ظاهرة الفساد المالي:
لم يسلم أيّ نظام سياسي ليبي من ظاهرة ” الفساد المالي” وشوائبه المُتجلية في نهب المال العام واجتناء ثمرته إذ في عنتٍ يرفض صاحبه على أنه عمل قبيح ومشين ، ذلك منذ حقبة الإستقلال بُعيد تصدير البترول وتدفق ايراداته ، تلك الحقبة التي يزال يخالها المرء على أنّها ” فردوسٌ مفقودةٌ في لجّة الحياة” وما شاكل ذلك مزاعم ، وإلى كلّ مآثر حُقب فردسةِ الفراديس المتتالية بعد تلك الحقبة و التي نقيسها – اكتفاءً بنعمة التمني والخيال – بما ينعم به المجتمع الليبي الان من رفاهية وتطور و اِزدهار وتقدم إلى حد انقطاع الكهرباء لساعات طويلة يعيشها الناس بلوعة الجريح كأن بينهم وبين ” الضي” عدواة ما تنقضي أبداً .
” النهب المبرمج”:
لعل المرء لا يعرف بلده جيداً للبحث عن حالات التفسخ والانحطاط إلا عندما تتعاوره المتناقضات وتهرب منه نعمة تدبير موارده الطبيعية من بين أصابعه كالماء ويتجافى عن الباسها لباس الكمال والعصرنة، انسجاماً مع هذا السياق سُئل غسان سلامة في إحدى البرامج الفضائية سؤالاً من قبل مثقفة ليبية لامعة، سؤالٌ فيه ذكاء ودهاء وينمُّ عن سخرية تزرع البسمة على وجه المستمع وتقوم على الإيحاء بحكم مسبق يلمح ولا يفصح إذ كان السؤال: هل هناك فساد مالي في ليبيا الآن؟ برهة صمتٍ تحت وطأة رفع الحجب عن الأستار، كاد أنْ يطلق الأستاذ سلامة ضحكة عالية بسبب هذه الهزة المُفاجئة، فأجاب بمنتهى الثقة التي لا غموض فيها، وكأنه يقول معاذ الله (معقولة)، وفي لكنته كانت ثمّة مرارة وتحسر إذ قال: ليس هناك فساد مالي البتة، فالفساد تعاني منه بلدان عربية كثيرة أخرى، بل الأمر – في ليبيا- أدهى وأخطر فهناك “نهب مبرمج للمال العام “. بدرجة كافية تسمع في تلك الإجابة تصريحاً في شدّة وعمق السؤال ذاته تخرج به من فتنة الثرثرة والعبارات المختلطة بالمتاهة اللا منتهية الآفاق في المديح إلى فضاء التنبيه والتحقق.
بذرة النهب الأولى:
فقائلنا السياسي والأستاذ المخضرم – وعلى وجه يكاد يكون مشابه – يقول ما قاله شاعر ليبي شعبي مخضرم عن بدء الفساد المالي ونشأته ونبت بذرته الأولى وسقياها في حقبة الإستقلال بتعريةً تأمُلية ناقدة خالية من لبوس كمال الحقبة وفيها نقد لبعضٍ من أهل المناصب وكبار الموظفين ممن كانوا يبحثون عن الغنائم و ممن تعلموا كيف يُفتح الطريق في يُسرٍإلى البنوك الأجنبية كما سيشير الحبوني إلى ذلك صراحةً في قصيدته في حين الأغلبية من أهل البلد آنذاك ما كان لها همٌ من الهمومِ سوى اطعام الأولاد والعيش الميسور واكتساب الرزق وسبل العيش كما توحي القصيدة وتخبر كما سنرى ، و الحال ذلك فاحت رائحة الفساد في البلد فظهرت بعض الأصوات تنبه عن نشوء تلك الظاهرة الجديدة حيث حينها بقدر وبآخر ارتفع صوتُ شاعرٍ جرئٍ فاقت جرأته جرأة أعتى المثقفين حينها ، فتأمل ذلك الشاعر وغرّد بصوت استحال إلى ومضة مشرقة، صوتٌ جذب الناس وكان له صداه الكبير ، صوت شاعر شعبي بسيط وصادق وحكيم اسمه جعفر الحبوني ، شاعرٌ واجه النفوس جميعها بهزة تحذيرية مباشرة لم ينطق بها لسان آخر، صوتٌ موافق في الوصف لما فيه ليبيا حيننها.
