يتوقف الدكتور محمود ملودة أستاذ النقد بجامعة مصراتة في دراسة له عن النقد الروائي الليبي عند تمظهرات المنهج وآليات الممارسة، حيث ألقى جزءا من هذا البحث في محاضرة بمجمع اللغة العربية، متناولا المنهج الاجتماعي في المتون النقدية للرواية الليبية.
ونعرض هنا جانبا من تناوله لهذا الاتجاه في بعده الصحفي؛ وتحديدا في كتابات النقاد سليمان كشلاف وأمين مازن وكامل عراب، وتحليل هذا النقد وبيان القضايا التي أثارها.
> نقد متأخر
وأوضح ملودة أن النقد القصصي شغل حيزا كبيرا من اهتمام النقاد الليبيين بالنصوص السردية، كما شدد على أن «النقد الروائي الذي ساد في العقود الثلاثة الأولى من عمر الرواية الليبية ظل أسيرا للمؤسسة الصحفية والتي وإن قامت بدورها في التعريف بالرواية والاحتفاء بها، فإنها لا يمكن أن تكون بديلا دائما عن بنية نقدية رصينة تحمل ملامحها الخاصة النابعة من حرفية المنتج وطاقات النص»، وتوجه هؤلاء النقاد الصحفيين إلى الرواية جاء في صورة قراءات نقدية، لروايات جديدة لكتاب جدد، والملاحظ مع ذلك أن هذه المتابعات تأتي متأخرة، وكثيرا ما شكا الروائيون من تأخر النقد الصحفي في متابعة نتاجهم.
وأشار وفق هذا الطرح إلى رأي الروائي خليفة حسين مصطفى بالخصوص القائل: «كل ما يصدر من إنتاج أدبي جديد يظل بعيدا عن دائرة النقد والدراسة ولا يلتفت إليه أحد إلا بعد مرور سنوات طويلة»، وما هو متوفر من هذا النقد يوصف بأنه «لا يزال يميل إلى الذائقة الذاتية، والاندفاعية نحو إصدار واستصدار الأحكام جزافا أكثر منه ميلا إلى الموضوعية الصارمة، وربما يكون الدافع إلى ذلك مبدأ التشجيع ليس أكثر».
> مراحل زمنية
ينطلق الدكتور ملودة في رؤيته من تقسيم زمني عبر محطات تتناول الأولى حقبة السبعينيات، حيث تبرز أهميتها من خلال الأحداث التي وقعت فيها، وقد كان لها انعكاس مباشر على الأدباء والنقاد والحياة الثقافية في ليبيا بوجه عام، فعربيا تصنف السبعينيات ضمن مرحلة ما بعد نكسة 1967، وطبيعي أن تقود الصدمة إلى زعزعة الكثير من القيم والثوابت، ما أنتج رد فعل يتطلع إلى رؤى جديدة، وطرح أسئلة تعالج الذات الجمعية، وتحاول التشوّف إلى إجابات ترضي الذات المجروحة.
وعلى وتيرة تداعيات هذا الزلزال كان الوقوف أمام مشروعين في النقد العربي؛ الأول يدعو إلى الحداثة كما في طرح أدونيس وكمال أبوديب، ومشروع آخر يدعو إلى العودة للأدب الملتزم على نحو ما طرح محمود أمين العالم وتبعه شكري غالي ولفيف من الأيديولوجيين. ولا شك أن المشروع الأول كان صداه منعدما في ليبيا نقديا، بينما نرى بروزا واضحا للمشروع الأيديولوجي في ليبيا، ويأتي ذلك متسقا في توصيف بروزه عربيا؛ إذ «ترافق ازدهار هذا التيار النقدي مع التطورات الاجتماعية والسياسية التي شهدها العالم العربي».
وأضاف أن ما ساعد على ظهور التيار النقدي الواقعي في ليبيا، التحولات السياسية عقب الإطاحة بالملك وإعلان الجمهورية في سبتمبر 1969 وتبني نظامها المشروع الاشتراكي، ومع تخلي مصر عن الاشتراكية عقب العبور، فإن السلطات السياسية في ليبيا ما فتئت تعلن أنها وريثة الاشتراكية والقومية، ما نتج عنه غربلة داخل المشهد الثقافي الليبي عقب ما سمي بالثورة الثقافية، وانتهى إلى تغيير كبير شمل الثقافة والأدب، حيث أقفلت صحف وسجن مثقفون.
> كشلاف والسرد
ويصل الباحث على خلفية هذه التحولات إلى سبر تمظهرات النقد الروائي الليبي المتغيرات في عشرية السبعينيات الصعبة، وذلك برصده طيفا من النصوص النقدية لهذه الحقبة منها مساهمات الناقد الراحل سليمان كشلاف بالخصوص كما في رواية «وميض في جدار الليل» للكاتب أحمد نصر، حيث يربط كشلاف بشكل مباشر بين العمل وصاحبه ربطا مباشرا، ويرى في النص وثيقة اجتماعية، ويحرص على تسكينها بالتاريخ الواقعي، ولهذا يصنف الرواية ضمن الأدب التسجيلي لأنها «تسجل فترة من التاريخ الليبي في السنوات الخمس الأخيرة قبل سبتمبر 1969، وتروي قصة حب تسير في خط متواز مع قصة صراع سياسي، الخط السياسي يلتقط أحداثا وقعت بالفعل في الستينيات وتحديدا سنتي «1965-1964» الانتخابات النيابية التي جرت في ليبيا.
