كل الناس الطيبين ينتظرون المطر بلهفة وشوق عظيمين، ويرفعون أكفهم إلى السماء عند مطلع كل صباح داعين الله أن يرزقهم الغيث النافع وألا يجعلهم من القانطين. المطر رحمة مهداة من الباري سبحانه وتعالى لتغسل قلوب البشر وتعمر أديم الأرض على حد سواء في جميع أركان الكون. وللمطر طقوسه ولوازمه حتى تتهادى رخاته وسيوله في رشاقة ودعة وأمان وهي تصرع جيوش الجفاف والعطش، مثل الحر الذي له طقوسه المعتادة عندنا، تلك التي نحتمي بها من لهيبه وشدة سخونته في أيام القيظ الحارة.
وثقافة المطر، مثل أي ثقافة أخرى، لابد من التعود عليها وممارستها بشكل طبيعي حتى لا يكون البلل سبباً في الإصابة بنزلات البرد والزكام أو غيرها من الأمراض الأخرى التي تمنح إجازة إجبارية في الفراش. ومن أهم أركان هذه الثقافة المطرية هي المداومة على متابعة النشرات الجوية لمعرفة أحوال الطقس وتتبع تغيراته. وفي بعض البلدان المتقدمة والتي من بينها بريطانيا يدمن الناس الحديث عن الطقس ويعتبرونه مدخلاً ناعماً ومقبولاً لبداية أي حديث قد يؤدي إلى معرفة متطورة تتصادف في طابور انتظار الحافلات أو القطارات أو غيرها. كما أنهم يثقون بدرجة كبيرة في نشرات الطقس وما يقدمه المذيعون المختصون من تنبؤات دقيقة جداً عن حركة الطقس وظواهره تسهل عليهم اتخاذ العديد من القرارات الشخصية البسيطة.
ومن ثقافة المطر أيضاً التعود على حمل واستعمال مظلة المطر “السحابة” والتي تعد جزءاً أساسياً من الملابس والثياب التي تختارها للخروج من البيت أو العمل أثناء هطول المطر. هذا بالإضافة إلى ارتداء معاطف النايلون الواقية من قطرات الماء وحوافظ الأوراق والملفات البلاستيكية لحماية المستندات أثناء الترجل على الأرصفة المبللة بالمطر.
كما أن التعود على الحركة والتنقل مشياً على الأقدام أو قيادة السيارة في الطقس الممطر يصبح أمراً ضرورياً إذا عرفنا أن هطول المطر يتواصل غالباُ وبشكل مستمر عبر فصول السنة كلها في بريطانيا وطوال ساعات اليوم في بعض مدن الشمال، وليس كما يحدث عندنا خلال أيام معدودات في فصل الشتاء فقط.
هناك المطر لا يتوقف كما أن الحياة لا تتوقف أيضاً عند هطوله. فالحركة تتواصل بشكل اعتيادي والأعمال تنجز بنفس درجة الأداء والمرافق جاهزة لمواجهة أية تطورات أو فيضانات أو غيرها مما يحمله المطر من متاعب في حركة المرور والسلامة والأمان على الطرقات.
لكننا في بلادنا لم نتعود أن نستعد لاستقبال المطر على المستوى العام بتهيئة المرافق ووضع خطط الطوارئ في وقت مبكر وسابق لموسم الإمطار، ولا على المستوى الخاص بتوفير الأحذية المناسبة والمعاطف الواقية من المطر وابتياع المظلات التي تمنع البلل عن أجسادنا وأدواتنا البسيطة التي نحملها أثناء التنقل.
ولذلك فنحن تعودنا أن نتسمر في بيوتنا عندما تبدأ السماء في تفريغ مخزونها من الماء. ومع أول صاعقة رعدية تنذر بقدوم المطر تشل الحركة في حياتنا. تنقطع الكهرباء فتتوقف المخابز عن صناعة رغيف الخبز ومثلها محطات تعبئة الوقود وتغلق المحلات التجارية أبوابها في وجه الزبائن ويتوقف استقبال البث المرئي وتصمت محركات السيارات نتيجة برك الماء التي تغلق الطرق فينقطع التواصل ويختار كل واحد منا ركناً من أركان البيت يتقوقع فيه لينقطع عن العالم الخارجي. بينما يقضي الأطفال وقتهم في السفر إلى عالم الخيال الذي تنسجه لهم حكايات الجدات بأسلوبهن السردي الممتع فيسهرون تحت أغطية البرد ولا يهابون السهر حتى ساعات طويلة من الليل لأن مدارسهم تغلق أبوبها في الشتاء نتيجة … المطر!!!
هذه هي في الغالب تفاصيل حياتنا في الطقس الممطر الذي تعشق قطراته حبات الثرى ووريقات النبات بينما أجهزة المرافق تنزعج من سيوله التي تجلب المشاكل وتبرز سوء الاستعداد والتخطيط ولذلك ترسخت فينا ثقافة خاطئة نحو هذا الضيف الشتائي الذي صار للأسف … مطراً غير مرغوب فيه، فمتى تتغير ثقافة المطر عندنا؟
نشرت هذه المقالة ضمن سلسلة مقالاتي في زاويتي الأسبوعية “مصافحة” على صفحات جريدة “أويا”، العدد رقم 134 الصادر بتاريخ 27/1/2008م على الصفحة الأخيرة رقم (24)