رؤية لا تهتم بولع الإعجاب بها:
رأى الحبوني حينها إنّ البترول بدأ يرتبط بالجاه والمنصب والثروة وليس لضمان اِزدهار البلد فشرع يغرد كما يقول هو لا كما تقول مصادر أخرى شغفاً بالكذب والتزوير والباس الحقبة لباس الكمال بل غرّد بعفويته الحكيمة ورؤيته الحادة ببعض الإشارات والعبارات ذات ايحاء سياسي عفوي غير مؤدلج لا اِجحاف فيها ولا شتيمة ، عبارات صادمة ليس فيها تضليلاً لطيبة البسطاء من الناس فهي واضحة مباشة تستند على الفطنة والسجية الفطرية ، فتداخلات في القصيدة بكلمات تتماوج فوق سروح الواقع لنبش بواطنه بصراحة مباشرة تتميز بمناخها الشعبي البسيط ؛ فالقارئ حينها يقرأ القصيدة بلغة عامية يفهمها الجميع ليس فيها عنت ولا تحمل مغريات الغموض والرمز، يقرأ فيها لغة الحياة اليومية الباعثة للسخرية والدهشة ومناغاة العقل.
حالة الحبوني الشعرية:
وتلك – إلى حدٍ كبير- كانت ميزة تميّز بها الشاعر الحبوني حينها فقد كان يصوغ كلمات مباشرة في الشعر لا كدراسة سياسية أو وثيقة تاريخية أو مقالة رمزية بل ينسج بتتابع شعري حركة الكلمات التي ما كان لها شأن بفكرة ” النضال التحرري الوطني” السائدة في تلك الفترة ولا بـ ” الأفكار التقدمية ” الوافدة من شرق البلاد التي كانت تبشر بها اديولوجيات مستعارة من اديولوجيات متعددة. على أنّ الحبوني – كما سنرى- قال بوضوح إنّ البترول لم يزرع في الحياة الإجتماعية الليبية أسباب التطور والرخاء والتقدم لحماية المجتمع من الركود وغياب العدل. حالة شعرية لم يكن يرهقها المعنى، ولا ينال منها التعب أو المواربة، إنّها حالة تنطلق من آفاق المجتمع الليبي وتقلباته السريعة غداة اكتشاف البترول وتصديره، فبدت مشاهد القصيدة مُكللة بالعفوية والوضوح أمام القارئ كأنها تسري في انسياب.
مبدأ التعريف ببذرة الفساد المالي الأولى:
رأى الحبوني في ذلك الفساد على أنّه خطرٌ يهدّد البلاد من بعض الوجوه وبالأخص في تنواعته المختلفة التي تلامس بنية المجتمع الليبي، فشرع يسأل قبل أن يصل الفأس إلى الراس وقبل أن يبعث النفط بعطره الفواح إلى عصر غير مرتقب جديد غريب مضطرب ومتخبط والذي قد يُحجب فيه التأمل فيما قد يعرّض مجموع الثقافة والنسيج الاجتماعي والعيش المشترك للتهديد، لنقرأ ما غرده الحبوني في قصيدة صارت من تراث الناس البسطاء:
وين ثروة البترول ياسمساره
اللي ع الجرايد نسمعوا باخباره
في صوت الشاعر غضبة متسائلة سيتسري في جنبات القصيدة فقد كان يجاهر ولم يكن بخائف متردّد، فقوة السؤال مغالبة وفيه كياسة وأدب جمّ، فيصف الشاعر فيما يشبه التعريف البسيط ” ابطال السطو” بالسماسرة كما وصف غسان سلامة “السّرقة” في الوقت الحالي الليبي بالنّهابة و”النهب”. فلا مرارة السؤال تهزمها الحيلة ، ولا بساطة الكلمة و عرضها المباشر تدفعان بها إلى سخرية المعن بعيداً عن أرض