لعلاقة المقهى والمسرح بطرابلس حكاية قديمة وحميمة وخاصة …. حكاية حفظتها ورددتها ذاكرة كل المعنيين بها , فمن منّا لايذكر مقهى مسرح الجيل الصاعد ، ومن منّأ نسى مقهى المسرح الحر..
أما مقهى ساحة الحرية بمسرح الكشاف فحكاية عشق أزلية ( ربما ولأسباب سنتجاوزها الان لن ندخل في تفاصيل اغلاق هذا المنبر الثقافي والذي اعطى الكثير للحراك المسرحي والثقاقي بليبيا واغلاق كل ملحقاته ) لكن المستحيل هو أن تلغي من ذاكرة نخبة الليبيين من فنانين ومثقفين وصحفيين كل ما عايشوه بذاك المكان مسرحهم منذ القديم (مسرح الكشاف ) و ملحقاته ومنها ذاك المقهى .
بذاك المقهى كم اجتمعت من وجوه مسرحيين كتّاب ومخرجين وممثلين وموسيقيين ملحنين ومطربين ..اذا كان المسرح أب لكل الشعوب فمن البديهي اذا ان يكون أب لكل الفنون ، لذا فمن غير الممثلين والمخرجين وفنيي العروض المسرحية فكل من له علاقة بالكتابة كان له مكان بالمقهى ، كل من له علاقة بالصورة بالرسم بالنحت بالتشكيل ، كنت تجده جالسا على أحد مقاعد المقهى ، كل من له علاقة بالنغم بالموسيقا بالعزف نجده هناك ايضا ..باختصار كان المقهى بالكشاف وملحقه الخارجي والذي يليه مباشرة حيث محطة السيارات والارصفة والشجيرات التي تحيط بالمكان والتي ثناترث من حولها كل مرافق العمل المسرحي بما فيها المبنى الكبير والذي يضم الركح وقد تعارف الكل على تسمية كل تلك الفسحة الكبيرة بــ (ساحة الحرية ) لا أحد سيجيبك عن مبتدأ تلك التسمية ولا أسبابها لكن الكل سيقول لك ان هذا البراح الكبير هو عنوان لملتقى كل المثقفين والفنانين بطرابلس.
كم من افكار لعروض عظيمة ابتكرت هاهنا ، وعلى موائد المقهى كم كتبت من نصوص، وكم ادوار ابتكرت او طورت شخصياتها في تجمع صغير لفنانين حول فناجين القهوة، وكم من موسيقا عروض وكم تصاميم ديكورات وكم وكم كل هذا كان يحاك وينسج بذاك المكان حيث كان جمع الفنانين .. باختصار اكثر.. هنا صنعت الذاكرة الفنية بطرابلس ولكل ليبيا طوال العقود الخمس الاخيرة .
ما دفعنا لاستدرج هذه الذاكرة هو أننا كنا نتمشى باتجاه شارع عمر المختار على اقدامنا بعد أن ركنا السيارة بشارع الصريم كان ذلك اليوم من شهر مارس ( بعقّله ) فقد كانت امسية دافئة وكنا صحفيين انا وزميلي المتابع الصحفي ( خالد الادريسي) ..كنا على اعتاب الخمسين ، صحفيان يستجلبان الذكريات ويتبادلان الحكايات وايام الصبا تجاوزنا مركز المدينة سابقا ، ثم وبدون سابق تخطيط أخذنا الحنين للجانب الأخر من الطريق ، فقد تعمدنا أن نمر بمحاذاة اطلال مسرح الكشاف وبخطوات صامتة و بطيئة أخدنا نتأمله من الخارج ، وعبر فتحات اعمدة سوره الحديدية المتباعدة ولجنا بانظارنا الى الداخل .. كان الغروب على اشده حين كنا نمر من هناك ، لونه الرمادي القاتم بالكاد اظهر لنا المكان .. فاحسسنا انه اضيق مما تعودنا عليه سابقا لكننا سرعان ما ادركنا ان الضيق كان بصدورنا نحن ، فرغم شاسعتها التي نعلمها ، هذا ما بانت لنا عليه بتلك اللحظات ساحة الحرية بمسرح الكشاف.
