لقد حكى لي البحر حكايات كثيرة .. حكى لي عن جرافات وبوابير وقاذورات طافحة تجلب الموت لبنغازي .. سألته ولماذا تتركها تصل إلى الشاطئ ، أليس أنت بحر قوي هائج ، قال لي : لله مجراها ومرساها .. أنا مثلكم .. بي صالحين وأشرار .. كل من يعتليني قاصدا بنغازي .. أتركه يطفح .. أتركه يصل .. سيزعل الرجال والشباب لو قمت بعملهم .. الطيار الأحول يراقب صفحتي .. أنا لا أغشه .. يميز زرقتي من زرقة الطلاء .. إنه ليس أحول .. لكنه يقفل عينه من أجل التمقصيد ( التصويب) .. هل أنت تشرب الخمر أيها البحر .. قال لا .. الأسماك ممكن .. أنا يقظ دائما .. وعندما أفكر في الانتشاء أتأمل منارة سيدي خريبيش .. بجانبها قبور أولياء صالحين .. تضيء وتطفئ .. حتى إن نفد الغاز أو الوقود .. أتحدث مع نجوم السماء فتمنحها نجمة بريق ونجمة أخرى مظلمة تستعيده .. فترى الومض والانطفاء .. ها وماذا عنا نحن هل تعرفنا .. نعم .. أعرف بنغازي منذ القدم .. ذات مرة جاء إمبراطور إغريقي ليحكم بنغازي ، فقطعت بنغازي رأسه ورمته في البحر ، أعرف معركة جليانة ضد الطليان ، أعرف مصيف جليانة وبابا سليم وكل شباب بنغازي ، خاصة الرياضيين ، أهلي هلال نجمة نصر تحدي ، كلهم يتنافسون ثم يسبحون ويسهرون ويعملون أكلات لذيذة ، خاصة الحرايمي الحار ، كنت أنتظر أن يغسلوا الصواني في موجتي حتى أتذوق نكهة الطعام البنغازي اللذيذ التي شميتها وهو على النار .. شط جليانة بس ، لا …لا .. حتى الشابي رائع والمنقار وحتى عين زيانة أتسلل إليها وارتشف من جوها الجميل ، واستمع للأغاني المرسكاوية من حميده درنة :
” اريد نرسلك تمشيش يا شوشانة .. اتجيبي خبر ريدي ووين مكانه “..
” نرسلك تمشيله .. بوعين سودا لابس التكليلة ..
من فرقتا جردي غلبني شيله .. في وسط قلبي شايطا نيرانه ” …
أه أه يكفي يا بحر لقد أطربتني .. قال البحر .. لست دائما فرحا .. أحيانا أشعر بحزن شديد .. مددت له كأس قرابة .. طاسة شاي صغيرة .. سكبتها على موجة مست قدمي .. كانت هي فمه .. لقد رأيت زبدها الأبيض .. قال زدني .. سكبت له كل زجاجة الكفرة .. صديقي قيس صرخ .. ماذا فعلت .. هل جننت .. طاح اسعدي وأنا انقص عليها مالصبح .. قلت له لا .. البحر سيغني .. وجهه الآن كوجه المطرب عبدالجليل الهتش عندما تخنقه العبرة خاصة إن دخل هدف نصراوي في الأهلي أو تذكر قصص حبه القديمة .. دع البحر يشرب .. دعه يأخذ جوه وسنشرب من دموعه ومن هدير موجه وهو يغني حزنا :
بابور باله راح في تياره .. جانا الخبر يا مشينك خباره ..
ذلك اليوم يا صديقي حزنت جدا .. لقد تركت البحر هاوية فارغة ونزلت إلى شوارع بنغازي ، أعزي الناس في ضحايا المركب ، لم أعد إلي عمقي إلا عند الفجر .. قالت لي ومضة المنارة .. سعيك مشكور وذنبك مغفور وعزانا واحد ملح ونور .. وكان طائر أبيض آنذاك يخرج من نافذة صغيرة في قبة ولي صالح خلف المنارة .. لم يكن نورسا .. أعرف النوارس وزعيقها .. كان ملاكا نقيا ..صحبني وأنا أعزي بنغازي . واواسيها وابكيها .. اه .. بنغازي