الواقع ، وهو بهذا السؤال المستفز الشجاع يظهر على على شتى اطراف النقيض مع المدّحين حينها للسلطة ، لنقل إنّ الشاعر لا يخدعنا بظاهر الكلام ، فمع معاني الكلمات ندخل مع الحبوني برؤيته الخاصة الممهدة إلى منبت البذرة الأولى للفساد المالي في ليبيا حيث ينبه الناس بعبارات موجزة إلى أين تذهب الثروة و في أي مستقرٍ تجد لها مكاناً و إلى أي بلد تلتجي اليه وتحصن اموالها فيه وتستثمرها ، حتى أنّ الجن الأزرق لا يعرف له طريق ، لننظر في هذه الكلمات المحدقة أبدا و فيما كان يسمع الناس ويشعر بما يسمع ، وإلى أين كان يذهب بعض من المال العام فهي كلمات صريحة الوجه ذات فكرة حيوية تستدل بالمحسوس:
امغير ع الـجرايد نـسمعوا بنباها
في سويسرا شيّد عمار ابــناه
اوحل البنا للي في الوزارة
” زيد” و ” عبيد” لعبوا فيها
والفلان الفلاني في الخزينة ما ترك لا باره
وفي هذا الكشف الطاغي على التورية والتلميح يميز الحبوني بحرفنة فطرية الفرق بين الضوء والضباب، فقد نسمع عن تدفق النفط وثرواته وما يحاك عنه من أخبارٍ على صفحات الجرائد، بينما لا نقرأ بوضوح أين تصرف هذه الثروة. يكاد الحبوني أن يقول إنّ المعلومة لا تخلو من الغموض، بل الغموض أمرٌ أساسي مقصود بعينه في منهجية النهب لنسميه غموض ” سويسرا”.
هل في الفساد المالي خيانة للدولة؟:
وبفطرته البسيطة و بحنكة سياسية تذهب إلى حد مسألة العدالة والعدل والإنصاف إذ كان يرى أن السطو على المال العام فيه خيانة لـ ” الدولة” وغدر شنيع يشكل ظاهرة جديدة لا تخلو من العبث بالمال العام و الإستهتار بقيمته ، فزلزلت كلماته زلزالاً فيه طابع التحدي عن سياسة النظام وعن النزاهة المهنية وعلاقة اموال الشعب بفكرة ” الحساب” التي نرى أنّه لا غنى له عنها ، وهي فكرة حمالة الكثير من الأوجه. يقول فيما يشبه الخطاب التحذيري بمعزلٍ عن أيّ فكر مؤدلج كأنه كان يخشى أنْ تلقى السلطة حينها نهاية تعيسة من جراء استهتارها المفرط:
والشـعب واعي راه مــوناسيها
امـواله اللي راحن عـليه خـساره
لاسـبد من يوم الـحساب ايجيها
واللـي خاين الدوله ايبان عــواره
المال العام هو مال الناس ايضاً ولا ينبغي أن يضيع، فهذا المال يرى الشاعر أنّه قد راح على الشعب هباءً خسارة، أما ما جناه سياسي ومُحترف النهب العارف بالبنوك السويسرية فله مثالب ستظهر يوماً و لا ينفعها ترقيع ولا تبرير ولا حجب على الناس ولا يفيدها الجحود والنكران، بل وينبغي أن يستقيم العدل في حياض المجتمع بيومٍ في كلمة مُبهمة تكاد تكون مخيفة بلفظها السهل، إذ على نحو خطاب تحذيري يعلن تحت عنوان مشتعلاً بنار النهب من حوله بعبارات صارمة تترجم غضبة الناس:” لاسبد من يوم الحساب ايجيها”.. تكاد تكون رغبة يرجى بها منفعة. فليس في شعره استعارة أو كناية، بل يكشف الستار عن واقع ملموس نخره السوس عرفه الناس وخبروه.
