الحُمَّى المحمديّة، وحمَّى أغاني الريقي الجامايكية.
أو: كيف تتكلم عن العبودية والثورة على كثبٍ من الحور المقصورات في الخيام.
موسى إبراهيم
ريف دارتمور، مقاطعة ديڤون – إنجلترا.
صيف 1999 – دارجاً.
في صباحٍ صيفيٍّ رائقٍ من صيف سنة 1999م انطلقتُ مع خمسة من أصدقائي في رحلة بالدراجة من مدينة إكستر في الجنوب الغربي لإنجلترا إلى مدينة پليموث على ساحل المحيط الأطلسي، عبر ريف دارتمور الصخري الأخضر.
كنا جميعاً طلبة في جامعة إكستر، 4 فتيات وشابان من بلدان مختلفة. في الحقيقة لم نكن أصدقاء حميمين بل مجرد رفاق في جمعية الدراجات بالجامعة، حيث ينتظم محبو هذه الرياضة في رحلات قصيرة ومتوسطة وطويلة، تمتد أحياناً لأيام عبر سهول ومرتفعات الريف الإنجليزي الملهم.
رتبنا كي نبيت ليلة واحدة في ثلاث خيام، في فضاء مفتوح، على كثب من صخور “فُر تُر” Fur Tor ذات الإلهام الروحي لدى أتباع الديانة الوثنية الإنجليزية. المسافة الكاملة للرحلة حوالي 115 كيلومتراً على نهارين ثم العودة بالقطار.
كان الشاب جامايكاً اسمه “أومار” أي عمر، وهو من عائلة مسلمة الأصول اعتنقت الديانة الراستافارية الشرق-إفريقية منذ ستينيات القرن الماضي، واحتفظت بجانب من ثقافتها الإسلامية الغرب-إفريقية. وهو حينها طالب في دراسات التاريخ الثقافي لإفريقيا الفرانكفونية ذات الغالبية الصوفية المسلمة.
أما البنات فكن إنجليزيات غير واحدة فرنسية اسمها “جيرالدين” كنت أسميها دعابةً “جارة الدين” دون أن تفهم مزحتي أو تستلطفها. أذكر أنها قالت لي ونحن نغير عجلة دراجتها الخلفية: أنا علمانية يا موسى من بنات الجمهورية الخامسة، فلا “جيرة روحية” لي إلا مع أهل المدنية المواطنية الحرة.
لم يكن يخفى عليّ طبعاً أن ديانتي وعِرقي وجِندريّتي الذكورية سبّبوا لها حساسية خاصة تجاه نكتتي البريئة. تأكدتُ من هذا في الشهور اللاحقة حين تصاحبنا أنا وجيرالدين واعتملت بيننا المشاعر والرغبات والمعارك والفتوحات الشرقية والإمبريالية معاً، فـ “ظُنَّ خيراً، ولا تسألْ عنِ الخبرِ”، كما يقول الشاعر العباسي ابن المعتز.
كان هدف الرحلة الأساسي طبعاً متعة المغامرة، لا أكثر. كنا نتوقف كثيراً ونصور ونتحدث ونضحك ونمزح. واحدة من البنيات الإنجليزيات كان اسمها نيكول، ويناديها الرفاق تحبباً بـ “نيكو”، ولكم أن تتخيلوا مافعلته أنا بوقاحة الشباب بهذا الاسم اللطيف.
أذكر أننا وبعد هذه الرحلة بسنوات طويلة التقيت بنيكو صدفة في لندن فضربتني مداعبة بقبضتها القوية على كتفي قائلة: لماذا بحق الرب لم تخبرني ساعتها بمعنى اسمي في لغتك الصحراوية البائسة؟ الآن أفهم لماذا كنت تناديني بتلك “التعويجة” في فمك وتضحك. يا لك من راعي جمال هائج!
عرفت أنا حينها أن نيكو وقعت في غرام طالب سوداني وتزوجا، غير أنه أصر عليها أن تغير اسمها حتى لا يشكل لهما حرجاً أمام الناس. عندها تذكرتني البنت وتذكرت تعويجة فمي باسمها.
في آخر النهار الأول، وبعد حوالي 60 كيلومتراً على صهوات الدراجات، بدأنا نرتب حاجياتنا وأدوات التخييم. لاحظت أن صديقي الجامايكي عمر بدأ ينهل من قنينة ويسكي صغيرة في يده بينما هو يعمل بنشاط حول المخيم.
جلسنا جميعاً حول موقد النار الصغير الذي اتفقنا على جلبه لضرورة تحضير القهوة والشاهي الإنجليزي الشهير، وبعض البيض المقلي ولحم الخنزير الذين يحبه الإفرنجة ونعافه نحن المسلمون من حرمته.
كنت ساعتها في الرابعة والعشرين من عمري. أربعة وعشرون عاماً أخرى مرت ومازلت أذكر هذه اللحظات الحميمة بمحبة كاملة.
بعد العشاء رفعنا أصواتنا بالشعر والغناء الشعبي، البوب والروك أند رول وبعض من الريقي الجامايكي.
