نستأنف مابداناه بالمنهجية المرَّكبة من طرائق السيكولوجيا و”الظاهراتيات” بمسمى “بسكولوجيا الشعرية” في الكتابة عن النصوص المشتتة في موقع “قناة الـ 218” التي كوّنت كتاب “أشتاتُ الذات.. سردياتُ العمر”، وأشتات مفردها شَتاتَ أضافها إلى سردياتة الكاتب القّاص عمر أبوالقاسم الككلي. وأعني مقالات أربعة نشرتُها في صحيفة الوسط وهذه عناوين الثلاثة الأساسية منها: “تغليط الأبوية” 01 أبريل 2018 و”مدرسة الحرية” 29 أبريل 2018, و “رخو القوقعة” 06 مايو 2018 تؤكد رؤيتي بأن الـ “شَتاتَ” المكوّنة لأشتات الذات انكتبت مختلفة في لا سيريتها ذات المضمون الإشكالي والشكل المرافعاتي السلبي إزاء سلطة “الإبيسيّة”. ففي شتات (خشونة الروح) يبتديء السارد بـ: “أنا تحكم في مصيري ولادتي لأسرة فقيرة تجاهد أن تحيا حياة الستر، الأمر الذي أعاق طموحاتي وحد من تحقيق رغباتي، وإضافة إلى ذلك هي أسرة شديدة التزمت، ليس التزمت الناشيء عن تصور ديني، ولكن ذلك التزمت المتولد عن مفهوم العيب. ذلك التزمت الذي تكون فيه الإشارة إلى استحمام المرأة المتزوجة عيبا!“
قبل أن ندخل إلى “الإشكالية الأوديبية Oedipean problematical” في المكتوب “النرجسي” كخطاب في “أشتات الذات” كونها شعريةً مغايرة، تتمثل فيها ظاهرية “العائلة الأبيسية patriarchal family” نمر بالإشكالية النرجسية التي تحف بإخبار السارد عن ذاته المشتتة في لاـ سيرة، وما يهمنا فيها البروز النرجسي في ارتباطه بالنزوع الأُوديبي الذي تمانعه “الأبيسية” المُعممة عائلياً حسب المتغير في العلاقة التراتبية: ابن>أب، أخ أكبر. أم .
تكون إعادة بناء الحكاية ـ المؤولة من السارد الناضج لسلوكه الطفولي ـ بتحديد الدافع الفعلي في شتّات “الحسد والإبداع”: “ما كان يحركني في العمق، هو الحسد الذي اعتراني إزاء أخي بسبب امتلاكه معرفة وقدرة لا أحوزهما، وأنه بسببهما يحظى بمكانة خاصة لا أحظى بها في الأسرة. لم أكن واعيا بمشاعر الحسد آنذاك. كنت مهجوسا فقط بأنني ربما أمتلك موهبة الكتابة، والشوق إلى امتلاك هذه الخاصية السحرية. خاصية القدرة على الكتابة، ومن ثم القدرة على القراءة”. وحسد المقدرة على الكتابة التي تُقرأ يمكننا أن نقابله عند فرويد من الجانب الذكوري بـ “قلق الإخصاء” رد الفعل الموازي لإدراك الصبي أن الفتاة ليس لديها قضيب. وعلاقة هذا الأمر بالنرجسية توحي به جملة يوردها في كتابه “النرجسية” د. بيلا بيرغر وينسبها لجاك ريغو: “أجمل صبيّة في العالم لايمكنها أن تمنحني إلا ما لدّي”.
نقتطف مقطعاً ثانياً ينقشع فيه الوهم: “ذات مرة أريته [الأخ الذي الذي يقدر أن يكتب مايُقرأ] كتابتي بحضور أمي. فلم يهتم. قالت له أمي: شوف شن كتب خوك!. بالك كتب حاجة!./فرد عليها: شن نشوف؟!. هذا تخربيش وخلاص!“. عندها انقشع وهمي بأنني فعلا أكتب شيئا لا أعرف ما هو يقرأه متعلمون “.
تنقسم منهجية “شنتوب وشابير” Method Shentoub and Chabert إلى خطاطتين: “إحياء الإشكالية الأوديبية: عبر البلوغ كاكتمال يجعل التحقيق الجنسي ممكنا، وعدم النضج الوظيفي للطفل لم يعد يمثل دوره في الحماية التي يمثلها حضور الأم ودعمها المتشكك في قدرة الطفل المعرفية وهو ماشكّل جُرحاً نرجسياً من جهة أولى، وخذلاناُ أوديبياً من جهة ثانية. ومن سياق الشتات لايمكننا إغفال الاعتراضة النرجسية المتعلّقة بالملابس في الفقرة المقتطعة من “الحسد والإبداع”: “بما في ذلك أن ملابسه [الأخ المتعلم] أفضل من ملابسي”، وهذه الأفضلية الثانية المحرّكة لشعور الحسد تجاه الأخ الذي يعرف يكتب ويقرأ مايكتبه، فالنرجسي، حسب بيرغر، يهتم كثيرا بمظهره وأناقته ويدقق كثيرا في اختيار ملابسه ويعنيه كيف يبدو في عيون الآخرين وكيف يثير إعجابهم، ويستفزه التجاهلُ من قبلهِم جداً، ويحنقه انتقادهم له ولا يريد أن يسمع منهم إلا المديح وكلمات الإعجاب.
