المقالة

التاريخ… هو ما يسكت عنه التأريخ!

ثمة حكايات تنشأ على هامش التاريخ المدون، وصميم التاريخ هذه الحكايات التي يتم تناقلها شفويا، فهي تخرج من مدونة التاريخ لكونها تشوش على رؤيا وفكرة من يكتبون التاريخ بشكل انتقائي، وبسرد لا يخون عناوينه الكبيرة، فحين نكتب مثلا تاريخ المقاومة الليبية للغزو الإيطالي، فثمة هنا عنوان كبير، الغزو والمقاومة، وكل ما يخل بهذا العنوان الذي يتحول إلى شبه شعار، يصبح عبئا على مدونة أراد لها المؤلف مضمونا ومرسلا محددا، بمعنى أنه في هذه الحالة وتحت هذا العنوان، يصبح الغزو شرا مطلقا، والمقاومة خيرا مطلقا، أو ما يشبه مخيلة السرد التطهري التي اتسم بها أدب القرون الوسطى،  وعلى ضفاف هذا التدوين المحكم تسرد الحكايات المشاكسة لمهمة التاريخ التطهيرية. حكايات شفوية تُتناقل في الجلسات الخاصة، بينما في الواقع هي روح التاريخ، بما تضفيه من إنسانية، أو أنسنة لأحداثه . المدون دائما يخضع لعدة رقابات، ذاتية، أو جماعية، أو مؤسسية، بسبب الرغبة الملحة في كتابة تاريخٍ من المفترض أن يلهم بمضمونه الأخلاقي ـ حتى وإن كان مزيفاً ـ الأجيالَ القادمة، بينما الشفوي متحرر من كل هذه الرقابات باعتباره لا يشكل خطرا بدخوله حيز التدوين، ومن ثم الوثيقة، التي تعكر مزاج الوجدان الجمعي، وبالتالي صفوَ الحنين إلى الماضي، أو بالأحرى رواية المنتصر للتاريخ وفق رؤيته.

الرواية التاريخية (بمفهومها الأدبي) الناجحة هي المحاولة الأكثر أخلاقية لكتابة ما لم يكتبه التاريخ الرسمي، ولتسجيل تلك الحكايات الشفوية التي ازدراها المؤرخون أو لفظها التاريخ خارج أخلاقيته الوحيدة، وفقر المكتبة الليبية من مثل هذا الروايات هو ما جعل كتب التاريخ الرسمية تنفرد بمسؤوليتها التوثيقية والأخلاقية، ومن ثم بكونها مصدر الإلهام الوحيد، وهو مصدر لا يخلو من الأوهام يجعل ردات فعل الأجيال القارئة، مستقبلا، منطلقة من الوهم ذاته.

فمثلا يحكي تاريخ المقاومة الليبية للطليان، أن الطليان جميعهم كانوا غزاة يمثلون الشر ولا شيء غير الشر، بينما الليبيون كلهم هم الطرف الآخر المناقض بالمطلق، وهذا التقسيم المستحيل يسرب فكرة مغلوطة للأجيال القادمة بأن الغرب أو الآخر شر مطلق وأن الذات المقاومة خير مطلق، وبناء عليه تتشكل علاقتنا العدائية مع الآخر وفي الوقت نفسه النظرة الشوفينية المتطرفة للذات.

حدثني أبي كثيرا عن معتقل العقيلة الذي عاش فيه بداية سني صباه، وعن كثير من التفاصيل، لكن ما يعنيني في هذا السياق أنه كان يؤكد أن الكثيرين من المجندين الليبيين هم من كانوا أكثر قسوة على المعتقلين، وهذا طبيعي لأن المجند الغريب على القوة الغازية هو من يحاول إثبات ولائه بمزيد من القسوة تجاه من تعتبرهم السلطة وقتها عدوا. بينما في الجانب الآخر كان هناك جنود إيطاليون رحيمون بالسجناء، يُهربون لهم الأطعمة والأدوية، ويتجاوزون الكثير من الأوامر الموجهة لهم بالتفتيش الدقيق أو بالتعذيب، وكان أبي الذي خسر شقيقيه في معارك ضد الطليان يؤكد لي ـ خصوصا بعد أن رأى الشنق في الثمانينيات في رمضان والتمثيل بالمشنوقين ـ أن الطليان لم يحكموا على ليبي بأية عقوبة حتى يشهد عليه ليبيان بالجرم المرتكب. وهذا طبقا لقانون الغازي الذي يعتبر المقاومة جرما.

كان أبي عندما يرى بعض جرائم النظام السابق يقول: حتى الطليان لم يفعلوا ذلك، وجاء الوقت وأنا أرى جرائم قادة ما بعد فبراير فأقول لأولادي: حتى القذافي لم يفعل هذا. سبق وأن كتبت هذه العبارة لكن تكرارها مهم. كل ذلك يحيلني إلى ما يحدث الآن من تقسيم للبشر الليبيين إلى فئة شر مطلق وفئة خير مطلق، عبر ثنائية الثوار والأزلام. وحقيقة لا يمكن أن يتم تقسيم الناس بهذا الشكل وإلا لكان الوضع البشري كارثة. الشر والخير في كل فرد، والنزوع الذي تستفزه الظروف المحيطة هو الذي سيبرز في النفس البشرية.

يقف وراء هذه الذهنية المريضة في التصنيف مدونة تاريخية، تلوناها عبر مراحل الدراسة، أو سُريت لنا عبر وسائل الإعلام المختلف، أو عبر الدراما والسينما العالمية (فلم عمر المختار نموذج)، فما يبدو حقيقة في الماضي سيكون حقيقة في الراهن ويستمر حقيقة في المستقبل، والنتيجة أن كل هذه الأزمنة محقونة بوهم كبير وراءه مزاج انتقائي في كتابة ما حدث، لأن فكرة الموعظة التاريخية تهيمن على فكرة الحقيقة، ومن يبني ردود أفعاله على أوهام أو أغاليط كمن يحاول أن يقفز من جرف عال بجناحين من الكرتون ليُحلق في الهواء، والنتيجة هي السقوط المريع، لأنه بنى فكرته المستقبلية على معلومات خاطئة حول مفهوم الجاذبية. هذا المثال لم يسعفني، غير أن الأمر يبدو كمن يحاول السير في أرض مجهولة بخارطة مقلوبة، الشمال فيها جنوب والشرق غرب. وإذا ما اعتبرنا الماضي كما سجله التاريخ الانتقائي هو خارطة  اكتشاف أرض المستقبل، فإنه في هذه الحالة لا مناص من التيه والضياع.

______________

نشر بموقع ليبيا المستقبل

مقالات ذات علاقة

من ذاكرة سبها المدينة

رمضان كرنفودة

المرأة الليبية وسؤال الغياب

أم العز الفارسي

دِلاَلاَتُ التَّلَقِّي: بَيْنَ الْكَاتِبِ وَالْجُمْهُورِ

خالد السحاتي

اترك تعليق