أشياء كثيرة تتلاقى:
يبقى الآن على الحبوني أن يحدّثنا عن معنى العدالة الاجتماعية وتحقيق الثمار الاجتماعية لتلك العدالة بمعاني لا كلفة فيها ولا معاناة صانع، لذا فكيف كان يراها حينها؟ فخلافاً لمبرري الفساد المالي حقبة الاستقلال ونفيه تماماً في أغلب الأمر ،بل وخلافاً لأي معجم يساري جاهز حافل بكلّ الإجابات النهائية لحل مشاكل البلد ، نستشف حالة صدق واضحة ، فببساطة مباشرة يُغرد الشاعر الحبوني خلافاً لكلّ سفسطة و لكل كلام فضفاض وخرافات طوبائية تقوم بطمس الحقائق حين تدعي هذه الخرافات بأنّ الفساد المالي حقبة الاستقلال كان ضرباً من الإفتراء أو نوعاً من القيل والقال أو تشويهاً لذلك ” العهد الذهبي ” أو اجحافاً في حقه ، بل يتجاوز الحبوني بفطنته العميقة من سيعتبر الفساد حينها كان مجرد افتراضات زائفة من قبل المعارضين للنظام موصولة بالأبد المجافي له بعد الأبد.
فمن هذا الذي أراد أن يجاهر بالكلمة ليبتعث في الصمت والركود روح التمرد والمكاشفة ولماذا الإحاطة بهذه المعاني البسيطة ليتوصل بها للإحاطة بالمعاني المركبة؟
لا ريب في كلمات الحبوني:
لننظر مرة أخرى لكلمات مكثفة مكتزنة بالفكر العميق ومقرونة بمطالب الناس:
انريــدوا عداله هاك فـي باديها
أومـن غير هكِّ ماتنفع اولا خـباره
رنـين الخطب ياما اسمـعنا بيها
اشـجار نمّ ماذقنا لذيذ اثـــماره
إنّها حالة مؤمنة فلا مرارة الحقيقة تقهرها ، ولا رنين الكلمات والخطب ونشوة النهب تدفع بها إلى سكرة الزهو بعيداً عن الواقع المعاش ، فالشاعر في اِشارته الذكية لإشجارالنّمّ يعكف على وجوه التصادم بين التخلف والإزدهار، وهي اشجار غير مثمرة ولا نفع منها ؛ فكان يريد أن يفهم ويستفسرما الشأن عندما البلد يصير رهينة للنهب والسطو وغياب ” العدالة” وسوء الإدارة وتبدّد فعاليتها عبر توصيف رادعٍ تجلى في كلمات ” أشجار نمّ ” أي كأنه يقول فقدت الحكومات جدواها وقد اعترى النظام الفساد المالي ، كما كان يريد من الناس أن تفهم أنّ البلد دخل في معمعمة من الفساد قبل أن يبدأ في مشروع بناء الدولة الحديثة الذي طغى عليه ” رنين الخطب ” ، إشارة إلى العبارة الشهيرة التي كان يرددها كل رئيس وزراء جديد عند توليه منصبه ، وكان يدرك أن الخطب والكلام من فصيلة الاقراط المشعشة قرينة أشجار ” النّم” ، أيّ كلام مكرر حيت يقولها واضحة لا لبس فيها ولا حنجلة : “رنين الخطب ياما اسمعنا بيها” ، رنين المديح والإفتخار بمنجزات وهمية، إنها لغة جديدة شعبية تشدّ الأنظار إلى زيف الخطب المجلجلة التي ترشح بالحماسة والخيال بينما نتائجها : ” أشجار نمّ”. العدالة في الميزان الحبوني بحث في الوعي الفطري ومعانيه حيث قد يميل المرء إلى تسميتها بـ ” العدالة الاجتماعية”. وفي تنبيه للتناقض بين الناس في الكسب المعيشي يقول وقد لمس حالة المجتمع وأدرك أبعاده الجديدة:
ناري على اللي ناقصين مهية
واِكبار الحكومة هاملين اضراره
غنايا او بيهاوات واقطاعية
هم ع القمم والشعب فالجرارة
“أشجار النم” وشعبٌ في الجرارة:
أما أشجار النّم فيزرعها لنا الساسة بترياقها و السم الزعاف منذ اكتشاف النفط وتصديره وجبي ريعه ،وما على الناس إلا قطافها والتلهي بها أما أهل النهب فما عليهم إلا التمتع بثمار أخرى شهية ولذيذة لهم ولأولادهم خارج البلد وداخل البلد على نحو مشابه لما يحدث الآن ، ولهم فيها اشجار العنب والتين والرمان والبرتقال والخوخ والتفاح والدراق والكمثرى والموز والأجاص و ” العوينة” ، ويجلس الناس حينها محل الطيف السحري بانتظار ” جودو” بينما هناك فئات تستأثر بالثروة والإمتيازات والنفوذ ، فقصيدة الحبوني كل عبارة فيها تجادل الوقت الراهن ففي معاني الكلمات إذا اعتمدنا التّأويل قوة حساسة هي المكاشفة وهي تكشف لنا جلال روعة الثقة والمغزى فإذا عمّ الفساد المالي وغدى شرساً كما هو الحال عليه الآن فتعمّ الفوضى ويتصرف كل شخص يجيد النهب بما يراه مناسباً مُتحيناً كل الفرص التي تُتيحها عواقب انهيار البلد لجمع الثروات وتكديسها بالبنوك الآمنة خارج ليبيا.
