سبعة أعوام ابتعدت عن مدينتي وعن البحر.. لم يكن في مكان إقامتي الجديدة بحر.. لا وجود للأزرق، صحيح أنّ شرفتي الآن تطلّ على غابة خضراء من أشجار الكستناء الكثيفة؛ لكنّني أفتقد البحر، أفتقده جدًّا فقد كنت كل يوم أصعد إلى سطح بيتي؛ لأراه وأستنشق عطره الممزوج بذكريات الطفولة الجميلة.
قالوا لي: عليك بالنهر علّه يعوضك عنه، فذهبت إلى هناك في يوم ربيعي جميل؛ طبيعة ساحرة، طيور في السّماء، بجع، أسماك صغيرة تقفز هنا وهناك. كان رائعًا.. هادئًا وساكنًا وملهمًا، تنعكس الأشجار التي بين ضفّتيه على سطحه، لا تستطيع تجاهله، تتعلّق عيناك بسريان مائه الجارف وهو يبتعد مع التيّار وكأنه هارب من عزلته، لا أدري كم مضى من الوقت وأنا مأخوذة به، أحدّق في الأفق منتشيةً بكل هذه الرّوعة؟ ولم أنتبه إلّا والشمس قد شرعت تغادر، وتلوّنت السّماء بلون برتقالي غامق حثّني أنا أيضًا على المغادرة.
ابتعدت ومازالت عيناي تراقب تلك البواخر التي تقطع النهر في ذلك الغروب بين شماله وجنوبه، واحدة يقودها تياره وأخرى تعانده، ولا أدري لماذا ذكّرني النهر بسواقي مدينتي رغم الاختلاف الكبير؟ ربّما في نقائها وعذوبه مياهها وواديها الذي شطرها نصفين، يعبرها مخصّبًا ترابها عشقًا ملبّيًا نداء الأزرق.
كنت أعرف أن كلّ الأنهار والوديان تبتعد عن مصبّها، تستعجل اللحظات.. تتوق إلى حضن البحر، وقد يكون الطريق إليه طويلًا وقد يقصر؛ لكن كلّها تسعى إليه.. تتفرّع فيه وتغوص في أعماقه، حتى وإن اختلف المذاق واللّون.