قصة

صورة

من أعمال التشكيلي مرعي التليسي

وضعتني سيدتي في الصدارة، على الحائط المقابل لكل من يدخل إلى صالة بيتها، صورة امرأة جميلة تلبس تاجاً مرصعاً بالأحجار الكريمة وتتحلى بمجوهرات ملكية، تتكئ في دلال على رجل يبدو عليه الوقار، خلفيتها بيت فاره موشى بالتحف والنفائس.

 كنت أرمق من يتفحصني من ضيوفها ومعارفها في خيلاء، كل من يدخل بيتها أشد انتباهه، أنتزع إعجابه، تتيه سيدتي بكلامهم، ترتسم ابتسامة جميلة على ثغرها الوضَّاء وتقول في زهو وكأنني أهم انجازاتها:

– استطعت الحفاظ عليها منذ سنوات طويلة.

كنت شاهدة على كل ما يحدث في بيتها الفخم، أضيق أحياناً بالجدار الذي يحملني، أشعر بأنه مائل وإني على وشك السقوط لكنني أصبر واتجلد من أجلها

– أين قميصي الأبيض ؟ أنت فعلاً امرأة مهملة

يشتمها زوجها بأعلى صوته وهو يبحث عن قميص لا يريده أصلاً، تركض سيدتي بأقصى سرعتها لتوصد الأبواب والنوافذ حتى لا يسمع صراخه الجيران، تسلمه القميص الذي تجده في مكانه المخصص دون أن ترد بكلمة واحدة على كلامه الجارح…

منذ فترة رأيته لأول مرة بالجرم المشهود، جلب إلى بيته سمراء ممشوقة القوام، ترتدي ملابس صارخة الألوان وتضع عطراً قوي الرائحة أصابني بالغثيان، غازلها بكل وقاحة على الأريكة الموضوعة تحتي مباشرة، غضبت عند رؤيتها غضباً شديداً، اُصبت بشق في الجزء الأسفل من الإطار المحيط بي بسبب فعلته، لم تنتبه سيدتي للشق الذي لحقني إلا بعد مرور عدة أسابيع رغم أنها كانت تلمعني وتقوم بصقلي كل يوم، ذُعرت لمصابي، مسَّدت الشق بحنو وكأنني طفلتها المدللة، لم تتمكن من إخفاء انزعاجها وهي تخبره بما حدث، لكنه قابل اهتمامها وضيقها باللامبالاة كعادته، غمغم وهو يتصفح إحدى الجرائد ويتمطى في كسل :

-لا تستحق هذا الاهتمام، ربما عليك إزالتها.

لم تأبه لما يقول، أحضرت جبساً أبيض، رتقت الشق بعناية وصبر، تحايلت في طلائه بلون ذهبي أخفى أثره تماماً ثم صقلته بأحد أنواع ملمعات الأثاث الجيدة، كانت قد اشترته مع مجموعة من الدهانات والمرممات ودستها في مخزن كبير في قلب بيتها.

يغدق عليها المال دون حساب وفي الوقت نفسه يهينها ويحقرها ويخونها تحت نظري وسمعي، مشهد يتكرر دون انقطاع، وفي كل مرة يتشقق جزء مني حنقاً وتقوم هي برتقه وتضميده دون كلل….

الليلة البارحة بدأ الخوف جلياً في عيني محظيته، تلجلجت وابتلعت ريقها بصعوبة:

– جارتكم رمقتني عند دخولي هنا، تلك البدينة تبدو سليطة اللسان ولن تسكت.

– لا عليك، لن تصدقها.

شعرت بغليان وغضب شديد، انكسرت قطعة لا يستهان بها من مقدمة إطاري، سمعت طرقعة وقوعها على الأرض بقوة، تفتّت إلى قطع صغيرة وتبعثرت هنا وهناك، كيف لها أن ترممها هذه المرة؟

 راقبتها صباح اليوم وهي تتفحص مشبك شعر وجدته بالقرب من أحد أرجل الصالون، كان مشبكاً مرصعاً بفصوص زجاجية ملونة بالوان زاهية تدل على ذوق سقيم، ليست من النوع الذي تستعمله سيدتي، وضعته جانباً في جمود، لم تهتز إلا عندما لمحت الجزء المكسور مني، تأوهت في ألم، بكت بحرقة وهي تلملم الأجزاء المهشمة الصغيرة بأناة، قضت نصف يومها وهي تحاول لصقها في مكانها وإخفاء آثار ندوبها دون جدوى.

كان جالساً في صمت، يرنو لها بنظرات مشفقة على غير عادته، همس وهو يتأمل جفنيها المتورمين ويراقب محاولاتها المستميتة لتخفي الصدع:

-لا بأس، يمكننا استبدالها بأخرى..

هزت رأسها في أسى واناملها المرتعشة تتحسس اثر نتوءات الكسر في يأس.

عندما عاد ذلك المساء لم يجدها، لم يكن في انتظاره سوى اطاري المكسور.

مقالات ذات علاقة

3 قصص قصيرة

محمد دربي

خَـلـفـيّـات

أحمد يوسف عقيلة

حـياتـك غـريـبة!

الهادي نجاح

اترك تعليق