لِمنْ تُروى القصيدة؟:
فالحبوني رغم بساطته إلا أنّه غاص وأبحر في مكان لم يبحر فيه أعتى المثقفين حينها.. يقول متحدثاً أّنّه لا يقول القصيدة عبثاً بل واجباً وطنياً ينبغي أن يجهر به وأن ينصاع له المثقف والقاضي والجلاد و ” اكبار الحكومة ” من عصر الحقبة ” الذهبية” وعصر ” الجماهيرية العظيمة” وعصر ” النّم” الحالي، وهكذا تنهمر زخات من كلمات تقفز من فوق الحواجز الصعبة:
واعر كلامي يدفع الذّمية
ويعجب اللي مخلص او كامت ناره
……………
اوهاذي قصيده واجبي نـرويها
واكبار الحكومة هم اللي فــساره
يقول هذا وهو يعرف سلفاً بفطنته الساخرة الإجابة عند كبار سادات الحكومة آنذاك، هم الذين لديهم الخبر اليقين عن الفساد المالي وهم أهل السلطة والمسؤولية، بل وكأنه يخاطب مُبرري الفساد المالي – في كل الأزمان- ونفيهم تماماً عن تلك الحقبة ظاهرة الفساد في هذه الايام جهاراً خرافياً وعلى نحو تلفيقي لردم بذرة الفساد المالي الأولى ابان حقبة الاستقلال. لنتابع شؤون الكلمات الحبونية.. من الذي يريد أن يجمع بين جمع المال ليستخرج البترول من أجل المال مبتغى الساهرين على حقول النفط؟
كلام مباشر مبسط لا ينطوي على تمويه أو حذلقة كلامية:
لابد من تقريب البترول لمعنى المالية رغم أحقية الإختلاف في ترادف المعنى الذهني، فالبترول يخرج من البلد في كمٍ من براميل ظاهرة من وجه وخفية من وجه، فوق سفنٍ أجنبية لشركات بترولية لا يحس بوجودها إلا أهل الخبرة في جمع المال، سفنٌ تجوب البحار تنهض بحمله لأهله بطريقة تصعب على الناس كشف ستائرها وحساباتها السرية، وللبترول مردود مالي تعبرعنه لغة الأرقام وتلاوينها العدّدية وبإشارات سريعة نعود إلى السؤال الرئيس وقرينه المالي:
ويـن ثروة البــترول والماليه
اللي زايده مــليون فوق الـمِيّه
الحبوني يحيلنا إلى لغة الأرقام، فعملية السطو والنهب لها ارقامها المتعددة العملة، فالنهب ليس بالمية، فهذا لقليلي الحيلة والسماسرة الصغار، بل النهب يزيد إلى الملايين حينها، فلم يعد يرى الشاعر إلا تراكم المال وبأرقام مختلفة، مع علم الجميع، وبالطبع حالياً، يزيد عن البلايين، ويسأل سؤالاً لا حيرة فيه ولا تمزق في الكلمات والمعاني ولا لفّ ولا دوران على الفاضي: ” وين ثروة البترول والمالية ” فالبترول إنْ هو إلا ثروة متراكمة ماليا، وفي تهذيب فكرة السؤال يسأل الحبوني أين هي؟
ثم يذهب الحبوني ساخراً من تلك الحقبة كأنه في حيرة من أمره وبنداء جهير يعكس صورة الماضي حينها ويعكس صورة الحاضر القمئة، نداءً يحمل بواطن تمثيل الإشتباه والشبه والمفارقة والاختلاف في الإفراط والتفريط:
الواحد يقول اليوم نا شخصية
انشوف مصلحة نفسي ابكل شطارة
ويأخذنا الشاعر إلى اتجاه قوامه التأمل على المستوى الظاهر:
السـوال مني والــجواب عليّا
انهوّن على نــفسي اللي محتاره
النفس محتارة وتطرب للتهوين والسؤال الجارح المزلزل للفساد حينها يحمل في طياته الجواب: ” السؤال مني والجواب عليّا”، فالشاعر لا ينتظر الإجابة من أحد فهو لا يركن إلى معنى ليس له حظ واضح في القصيدة، فهو يسأل ويجيب ليعود من بعدها إلى طبيعته الإنسانية الواضحة. وهكذا تهب قريحته الإبتعاد عن الحيرة والتمزق.
