عندما كنت طفلة، كان يمر من أمام بيتنا في قرقارش بطرابلس، من حين لآخر وقت المغرب.. رجل فارع الطول، يعزف على المزمار الإسكتلندي.. كانت أنغامه الساحرة عندما تتناهى الي سمعي من بعيد، أخرج مسرعة وخلسة من بيتنا، وأنتظر حتى يمر من أمامي تماماً وأسير خلف هذا العازف، محاولة تقليد مشيته العسكرية، ولكن عزفه كان يجعلني لا أتمكن أبداً من ضبط إيقاع خطواتي مثله.. أحاول حتى آخر شارعنا، وأرجع مسرعة للبيت، مترنمة رغم فشلي في ضبط خطواتي، قبل أن ينتبه لغيابي أحد.
ولا مرة توقف هذا العازف عن طقسه، وسألني: من أنت ولماذا تتبعيني؟؟
ظل عزف ذاك المزمار في الوجدان حاضراً بقوة وبحب.. فكم تمنيت أنه التفت إلي مرة، وحكي معي، ولكنه لم يفعل ذلك أبداً! وظل سر هذا العازف الأشقر الساحر مجهولاً، ولم أعرف من هو ولا من أين وماذا يعمل؟؟
تراقصت هذه الذكرى أمامي اليوم، وأنا أقرا بوست للدكتورتنا العزيزة “مينو سلام”، التي أحب إدراجاتها الغنية والمميزة، فهي غالباً ما تلامسني بقوة..
بوست الدكتورة اليوم عن فن الصعاليك أو (الزعاليك) في ليبيا.. أنا لست خبيرة ولا مجتهدة أيضا في مجال تاريخ الفن الشعبي الليبي، ولكن ضمن ما يؤلمني ولا أجد له أبداً أي مبرر، هو غياب الأجوبة عن أسئلة، أراها بديهية والمفروض أننا نعرفها، لأنها تتعلق بتاريخنا وأتعجب كيف تظل طوال هذا الزمن باهتة، لا تجد باحثاً شغوفاً يميط اللثام عن أسرارها الكثيرة جداً.. رغم ماورد في إدراج الدكتورة اليوم من اجتهاد مشكور عن فن (الزعاليك) عندنا، فهو بهذا المسمى جديد على معرفتي، ورغم ما ورد في الإدراج من معلومات منها إنه خليط بين الفن التركي الصوفي والأفريقي.. وأنه بما عليه الآن هو فن ليبي شعبي.. هذه المعلومات جعلت الأسئلة الآتية تحضر:
من هم زعاليك ليبيا، الذين ينسب لهم هذا الفن؟ وأين مكانهم بالتحديد؟
ولماذا تمت تسميتهم بهذا الاسم؟؟ ومتى؟؟
لو سلمنا جدلاً بأن هذا الفن خليط تركي أفريقي ليبي، فمن أين جاء المزمار الإسكتلندي (الزكرة)، ودخل على خط (النوبة)؟؟
وأين يمكننا وضع الغناء الأندلسي من موشح ومالوف المصاحب الأزلي (للنوبة) عندنا؟ هل هو أيضاً يحسب على فن الزعاليك؟
تاريخ الفن عندنا بكل أنواعه وفي ليبيا كلها.. حايس في بعضه كما هو في كل شيء.. ولم يحظى على مدي قرون مش سنوات، بمن يقوم بتوثيقه بشكل علمي دقيق.. بصراحه أنا أخجل من نفسي عندما لا أجد إجابات عن أسئلة، يفترض أن عندي لها أجوبة والأمر يزداد سوء عندما أبحث ولا أجد أجوبة تقعني أو ترضي جهلي.