تحت أثر التعب اللذيذ، وربما الواين الأحمر الذي شربتْهُ البنات، والويسكي الاسكتلندي الذي كرعه عمر، سكتنا وصرنا نتأمل لهب الموقد.
كانت كباية الشاهي في يدي تقاوم برائحتها الزكية الدافئة بردة خفيفة مرت في هواء المكان.
لاحظت أن عمر كان يتصبب عرقاً وفي بدنه رعدة خفيفة وعيناه مفتوحتان على اتساعهما. بدا لي أنه أصيب بحمّى الويسكي أو حمى الغناء، وهما حمتان عرفتهما في شبابي الأول.
فجأة، انبثق صوت عمر في الفضاء الذي خيم عليه أول الظلام بنشيد “أغنية الفداء” لمغني الريقي وشاعر جامايكا بوب مارلي:
القراصنة العتيدون نهبوني أنا!
وباعوني أنا إلى سفن التجارْ،
دقائقَ قليلةً بعد أن
أخذوني من الهوة التي ليس لها قرارْ.
ولكنّ يدي خُلقت قويةً
بيد القادر الجبارْ
لذا نحن، في هذا الجيل،
إلى الأمام نمضي، بانتصارْ.
فهل لكَ أن تعينني على الغناءْ؟
على أن أصدح بأغاني الحرية؟
لأن كل ما أملكه، وما ملكته،
هو أغاني الفداءْ،
أغاني الفداءْ.
كانت هذه من أصفى وأرق الحالات الروحية في حياتي. نظرتُ إلى البنات: حالة من الخشوع والرهبة الوجدانية ظهرت جليةً عليهن جميعاً، مشوبةً ولا شك بأثر الخمرة اللطيف على حُمرة الوجوه.
صوت عمر الجميل، ورعشة الحمّى في أدائه، وإيقاع الأغنية الهادئ الشجي، ومعانيها المتوجعة بالظلم، شكلت جميعاً قوة النشيد الجامايكي في قلوبنا.
وفوق ذلك، كان عمر إفريقياً أسود يأخذك لون بَشرته حين الغناء إلى تاريخ الرق وحكايات الظلم وقصص البطولة والفداء.
بعدها، عند آخر الليل، والبنات في خيامهن استسلمن للنوم، تمشيت أنا وعمر في فضاء المكان نطلب أن نتعب وننعس.
سألته: ما حال الحمّى التي ناشتك يا صديقي، وحال الغناء الذي نقلتنا به من الروك أند رول الأمريكي إلى الريقي الجامايكي؟
قال: الليلة يا موسى، السادس من أغسطس، هي ليلة استقلال جامايكا سنة 1962 وصيرورتها بلداً حراً بعد قرون من العبودية والاستعمار الأوروبي. في شجرة عائلتي مئات العبيد وعشرات الضحايا من مقاتلي الحرية في ثورات جامايكا ضد الاحتلال الإسباني أولاً ثم البريطاني.
قال: في ليلة كهذه وأنا أتجول في سهول الريف الإنجليزي مسافراً نحو ميناء بليموث الذي كان رابطاً بحرياً هاماً في تجارة العبيد، أتوجع لبلدي ولتاريخه الدموي الذي مازال حياً في واقع الناس وقلوبهم. الحمى الخفيفة يا موسى كانت رجفة في الجسد لما مر في الروح من ألم.
قلت له: تعرف يا عمر؟ خطّرتَ على قلبي الحُمّى المحمدية التي غمرت من اختاره الله في الغار أن “يصدع بالأمر”، أي أن يصدح بنداء الحرية للإنسان، وكيف كانت آيات الكتاب تسابيحَ للفداء والانعتاق والكرامة.
قال عمر، وهو مدجّجٌ بدراسته الأكاديمية وأبحاثه التاريخية لإفريقيا والإسلام: كل هذا يا موسى صار عند المحمومية النبوية الأولى عند ركبة خديجة، قبل عهد التمكين بالحديد والفلوس والأتباع. أما حين دخل المسلمون في سياق القوة، ونسق الخلافة، وترتيب الأسواق والتجارة، ومنها تجارة العبيد، خسروا في دينهم جمالاً ورقة ورحمة واكتسبوا البأس والغِلظة والفتوحات.
قلت له: خلِّنا في عهد الحُمّى المحمدية وأختها الحُمّى الجامايكية-الثورية، وغنِّ لي شيئاً من روحهما وإرثهما الإنساني الواسع.
قضينا بعض الساعة نمشي في ظلمة الليل الحالكة نرفع أصواتنا ببعض أناشيد بوب مارلي وبوب ديلون وپيت سيجر ونينا سيمون، قبل أن نعود ناعسين وننضمّ للبنات “المقصورات في الخيام”، خيامهن هن لا خيام المسلمين الفاتحين ولا الراستافاريين المغنيين!
لا أعرف أين عمر الآن، وهل مازالت تنوشه الحُمّى كلما تذكر جامايكا وتاريخها المأساوي وروحها الثورية، وهل مازال يتوق، وهو الراستافاري، إلى الحمّى المحمدية التي انبثقت في الغار، ثم اطمأنت على ركبة خديجة في ركن بيتٍ هاشميٍّ صغير؟