..و في افق المكان حيث الظلمة املت أول احكامها على ذاك المساء ، لاح لنا من بعيد المقهى المعتم ، كان لوحده كالرجل الفاقد لكل اولاده، فقد غابت انواره وتلك الوجوه الباسمة والتي تضج بالحياة والتي عملها ومصدر رزقها ان تدخل البهجة في قلوب الناس ، أو تزيد من معين وعيهم وادراكهم ومعرفتهم بما كانوا يقدمونه من مختلف العروض ( كوميديا ترجيديا مسرح تجريبي دراما او مسرح غنائي )
كانوا هناك ، يتداولون الحديث حول هذه الاعمال او يتجادلون حولها وعنها ، كانوا هناك يصطفون على موائد المقهى .. يضعون الافكار على الأفكار ويقترحون كادر الشغل وخارطة العمل ومن حولهم تتناثر اكواب القهوة العربية وفناجين الشاي ، اجل كان الامر كذلك بل ومفعما اكثر بالحياة ..ففي تلك الايام كل يوم كان يمر على المسرح ورواد مقهاه له شآن اخر .. دارت كل هذه الصور والذكريات بخلدنا ونحن نستمر في اجتياز السور ونتأمل داخل المكان
استمر مرورنا الصامت وكنا تجاوزنا الباب الرئيسي للمسرح .. لفتتنا الاخيرة كانت لورشة اعمال الديكور والاكسسوار وقد كانت مقفلة .. ومن بعيد وحده كان المبنى الذي يضم ركح الكشاف يظهر شبه جليا ، فمنابر الفكر لا يخشاها الظلام ،كان مبنى المسرح يقف شامخا كالهرم .. لكنه كان صامتا تماما كصمتنا ونحن نصل لتقاطع عمر المختار مع شارع المسرح والمطبعة والذي لتونا اجتزناه ، وكنا متأكدين وبدون سبق تفاهم بيننا بأن مرورنا به كان عرضا صامتا تشاركنا فيه كل ذاك الحنين والذكريات لأيام كان فيها المكان يضج بالمعرفة بالحيوية و بالحياة
عند الشارة الضوئية اتجهنا يساراَ.. كان مبنى الخطوط هو الآخر ليسارنا ..و ايضا هذه المرة قررنا ان نترك الامر لخيارات خطواتنا فقطعنا الطريق باتجاه سور المعرض ، وتحديدا للشارع الذي يصل عمر المختار بميدان بورقيبة وفي اول هذا المفترق , وجدنا انفسنا تحت اضواء ثلاثة مقاه أو كأن الأمر بدأ لنا كذلك فاخترنا اولها كان على يسار الشارع لنجلس اليه لبعض الراحة ولاسترداد أنفاسنا ، فقد انهكنا المسير وايضا لـ(نغير الجو ) فنطرد الكآبة التي لازمتنا ونعود لعالم الواقع وتنقبله كما هو .
وحين ولجنا المقهى وقبل الدخول لبابه ، وعلى أول كراسيه الخارجية ، وبجوار الباب لاح لنا وجه مبتسم ، وجه لانعرفه نحن فقط لكن ليبيا كلها تعرفه ، لعظيم ما قدمه لاجلها، كان صاحب هذا الوجه البشوش هذا الجالس والذي وقف تواضعا لاستقبالنا هو المؤلف الموسيقى والملحن الكبير الفنان (البدري كلباش ) غمرتنا السعادة وانزاح عن قلوبنا (كل الكدر الغمة ) على رأي نوبة المالوف وما ان عاد البدري لجلسته وباغته بسؤاله مالذي اتي بك هاهنا يا استاذنا ؟؟
لم يطل الكلام كما عادته قديما بل اكتفى باستدارة رأسه وكأنه يوميء الينا مجيبا بقوله أينما تجد الفنانين تجد ( البدري كلباش ).. واختتم بقوله كلما اشتقت لزملائي اجدني ازور المكان .
سرعان ما ادركنا مغزى اجابة البدري فلم نذهب بعيدا فلجوار البدري كان المطرب صاحب الصوت الطرابلسي الاصيل (مراد اسكندر ) والذي بابتسامته العريضة ومحياه البشوش دفع بفضولنا اكثر لاكتشاف المكان فالتقتنا بحثا فيه، احسسنا وكأن حوارنا الصامت واسئلتنا ونحن نمر من امام سور( مسرح الكشاف ) في هذا المقهى تحديدا سوف نجد لها الجواب أو على الاقل نشفى وجداننا وحنيننا الى تلك الخوالي الخالدات ..
