قوانين الكتابة أحياناً عصيّة على التفسير
أستاذنا الفاضل سعيد نفاع المحترم، رئيس الاتحاد العام للأدباء الفلسطينيين- الكرمل 48، أسعدت أوقاتاً، ومتّعك الله بالصحة والعافية، أمّا بعدُ:
فاسمحي لي أولا أن أعبر عن سعادتي برسالتك المقتضبة هذا النهار، وبلقائك يوم السبت الفائت في نابلس (28/8/2021)، وإن لم تتح لي الفرصة للحديث المشترك سوى المصافحة، لكنني حظيت بسماع كلمتك التي كانت وحدوية طازجة عميقة، ولاقت استحسان الجميع الذين أصغوا إليها باهتمام كبير. لقد شكلت تلك الكلمة- كما قال لي أحد الكتّاب- بيانا تأسيسيا لما هو قادم. متمنيا أن نستمر في هذه الجهود؛ لعلنا نرتفع عن وحول الواقع، تلك الأوحال والأحوال التي أشرت إليها في تلك الكلمة المهمّة التي تحدّثت عن أمراض الحالة الثقافية في فلسطين. شاكرا شكرا بلا حدّ صديقنا المحامي الحيفاوي حسن عبّادي مهندس هذا اللقاء، فقد كان على الدوام ذا نفَس وطني وحدويّ، تشرفت بالعمل معه ومرافقته في نشاطات كثيرة، وخاصة أنشطة ثقافية تخص الأسرى في المعتقلات الصهيونية.
ودعني أعبّر لك عن سعادتي مرة أخرى، إذ أفسحتم لي المجال بالنشر في موقعكم الإلكتروني (الكرمل 48)، وفي مجلة “شذى الكرمل” الورقيّة مرات متعددة، وأظن أنه ما زال بالإمكان الاستمرار في هذا الفعل الثقافي الذي يكرّس الوحدة ويمتّن العلاقات، ويجعلها أكثر ديمومة. سواء في ذلك النشر لي أو لغيري من كتاب فلسطين غير الأعضاء في اتحادكم الموقر.
ربّما معك حقّ؛ إذ أشرت إلى أنّ الضيوف في الموقع ليس كما جاء في ملاحظتي خلال مداخلتي يوم السبت المنصرم. فــ”الضيوف على الاتّحاد من هم ليسوا أعضاء اتحاد”. لعلني تعجّلت الفهم، أو ربّما كان فهمي قاصراً، إذ لم أدرك تماماً المعنى المقصود، أو لعلني كنت أكثر طمعا في أن نكون جسما واحدا، دون الحاجة إلى أن نوصف بالضيوف. ألا ترى معي أن الأمر ملتبس إلى حدّ ما؟
أتمنى أن نستطيع تكوين اتحاد يجمعنا جميعا “الكل الفلسطيني” بصرف النظر عن أماكن عيش الأديب الفلسطيني داخل “فلسطين التاريخية” أو خارجها، وبصرف النظر أيضا عن اللغة التي يكتب فيها هذا الأديب أو ذاك (أدباء وأديبات). كم أتوق إلى ذلك الجسم الثقافي النقابي الذي يجمعنا ويوحدنا لنتخلص من نار الفصائلية القاتل الذي خرّب الثقافة ومنابرها ومؤسساتها في مناطق “السلطة الفلسطينية”، ويكون لنا كلّنا مرجعية نقابية واحدة، دون العودة إلى خطاب الـ “نحن وأنتم”، ودون تحكّم المؤسسة الأمنية بالمثقفين والجسم النقابي؛ كما هو حاصل في اتحاد الكتاب والأدباء الفلسطينين، هذا الاتحاد المسروق لصالح حزب السلطة المسيطر على كل أنحاء الحياة المؤسسية الحكومية وغير الحكومية. ماذا علينا لو فكّرنا بالأمر سوياً؟ ما زالت الفكرة تلحّ علي منذ سنوات، ولن يهدأ لي بال حتى تتحقق بنا جميعا، لعلنا نخرج من تلك المآزق التي وضعنا فيها “سدنة الثقافة” المسيسون لغير صالح الثقافة والسياسة معاً. فأضاعوا الثقافة كما ضيّع السياسيون السياسة، ولم نظفر بشيء سوى الجهود الفردية المخلصة التي تصر على العمل.
أما بخصوص قولك: “أتمنى عليك أن تكتب عن كتّابنا”، فأشكر لك هذه الدعوة وممتن ثانيا لإشارتك إليّ خلال إلقائك كلمتك وامتداحك نشاطي في الكتابة، والبحث عني بين الحضور، لأعرب لك عن وجودي، كم كنت مسرورا وأنا أحظى بهذا الالتفات، وبهذا الاهتمام الذي أشعرني بأهمية ما أقوم به من فعل الكتابة، ويحفزني لأعمال بهمة أكبر ونشاط أشدّ.