في “دخول غير شرعي!” نترك السارد يتكلم عن تحايل نرجسيته لانتحال الأناقة: “كنت آنئذ في المرحلة الإعدادية، فصرت أذهب بهذه الكنزة ذات الرقبة العادية المنتحلة، بتواطؤ من شقيقة لها، شخصيةً كنزة ذات رقبة مستديرة، إلى المدرسة. ذات مرة (..) إذا بزميل يقترب مني ويمد يده، في حركة مفاجئة، فاتحا رقبة الكنزة الخارجية قليلا قائلا:– لابسها بالمقلوب!. امتلأت أعماقي بإحراج شديد، رغم أنه لم يفضحني ويشهر بي، وخرجت، فورا، عائدا إلى البيت، كي أتخلى عن تلك الحيلة العبقرية المتمثلة في دخول عالم “الموضة” بطريقة غير شرعية.
كتب رومان ياكوبسن في “قضايا الشعرية”: “إن الشعر ـ الشعريّة بالمفهوم البنيوي ـ قليلاً ما كشف بطريقة بسيطة وعنيفة المأساة الغرامية لابن وأُم” وياكوبسن هنا يُصدرُ حكمه على مرجعيات السيرة في شعريات الغرب فيما عُرف بتراجيديا الأوديبية بدءاً بأوديب الملك لسوفكليس ومروراً بالسير الذاتية التي يغيب فيها الأب وتحضر بل تهيمن فيها الأم، لشعراء وكُتاب كـ بودلير وفلوبير وانتهاءً بسيرته الذاتية التي عنونها جان بول سارتر بـ “الكلمات”. في كلمات الككلي المكتوبة كـ “أشتات الذات” لا نقرأ سيرة بل شذرات تتغير فيها العلاقة من: “بين ابن وأم” إلى بين “ابنٍ وأبْ“. تدعم إبيسيته “الأمْ” حسب مُتغير ظرفها ومصلحتها، ومن “أوديبية” إلى “إبيسيّة” ومن غرامية “حُبيّة” إلى “شعورية” يهيمن على عاطفتها: “مناخ القسوة وتسودها الفظاظة وتحف بها مظاهر الخشونة وشظف المعاملة “.
لتعميق البحث في الإشكالية الأُوديبية نواصل الاستعانة لتفسير “بسكولوجيا الشعرية” في “أشتات الذات” باختبار تفهم الموضوع: بمنهجية “شنتوب وشابير Method Shentoub and Chabert” حسب ” تحليل: Thematic Apperception Test T. A. T ” الذي يحدد المسألة الأوديبية التي تقررها المنهجية بخُطاطتيها بانتقاء 4 عناصر 1 ـ التخلي عن موضوع الحب الأوديبي .2 ـ وإثارته كإشكالية أوديبية. 3 ـ والتقمصات الأوديبية، التي يجند لها النرجسي كمية قوية من الطاقة النزوية. لغرض تجسير فجوة العبور من الطفولة إلى عالم الراشدين، حيث يكون الشخص هشّاً ومعرّضاً لكثير من الضغوط النفسية والاجتماعية التي تخضعه بـ “بالأبسيّة” فتملي عليه حسن التصرّف. الذي ـ كما بيّن في “النرجسية” د.بيلا بيرغر ـ يعاكسه ميل النرجسيين الغالب نحو إعطاء قيمة عالية لأفعالهم وأفضالهم والبحث عن المثالية في آبائهم أو بدائل آبائهم من حيث المركز والعطاء. أما الخطاطة المقابلة المعنونة بـ: إحياء سيرورة التفرّد في العلاقة الأُوديبية، وهي نوعٌ من الاضطرابات التي تمس هوية النرجسي وتترجم في T. A. T عن طريق أربعة مواقف ننتقي منها بما يتيحه لنا الحيز المتاح للمقال: ـ الإدراكات الخاطئة التي تدل على رداءة نوعية العلاقة مع الواقع. يتكلم السارد بضمير الطفل الذي كانه في شتّات “خشونة الروح” مجيباُ عن سؤال أبيه: “ـ امك شِنِ ادِّير؟. ـ تستغل أمي أحيانا خلو البيت في العشية إلا مني ومن أختي الصغيرة فتلتفت إلى جسدها وتقوم بالاستحمام [ لا صنابير ولا تجهيزات خاصة] ـ : ـ تغسل في لحمها. فيسارع هاشا إياي و يصفعني على وجهي متلفتا نحو أخي محاولا إخفاء ابتسامة لا إرادية. فيملأني في كل مرة استغراب حول لماذا أضرب رغم أني أقول الحق!”.