> شاعر الوطن أحمد رفيق المهدوي، كان كليم الوطن، مبدعا للشعر، باحثا في الشعرية، طال نقده بن زكرى كما طال موسولينى، طال المشكل الشعري، كما طال المشكل السياسي…
وبالتوازي مع أو في المهمة الشعرية، كانت المهمة النقدية، بحثا في معنى الكيان. وشاعر الوطن، كان عصمالي الجنسية، إيطالي الوظيفة، عروبي الأرومة، محلي اللسان، وطني الوجدان، المعارض للسلطة بسلطة النص.
عقب الحرب الثانية، تجلى الناقد الانطباعي، حاملا هويته دون مشكل، وإن في التباس الرومانتيكي، الذي عنده أن معنى الكيان، معطى مطلق ميتافيزيقي الطابع، وكان ملحا على التيقن، مستريبا في كل يقين، لكن هذا الناقد، الذي شكل إلهه من عجين وطني، هو الذي أسكت جوعه، من عجين ما صنعت يداه.
فيما بعد سيختزل المشهد النقدي، في أن النقاد الليبيين، كان لسان حالهم، بيان خليفة التليسي الرومانتيكي، ما جاء على شكل سؤال: هل لدينا شعراء؟، هذا السؤال الذي هو، تصفية حساب مع شعر الوطن / شاعر الوطن، شاعر المدرسة الكلاسيكية الحديثة، من كرسه الناقد، خليفة التليسي في كتابه: “شاعر الوطن“!.
هذا الناقد، يسوغ مفاهيمه النقدية، كما يسوغ مفاهيمه السياسية والفكرية، بين قوسين الإيديولوجية، لذا تباينت المفاهيم، والأطروحات النقدية، رغم جنينيتها، وغطائها الانطباعي، الذي سوغته المهمة التعليمية، الإيديولوجية والمهنية الصحفية، وعدم وجود المؤسسات الأكاديمية المختصة.
لكن هذا، جعل من الناقد، يكتب مقالة أدبية، مبدعا في كتابته النقدية، حتى تحولت نصوص يوسف القويرى، إلى كتابة إبداعية، مبحثها النقدي، يتجلى في مقالة نقدية كما نص إبداعي مستقل، أو كما تجلى ذلك في منحى آخر، في المقالة النقدية الاجتماعية للصادق النيهوم. وفي ذلك كمنت الخصوصية، الوهم الذي لا بد منه، حيث المهمة النقدية مهمة إبداعية، كما أن من النقد ما كان مبحثا فكريا، في مفهوم الهوية الوطنية، في مواجهة نقود فكرية ماركسوية وإسلاموية وعروبية. ومن النقد هذا، انبثقت نقود سياسية، تجلت في صحف، متعددة متباينة الأطروحات والغايات.
لكن هذا الناقد هاجسه المعنى: فـ “الكاتب في حاجة، إلى أن يرتبط بمعنى. ودون ذلك لا يمكن لهذا الكاتب، أن يحرك قدميه، لمسافة طويلة. سيجد أن، من المتعذر عليه، أن يستمر بنفس الحماس والعاطفة، وسيجد – أيضا – أن برنامج، تكونه الدائم كمثقف، يتعثر، ثم يتوقف تماما في النهاية.” أو كما يقول يوسف القويرى.
هكذا هذا الناقد الفاعل، كان الموسوس الذات، الذات التي تتوسط بأفعالها، بين ماض غير موجود، ومستقبل مأمول، وهي نفسها ليست حاضرة، بل إنها تقطن بغموض وتناقض، في الماضي غير الموجود في تقديره هو، فكان لهذا الناقد كائنا من الظل، يتطلع إلى الأمام لما قد يكون في المستقبل. وعندما تجعلنا وطأة الماضي هذه، نضطرب في علاقتنا بالحاضر، فإن ذلك يؤدي إلى الخطأ والإحباط، وننظر بقلق إلى الإمام، لنحل هذا الاضطراب، ولا يفضي بنا ذلك، إلا إلى أن نثقل أنفسنا بمزيد من الأثقال. وكانت هاتيك الأثقال: المعنى يكمن في النظرة، والكيان فكرة كما عند عبدا لله القويرى، ولعل هذا ما يبين أن مرجعيته الفكرية، مصدرها المثالية الألمانية.