الأستاذ سعيد نفّاع المحترم،
في الحقيقة لم أكن غائبا عن تناول أدبائنا في فلسطين المحتلة، في الناصرة، وحيفا، وعكا، وغيرها من المدن الفلسطينية المحتلة عام 1948، كما تناولت أدباء من نابلس ورام الله والخليل وطولكرم، أو في الشتات، فقد كتبت عن الكتاب الفلسطينيين دون أن أقول: “كتابنا أو كتابكم”، كتبت عن توفيق فياض، وعن نمر سعدي، وعن آمال عواد رضوان، وعن مصطفى عبد الفتاح، وعن مرزوق الحلبي، وعن المسرحي إبراهيم خلايلة، وعن صالح أحمد، وعن راشد حسين، وعن سامي مهنّا، وعن إيمان مصاروة، وعن لينة صفدي، وربما كتبت عن آخرين نسيت أسماءهم، عدا كتابتي عن الشاعر الكبير حنا أبو حنا دراسة ضافية ونشرت في مجلة أفكار الأردنية، وعن توفيق زيّاد وسميح القاسم ومحمود درويش وغسان كنفاني.
كما كتبت عن فوزي البكري ومحمود شقير وجميل السلحوت وإبراهيم جوهر، وغيرهم من أدباء القدس. وكما كتبت كذلك عن الأخوين طوقان؛ إبراهيم وفدوى، وعن هارون هاشم رشيد وإبراهيم نصر الله، وغيرهم من الشعراء والشاعرات، والكتاب والكاتبات، لقد كتبت عن هؤلاء جميعا وضمنتُ ما كتبته من أبحاث ومقالات كتبي المطبوعة، أو في الكتب التي ما زالت مخطوطة. أو تلك المقالات التي ما زلت أكتبها وأبثها لتستقر في مواقع إلكترونية وصحف ومجلات متعددة عبر العالم.
أستاذنا، وحبيبنا،
لم تكن الكتابة عندي لتخضع لأي تقسيم جغرافي سياسي هزائمي؛ على أساس هزائمنا (48، 67) أو (الداخل والخارج والشتات)، أو لتهتمّ بجنس أدبيّ دون آخر، فقط أتناول النص الذي يستفزني لأكتب فيه، قد لا يحالفني الحظ وأكتب عن أسماء مشهورة، لكن لا يعني أنني أتجاهلها ولا أقرأها أو لا أتابعها، ربما هي الكتابة كالزواج قسمة ونصيب! -لعلك ستضحك مني الآن- فأنا لم أكتب مثلا في إميل حبيبي أو محمد نفاع أو غيرهما؛ ليس لأنهما غير مهمين، بل بالعكس، ومعهما غيرهما كتّاب مهمون جدا في حركة الثقافة الفلسطينية، ولكن لا أستطيع تفسير كيف توجّه الكتابة قواربها. الأمر أشد غموضا مما أستطيع أن أفهمه لأشرحه.
أخي الأديب الأريب سعيد نفّاع،
إنه لمن الجميل ألا يشعر الكاتب الناقد أنه “موظف” عند الكتّاب الإبداعيين، شعراء وساردين، يستخدمونه وقت الطلب، أو كلما صدر كتاب، أو بزغ في سماء الإبداع نجم جديد. لا بد من أن يفعل ذلك ناقد ما مع حالة ما، لكنّ المسألة لا تتعلق بالاستجابة المباشرة حسبما أعتقد من الجميع للكتابة في هذا الجمع الغفير من الكتاب، ثمة انتخاب “شبه طبيعي” يشبه قانون الطبيعة في الانتخاب إلى حدّ بعيد.
أما على صعيد شخصي، فربما أصابتني نفرة من الكاتب الذي يطالبني بالكتابة عن كتابه، أو أنه يهديني كتبه، لا للصحبة والمودة، وإنما من أجل الكتابة عنه، يجتاحني شعور بالكسل والمماطلة لا يوصف. أعرف أن ذلك ليس صحيا، ولكن هذا ما يحدث معي دائما، لقد تراكم بفعل هذا الشعور كتب كثيرة عليها إهداءات بتلميحات الكتابة عنها ونقدها، لم أقرأ تلك الكتب إلا على مضض، ولم أكتب فيها كلها، ولا أخفيك أنني كتبت عن بعضها كتابة مزعجة؛ واقعا تحت تأثير الإصرار والإلحاح، فجاءت كتابة ناقمة وشرسة وجلبت لي العداء. أما من لم أكتب عن كتابه فقد دفعه ذلك إلى أن يتخذ مني موقفا، يتهمي فيه بالغرور، أو التكبر أو “شوفة الحال”، لكنهم لم يقدروا أنه ليس باستطاعتي أن أتحول إلى كاتبٍ تحت الطلب، أعمل بكبسة زر.
لا أدري لماذا وصلت معك إلى هذه المنطقة المحرجة. لكن أرجو أن تعذرني، وقد عرفتَ مني ومن أمري ما عرفت، وليسامحني أحدهم إن تجاوزت عنه وعن كتبه دون أن يكون القصد هو التهميش أو التجاهل أو تهوين القدر والقيمة، إنما هي هكذا الكتابة باختصار.
دمت بخير، ولعلنا نلتقي ثانية وثالثة وأكثر!
مع الاحترام
فراس حج محمد
نابلس 31/8/2021