التفتنا يمينا فاذا بالاعلامي القدير (عطية باني )على مائدته يجاوره الصحفي والمؤلف المسرحي ( فوزي المصباحي) حين وقفنا عليهما لتحيتهما وجدنا ان الجالس الثالث والذي لم يساعدنا اتجاه قدومنا على رؤيته كان زميلنا الصحفي (عصام شعيب ) والذي هو الاخر اخذنا بالأحضان مرحبا بنا (كم هي قاسية هذه السنون التي باعدت بيننا نحن عشاق المحبرة ممتهني صناعة الورق جرائد فنون نصوص شعر سيناريوهات كتب الخ الخ ) وانا افكر بهذه الجملة وتبعات المّها كانت يد تربت على كتفي ، وتسحبني لداخل المقهى انا وخالد كانت تلك اليد للزميل نائب رئيس هيئة دعم وتشجيع الصحافة حاليا والمهتم مهنيا بالصحافة الفنية الزميل( نوري عبعوب ) قبلنا عزومة نوري ، وجلسنا لجواره على طاولته بداخل المقهى ، لنسأل عن سر تواجد كل هذا الجمع من الفنانين بهذا المكان وكيف وجدنا نحن انفسنا وبالصدفة في ناد يخصنا ومجمع صغير لنا ويجمعنا بالكثير من الزملاء و باقي عائلتنا الفنية والصحفية و الذين كم باعدت بيننا هذه السنوات هذه العجاف .. حينها اختصر علينا (نوري عبعوب ) الاجابة بعد ان خطف سؤالنا انا وزميلي من افواهنا بقوله انتما الان بالمقهى الجديد للفنانين وحين لمع الفرح بعيني اضاف ..اطمئن ياصديقي فمستقبلا لن نضل لبعضنا الطريق .
في انتظار القهوة سرقتنا من تواصل حديثنا التفاصيل الصغيرة للمكان كانت صور اولئك الرواد الذين تذاكرناهم بصمتنا ونحن نجتاز الطريق تعج بهم جدران المقهى..كانت كلها بالابيض والاسود كنا وكأننا نجلس بقلب (الفلاش باك ) …سعاد الحداد .. عمي محمد شرف الدين .. مختار الاسود ..احمد الحريري وجمال ايضا كاظم نديم .. عمي محمد حقيق .. الشيخ قنيص .. علي صدقي عبد القادر .. هاشم الهوني ..حسن عريبي ..عياد الزليطني .. خدوجة صبري .. فتحي كحلول ..محمد الخمسي .. .. محمد حسن ..محمد السيليني .. وووو
فسيسفاء من كتاب وفنانين وشعراء وموسيقيين ومطربين كانت على تلك الجدران و لم تتوقف تلك الصور ع المرور كحقيقة امام انظارنا الا وصاحب المقهى يجلس الينا بعد ان قربه لنا للتعريف بنا الزميل.. نوري عبعوب .. قدم نفسه لنا كصديق الفنانيين (صلاح الدين الشريف ) .. ودخل علينا بالحديث مباشرة بقوله
وعن الفكرة قال كنت افكر بمشروع المقهى حين طرح علي الصديقان الفنان (عبد المجيد الميساوي) و الفنان (حسن فرحات ) سؤال لما لا تجعله مقهى للفنانين ؟؟!! ولم اتاخر عنهما كثيرا في الاجابة فقد كانت هي هذا المقهى الذي تجلسون أنتم فيه فيه الان ..
وعن رواد المقهى الذين لم نلتق بهم في ذاك المساء اجاب ..صلاح.. ليس كصاحب مقهى .. بل فعلا كغاوي فن ومحب للفنانين بقوله .. لكون شهر رمضان قريب وموسم عروضه ايضا فاغلب الفنانين تربطهم مواعيد تصوير او جلسات عمل ما قبل التصوير .. لذا من لم تلتقوا بهم الان فكرروا زيارتكم ستجدونهم في المرة القادمة .
وعن الاسماء قال زوار المقهى كثيرون ، منهم قليل المرور ومنهم المداوم عليه لكن ساذكر لكم اخر من مر من هنا وذكر لنا عمي عيسى عبد الحفيظ ..علي مصطفى المصراتي ..فتحي كحلول ..سعد الجازوي ..صلاح الاحمر..باسط باقندة ..علي الشول و هدى عبد اللطيف …واختتم بقوله وقبلهم مر كثير من الفنانين .. لكن .. رسميا .. فقد زار المقهى وزير الثقافة (حسن ونيس ) والذي زار المكان وجلس فيه وجاب بنظره متاملا كل الحكايات التي كانت ترويها المعلقات من الصور على جدران المقهى … واضافة لشربه القهوة فقد تجاذب اطراف الحديث مع الحاضرين من الفنانين ..
اخيرا وكما العنوان بمقهى الفنانين.. شربنا القهوة .. واخذنا بالاحضان زملاء لنا فترة على الفرح برؤيتهم .. ذهبنا خلف صور الذاكرة الفنية بليبيا والمصطفة على جدران المقهى لأبعد من اعمارنا حتى ، الى هناك في الماضي البعيد حيث كان يحفر في الصخر رواد منّا .. اباء لنا نحن الليييون كي ينسجوا لنا ذاكرة مسرحية وفنية وثقافية نفخر بها الان وغدا ولو بعد حين ..
بمقهى الفنانين ..شربنا القهوة وأخذنا بعيدا الحنين.
___________________