وبحسب تعبير ملودة يمضي كشلاف في إصراره على تتبع قيمة الصراع داخل الرواية، ضمن مقولات هذا المنهج وهو لا يكتفي بنقد الواقع بل عليه أن يطرح الرؤى الممكنة أو الوعي الممكن، والذي حدده في مسارات منها: سجن بطل الرواية شريف عمران، أي صراع المثقف مع السلطة، وخط الطالب الجامعي حسن، أي الوسط الطلابي وخط النائب الحاج إسماعيل أي موقف رأس المال، فالناقد لا يكتفي بمناقشة ما هو موجود في الرواية بل يقترح ويوجه الروائي إلى تتمة ما يراه ضروريا لاكتمال المشابهة بالواقع من جهة، والإفصاح عن الرؤى والأفكار من خلال صراع الشخصيات وصولا إلى اكتمال رسم أبطاله قصد تحقق النمذجة في الرواية، وقد تبنى كشلاف هذا المسار في جملة من كتاباته النقدية مثل تناوله لروايات «أقوى من الحرب» لمحمد علي عمر وغيرها.
> مازن ومقارباته
وينتقل في ورقته إلى زمن الثمانينيات مشيرا إلى كتابات الأديب أمين مازن المستندة على منهج الواقعية الاشتراكية كما في مقاربته لرواية «المطر وخيول الطين» للروائي خليفة حسين مصطفى والتي يراها تحقق شروط المنهج من الدلالة الاجتماعية.
ويلفت الانتباه إلى أن تأثير النقد الاحتفائي جلي في هذه الأحكام، وظهر النقد الصحفي عند مازن في تعاطيه مع النص؛ حيث قسم نقده إلى جانبين الأول احتفائي المشار إليه والنصف الآخر يشمل ملاحظات تخفف من غلواء المجاملة، وبذلك يكون قد وقع في التناقض من حيث لا يقصد؛ فبعد المدح الفخيم للرواية يقدم ملاحظات تمس أركان الرواية مسّا يكاد أن يرزي بقيمتها الفنية بالكامل.
ومن جانب آخر يظهر ملاحظاته على شخصيات الرواية، حيث يرى مازن بناءها مما أفقدها النمذجة، وبذلك لم يستطع الكاتب «أن يقدم لنا شخصيات ذات أبعاد إنسانية.
وينتهي الدكتور محمود ملودة إلى أن أمين مازن لم يكن معنيا، في تقديره، بنقد الرواية قدر انشغاله بتقديم عمل أدبي محلي يستجيب للمتغيرات السياسية والاجتماعية في ليبيا، فالرواية تعد الأولى في إدانة العهد الملكي، بل يكاد يكون مجمل مشروع الروائي الراحل خليفة حسين مصطفى لا يغادر هذه الثيمة، عدا إن نشر هذه المقالة النقدية في مجلة الفصول الأربعة التي يرأس تحريرها أمين مازن بحسب تعبيره ما هو إلا إعلان مبطن عن توجه جديد في الكتابة الأدبية، فكل أدب يعترف به هو الذي ينحى هذا المنحى، وقد ظهرت رواية فوزية شلابي «رجل لرواية واحدة» في زمن رئاسة أمين مازن للمجلة، لم يتناولها هو ولا غيره بالدراسة أو التعريف بها؛ لأن الرواية تتعاطى مع الواقع بجرأة وتعكس الصراع الفكري داخل النظام السياسي، وهذا ما تجنب أمين مازن الخوض فيه.
> رؤية عراب
وتطرق المحاضر إلى تناول الناقد الراحل كامل عراب لرواية «جرح الوردة» لخليفة حسين مصطفى، وحاول تسكين «حي الزيتونة»، الذي تكلمت عنه الرواية، ضمن الواقع الخارجي والتاريخي لليبيا، فحدد موقعه الاجتماعي والجغرافي في طرابلس ووضعه عند سنة 1964، واستعرض الشخصيات بناءً على هذا التصنيف الزمني، ونفذ من خلالها إلى الطبقات الاجتماعية في ذلك الوقت؛ فعمر الخيام يمثل الطبقة الكادحة، وأحمد عبد الله ينتمي للطبقة المتوسطة كونه يشتغل معلما، وعبد الغني ينتمي إلى الطبقة البرجوازية.
وكان مدار الصراع حول فاطمة بطلة الرواية، فهل تختار عمر الخيام الذي أحبها بصدق أم تختار عبدالغني الذي يشتهيها ضمن الأشياء التي يستطيع تملكها والاستمتاع بها، وهي اختارت الطبقة المتوسطة عبدالله في رمزية نجاح الطبقة المتوسطة في أن تتضافر مع بعضها وتنهض بالمجتمع.
وبحسب تعبير عراب، فإن خليفة حسين لم يصور المجتمع تصويرا دقيقا، فجاء عمله استعجاليا، اعتمد فيه على الاسترجاع الفني، وهذه العودة «أوقعت الرواية كلها في مزلق السرد السطحي الذي يشبه محاضر جمع الاستدلالات بما يجانب الشروط الفنية للبناء الروائي» ويرى أن «نماذج الرواية نماذج مهزومة بشكل عام لا تفعل شيئا لا تقاوم وتتسلى بالضجر وتنتظر مصيرها في قدرية واتكالية ظاهرة».
ويستنتج الباحث من ذلك أن عراب تقصى عن النمذجة في رواية «جرح الوردة» فلم يجدها، ولا يكتفي برصد الغياب بل يقدم تشخيصا للظاهرة، فيرجع السبب إلى غياب الموقف عند الكاتب، وهذه إشارة مبطنة منه إلى أن الروائي لا ينتمي إلى التيار اليساري.
بوابة الوسط، السبت 29 أكتوبر 2022