> إن خليفة التليسي الناقد، قلب ورقة شاعر الوطن، حيث على المستوى النقدي التطبيقي، لم يلتفت إلى أي كتابة ليبية فيما بعد. كما فعل ذلك الصادق النيهوم، من لم يهتم بمسألة الإبداعية الليبية، من حيث الأساس، إذا ما استثنينا مقالته اليتيمة، عن الشاعر محمد الشلطامي، من نوه إليه باعتباره يؤشر لمسألة معنى الكيان. وكان هذا حال، الحالة النقدية في الاغلب.
ويعلل ذلك الناقد يوسف القويرى، الخارج عن السرب، بأن “ثقافتنا الوطنية، لا تزال قريبة من النبع، لا زالت تشق مجراها الطويل، وهي لم تصل بعد إلى المصب، لم تصبح تيارا واضح الاتجاه، ولا زالت أيضا، ضعيفة الارتباط بالمجتمع، إلى حد مؤلم”.
وهو يقر بذلك، ساعة أن كان، يعير المنتوج الثقافي الوطني جهده، باحثا ودارسا، وساعة كان يكتب مقالته، النص الإبداعي المسكون بحس تعليمي، والمهجوس بالإنتاج الإبدعي الليبي، يكتب “مفكرة رجل لم يولد بعد. وهو القريب من النبع، كما الثقافة الوطنية التي “لم تتأزم، لأن (التأزم) يعني أنها، قد قطعت مراحل طويلة، وأنها بحكم غناها وتنوعها، وتعدد تياراتها واصطدماتها الناجحة والفاشلة، بصخرة الواقع الاجتماعي، وتكدس مشاكلها النظرية والتطبيقية، قد بلغت مستوى الأزمة، وأصبحت تجابه متناقضات عميقة، داخلية وخارجية تتطلب الحل“.
هذا ما كتب، منذ أكثر من النصف قرن، لقد اعتبر الناقد، أن مسألة النقد، بحاجة إلى تكدس مشاكل نظرية وتطبيقية، وأن القرب من النبع، يفك المجتمع من المشكل، وبالتالي لا يقع في أزمة. لكن الصادق النيهوم – في نفس الفترة تقريبا – في التقدمة الوحيدة، التي كتبها لكتاب ليبي حد علمي، يقول: “.. وميزة التجربة، أنها تأتي هذه المرة، من مدينة صغيرة اسمها (بنغازي)، وإذا كان الألمان يقولون: (أنه ليس من حسن الطالع، أن يظل المرء شاعر القرية)، فأنا أعتقد أنه ليس من حسن الطالع، أن تظل القرية دائما مجرد قرية”. ورغم وضوح الفكرة عندهما، إلا أن وضوح الفكرة، لا يضمن بذاته، تطابق ما تقرره مع ما يقره الواقع.
إذ إن ضعف البنية الاجتماعية والثقافية، في حد ذاته، كان الأزمة من ناحية، بحيث إن النتاج الثقافي، الذي يتلمس طريقه، تعددت عقباته، مما يجعل ذلك يوسف القويرى ذاته يقول: “إن المجتمع المتخلف المغلق، يقذف طلائعه نحو المنفى النفسي.”، ومن ناحية أخرى، فإن هذه البنية الضعيفة، تجعل من شاعر القرية شاعرا، رغم أن ذلك ليس من حسن الطالع، كما يتصور النيهوم، الذي يردف تصوره هذا باعتقاد أن ليس من حسن الطالع، أن تظل القرية قرية.
فهل أنها لم تعد قرية، وأننا لم نعد قريبين من النبع، وبهكذا سؤال نبدو وكأننا مغتبطون، البعد عن النبع، يعنى أننا دخلنا في أزمة، هكذا يؤدى المنطق الأرسطي الصوري بالمسألة، إنما وقبل أن نختتم هذا الطرح الإشكالي، أريد أن نقرأ معا كيف دس يوسف القويرى، تصوره لهذا الإشكال، لقد استعان في مقالته “ساعات مع الكبار”، الذي قدمه بقول لحكيم مصري مفاده: “ليتني أجعلك تحب الكتب مثلما تحب أمك”….. ويتبع الكلام في الكلام.
بوابة الوسط | الثلاثاء 02 نوفمبر 2021