حوار.. وآخر!

نورالدين خليفة النمر

اترك تعليق