ذكاء الحبوني في صور هامسة:
ثمّ وفي منتهى الذكاء يحدثنا الشاعر عن سنوات ” الحرية” والتي انعم الله فيها على الشعب أن يسمع عن أخبار المال الذي اختفى وتوارى فسرعان ما تساعده الذاكرة في العثور على فسحة من الأمل والتعاطف احترافياً بعيداً عن عواصف الشك والأسى، غير أنّه يعود إلى التزامه بقصد القصيد:
لـنا اطـناشر عــام في حريه
واحنا نــسمعوا بالمال وين تواره
فالوطن عند الحبوني لم يكن مجرد خريطة ونفط ونشيد وعلم ” يرفرف كأجنحة النسور ” وسفارات وطربوش وكاط اسكندراني وسيارة همبر ولم تكن عنده نغماً في خاطرٍ يلعلع تحت جنح الظلام. فكُنه الكلمة وسرها عند الحبوني مستورة مكشوفة متفردة، أعوام من الحرية عاشها الناس وعاشها الشاعر ينعمون بها أي بالحرية من خلال السمع من خلال المضي معها باختفاء المال، فلابد إذن أن يكون الشاعر كلامه جدلياً ذا طابع معياري يجمع لنفسه طابع القوة والصراحة التي هي الباب المشروع لتذوق الحرية ليس لمداواة جرح ولكن لكشف العجز الإداري حينها كما سنرى حسب ترتيب المعاني التي تخدم أهمية الإستدلال بالمحسوس.
غياب “أهمية المشروعات”:
الحبوني قال الشعر ببصيرة وفهم قلّ مثيلهما، قال في منتهى الوضوح شاهداً على تلك الحقبة التي عاشها وليس مزوّراً فهلوياً ينعم ببهارج الكلمات الخرافية عن تلك الحقبة، فلقد أضفى على كلمات قصيده بعداً اِقتصادياً تنموياً تنبيهاً مباشراً إلى سوء استخدام المال ووضعه في غير وجوه البناء والتطور في دقة كلمات بسيطة عميقة الوضوح بمأمن من الوصف الكاذب، فيقول:
لرقام عالــجرايد مالـهن عديه
ألــوفات مال تالفه اوقلّْ ادبــاره
ما كوّنت مــشروع له هِـميه
أيــفيد البلاد اونفهموا مــقداره
……….
ولي يشبك مع الشركات لجنابية
يبيع الضمير ويشتري المعاره
البلد يسمع عن أرقام عائدات البترول المعلقة فوق جبين الجرائد لا تُعد ولا تُحصى، ولكن مع قلة تدبير وتخطيط وتلف واِهدار مالي لا لبس فيه هو نفسه معنى النهب، والحبوني يضعها في كلمات تبعد عن التعاويذ والتمائم ويقولها صريحة واضحة : ” الوفات مال تالفة اوقلّ ادبارة” ، كلمات تفصح عن ذاتها وليست عن أمري تتحدث عن سوء الادارة والتخطيط آنذاك ، فالشاعر لا يجحف في حق الحقبة فلم يبصر أو يرى أي تقدمٍ ملموسٍ عالٍ إلى الأمام ولم يكن ثمة شوطٍ من من البناء والصناعة وازدهار السوق والتعليم والصحة وجلّ الخدمات الأساسية ، ثمّ ماذا ؟ الشاعر لا قِبل له بالدعاية المزورة فيقولها واضحة بقوة دافعة، أموالٌ طائلة: ” ما كونت مشروع له همية … يفيد البلاد اونفهموا مقداره ” لقد كان الشاعر مشغول بلحظة كأنه يستشعر خلالها بأن لحظات أخرى أسوأ سوف تتبعها تعبيراً عن أزمة اختلاط الأوقات.
