أعتقد واجزم ان الكثيرين من الأجيال الليبية الشابة، لا يعرفون شيئا عن منطقة “الدوادة” بالجنوب الليبي. هذا الاسم، الدوّادة، جاء من اشتهار سكان المنطقة بأكل نوع من اليرقات السمكية، ما نطلق عليه عادة اسم “زريعة الحوت”، التي تعيش وتتوالد في بحيراتهم الواقعة في واحاتهم البعيدة، ومن اهمها “قبر عون”، و“المندرة“…
يتم صيد هذه اليرقات السمكية، او جمعها، بواسطة قطع من القماش تلقى في البحيرة، فتتجمع حولها اليرقات وتلتصق بها، فيتم اخراجها وطهيها. بما أن شكلها أقرب إلى الدود، فقد أطلق على آكليها اسم الدوادة.
في عام 1969م اوفدتني جريدة الحرية لكتابة عدد من التحقيقات عن الجنوب الليبي، وأدين بالفضل لهيئة الاثار التي اتاحت لي الفرصة، ووفرت لي الترتيبات، لزيارة منطقة الدوادة، في رحلة مثيرة استخدم فيها النقل بسيارات رباعية الدفع، لأول مرة يقودها خبراء، بصحبة ادلاء من العارفين بالمنطقة. كان برفقتنا من رجال الاثار الأصدقاء الاستاذ أبو بكر الكيلاني رحمه الله والدكتور علي عبدالسلام عبدالوهاب اطال الله لنا في عمره.
الرحلة كانت شاقة ومثيرة، عبر سلسلة من الجبال الرملية، وجاءت حاملة لكثير مَنْ المفاجآت التي تعرضنا لبعضها. عند الوصول سيبهرك، المكان المتميز بجماله وطيبة وحكمة وبساطة اهله. كان عدد السكان فيه، وقتها، لا يتجاوز المائتي نسمة، معظمهم من كبار السن والأطفال. اما الشباب، فقد سافروا للعمل، وفى الغالب من كان يغادر منهم لا يعود. الدولة الليبية لا وجود لها، كانت غائبة تماما. ولم يكن يتردد على المكان سوى مجموعات من السائحين الفرنسيين، كانوا يتسللون عبر حدودنا الجنوبية. يبدو ان الكثير منهم قد عشق المكان، حتى تطور الآمر فصار تنظيم رحلات علاجية للأمراض الجلدية، باستخدام مياه البحيرات الكبريتية الساخنة.
> المحوالة مدبالة !!
في الليلة الأخيرة من الرحلة، تجمعنا في جلسة على مرتفع رملي يطل على مكان، ما نطلق عليه اسم “جوز رملة”. كان الجو ربيعيا، والسماء صافية متلألئة بالنجوم، والقمر بدرا ينعكس نوره بهاء على سطح البحيرة، ونسمة مسائية باردة تلفح الوجوه. كان الحديث من جانبنا في شكل اسئلة ساذجة، وكانت الاجابات وقتها صادمة. اكتشفنا حكمتها فيما بعد. سألنا وبدهشة، ما الذي يربطكم بهذا الخلاء القفر المعزول والبعيد، وأنتم متأكدون أن من يخرج منه لا يعود؟ مسح الشيخ على جبهته واجاب مبتسما: إنه الوطن. نحن، كيف النخلة تنقلها من مكانها تموت، لذلك قال جدودنا: (المحوالة مذبالة ولو كان عروقها في الماء).
> استَلِم قبل التَسليم
تزامن وجودنا في الدوادة، التحضير لانتخابات مجلس النواب، وكانت فرصة كي نعرف ماذا يعني الموضوع بالنسبة لهم. استخدمنا جملا عن الديمقراطية، وشروط المرشح، والوعي الانتخابي الخ… فكانوا كرماء منصتين، واستمعوا إلينا طويلا، وعلى وجوههم ارتسمت ابتسامة طيبة. عندما انتهينا من الطرح الساذج العبيط كانت الاجابة: نحن في الدوادة لا نرى الأمور كمًا ترونها، نحن ولدنا وكبرنا وهرمنا كل ما نعرفه ان من يحكمنا مدير مقره اوباري، تداول علينا التركي والطلياني والفرنساوي وأخيرًا الليبي. لم نرهم ولم يتفضل أحد منهم بزيارتنا، لا يهمنا من يكون. نعرف ايضا من نحن، فقراء منسيون معزولون وراء جبال من الرمل لا يطرق بابنا أحدً، وكل ما نعرفه عن الانتخابات، مرتبط بتوزيع الشاي والسكر على بيوتنا، تنفيذا لاتفاق تحوّل الى عرف عام، وفى كل دورة انتخابية يتم تسليم واستلام الشاهي والسكر مقابل الاصوات، وكان الله ويبقي الله.
ايها السادة، ما رأيكم في فكرة اهلنا في الدوادة ،استلم وسلم، دعونا نتامل تجربتنا التعيسة مع المؤتمر الوطني، وسئ الذكر مجلس النواب. وحالة الانحدار التى اوصلونا اليها. فى زمن الفقر كانت الانتخابات فرصة للتمتع بقصاعى الرز واللحم، وتهدريزة سمحة مع طاسة شاهى مربربة، ويقوم المرشح العضو المحترم بصب الماء على يدي ضيوفه، الأن انهم لا يعرفوننا إلا وقت حاجتهم، توقيعاتنا ليحصلوا على الترشيح، واصواتنا للجلوس علي الكراسي، وبعد ذلك ينفض العرس.خذ حقك قبل ان تعطى توقيعك وصوتك.
*الصورة: طفولة هرمة، من منشورات جريدة الحرية ربيع 1969 ضمن تحقيقات عن الجنوب المنسي.