الحبوني يتحدث من دليل الواقع الليبي حينها وينبهنا إلى مما قد ينتهي اليه الوضع المعيشي للناس:
لا عـــندنا اصناعات وطـنيه
اولا عندنا مــنتوج فيه تــجاره
جمـلة بضايعنا اتجي مــشريه
باسعار باهظه منهن الناس سماره
الحبوني -وليس عن أمري- يقول ما كان عندنا صناعات وطنية ولا منتوجات تجارية ونستورد البضائع باسعار غالية ترهق ميزانية الانسان محدود الدخل وتجعلهم يبيتون على همّ العوز والفقر. فهل ما وصفه الحبوني كان خيالي السبك أو وصفاً جائراً؟
ما جدوى قصيدة الحبوني؟:
فما جدوى أن يقول الحبوني ذاك الكلام وما علاقته بالوضع الحالي مروراً بسلسلة ” ملحمة ” أبطال وقادة الجماهيرية؟ إذا تأملنا بصدق فجدواه أنّ الفساد المالي عادة ليبية استمرت منذ بدء ظهورها في فترات حقبة الاستقلال وتطورت وتعددت بعد ” الفاتح” وزادت تطوراً وازدهاراً مع حلول فبراير الذي تمّ صلبه في الحال.
موقف الملك من الفساد:
وفي عزّ انتشار الفساد اطلق الملك ادريس كلمته التي شذبت الفساد وحذرت منه ومن عواقبه وانتقدته نقداً لاذعاً لا محاباة فيه ولا مجاملة استنفاراً للحق و من باب الصدق والحفظ على ثروات البلاد ووضعها فيما يصلح البلد والعباد وليس لقلة تنعم بها لنعيمها الخاص وحسب – كما هو الحال الأن – قال عن تلك الظاهرة المشينة أبلغ كلمة تدين الفساد وسط شواغله وقلقه على البلاد والعقبات التي كانت تعترضها بل وقلقه الجدير بالتقدير على البلاد والعباد حيث قال : ” لقد بلغ السيل الزبى ” مشيراً إلى التقاعس في المسير على طريق النزاهة والعدل وعلى تخصيص موارد البلاد فيما ينفع العباد ، أما الزبى فهو الحفر الكبيرة العميقة التي تعلو فوق سطح الوديان أو المكان العالي المرتفع الذي ينبغي ألا يصل اليه السيل ‘ فإذا بلغه الماء وغطاه فهذه العبارة تفصح عنه‘ فإتخذها الناس للإشارة إلى اشياء كثيرة تحيد عن مسارها وبالذات الفساد المالي وهي مقولة وعلامة على شيء ندركه لا يتغير معناها من عصر إلى عصر ، فصيحة الملك أرادها أن تكون تصدياً وتحدياً وتعديلاً وتوجيها إلى زرع الثمار المنتجة صيحةٌ قوامها تجنب الإستهتار بموارد البلد ، صيحة ذات مراس وحسن تقدير لم يتوارثها المجتمع الليبي ولم يتبعها الساسة منذ أن انطلقت لتحسين واقع الحياة السياسية والإدارية على جميع الصعد.
لماذا وين الثروة ؟:
لم يكن الحبوني – حسب فهمي وتقديري – يعني بالسؤال نيل حقه ونصيبه في البترول أو طلباً له لذاته، بل كان يعني قبل أي شيء حق البلد فيه من تقدم وازدهار وصناعة وتعليم مُنتج وليس تكديس شهادات لم تظهر ثمارها في البلاد حتى الآن، فكان من الواضح في عباراته يعرف الحق وينكر الباطل. خشية الحبوني النبيل وصيحة الملك ذات الحكمة البليغة لا تخلاوان من معاني اخلاقية وادارية وسياسية تجنباً للضياع والتيه وبحثاً عن دفْ الإنسانية المفقود ونهج العدل والإزدهار.