النقد

قراءة في (صدى الأفعى) من المجموعة القصصية (وهج الخريف) للأديب الليبي د.رمضان العوامي

مفتاح الشاعري

وهج الكلمات للقاص رمضان العوامي

قرأنا أنه و(في حديثهما الأول قال تشيخوف للكاتب ايفان بونين في درسه الأول له: لا تدع يديك تخملان.. اكتب طوال الوقت.. طوال حياتك) …

عزز ذلك قولنا ولأكثر من مرة ان استمرار الكاتب الأديب في الكتابة هو نوع من البقاء وان ذلك لا ينفى حقيقة المنظور القائل بان المهم ليس في التحدثّ عما هو مطروح من إبداع لشاعرٍ أو روائي أو قاص اللذة الوحيدة بل ربما تكون الثمرة المرجوة هي تلك التي نجدها في وصف “عوالمه”، ذلك أن هذه العوالم المنشودة من شأنها إعطاء الدلالات والمؤشرات الصحيحة لفكر المبدع وما يحمله من دوافع حقيقية أو خفيّه تشكّل أواصر وأسس بنيت عليها القصة أو الشعر أو رواية.

وهنا.. في هذه الوقفة كانت قصة (صدى الأفعى) من المجموعة القصصية (وهج الخريف) للأديب د. رمضان العوامي يجابهك نوع من المد لاكتشاف نوعية السرد عبر المتن القصصي المسترسل ثم يلي ذلك واقع انه لا يغيب عن ذهنك تلك المكونات التي ترصدها عبر تلك الرحلة.

وفى القصة ستجد هناك نوع من المذاقات لأنماط تتتابع في سردية مستساغة تأتي في تقاطع مدهش لا يسيء في الحقيقة الى انسياب النص القصصي ومنها جانب ينبئ لفسحة من دعوة لا تخلوا من دعوة التوقف المؤقت لمراجعة معلومات حياتية ملموسة او تاريخية لم تكن في أصلها سوى نص تاريخي جامد استجلبه القاص بمهارة لخدمة جانب اثراء كون في محصلته اعمدة من اساسيات العمل القصصي الذي استلهم التاريخ والاسطورة فنجح في ذلك وبهدوء.

وهناك نوع من ممارسة فن القص حين لجأ الكاتب الى التنقل بين الرواية ولحظة التسجيل واستجلاب الماضي خدمة لحاضر السرد رغم ان هذا النوع من النقلات المتتالية هي عملية لا تخلوا من مخاطرها.

ان للقاص حين تنوع في سرديته لم يكن يجهل حقيقة اتجاهه الذي قصد منه اثبات وجهة نظره التسجيلي باستعمال الفعل السردي الى جانب اسقاطات تركها لذهن المتلقي وفقا لما وصل اليه حال ذلك المتلقي حال الانتهاء من القراءة.

ونقول -ختاما بوجهة نظر المتلقي المتذوق لهذا النص- انه وحين يطالع السارد عالمه حال الكتابة فانه يظل المشارك لواقعية لم يشاء مفارقتها لكنه ايضا يقر بوجود جانب اخر يسكنه القارئ الذي يظل محتفظا بمنظور يمتلك الحرية في نوعية الرؤيا والرأي وهذا ما سيظل يعرف بجسر التواصل…

عاد للوطن بعد غياب عنه فترة غير قصيرة، التقى أحد الأصدقاء القدامى، وخاضا في ذكريات ماضي الأيام، وأحوال حاضرها، وهنا أخبره صاحبه بأنه قد امتهن مؤخرا تربية الأغنام، واتخذ لها من ارض البراري العليا مكانا للرعي، حيث الأراضي المفتوحة على مشارف الصحراء، ووجه له دعوة لزيارته في ذلك المكان، لينعم بقضاء ليلة تتسم بالسكينة والهدوء، بعيدا عن ضجيج المدينة الصاخب، والتمتع بمشاهدة تراقص النجوم في قبة السماء، بدوره قبل الدعوة بسرور وحددا يوما لذلك…

في ظهيرة اليوم الموعود غادر المدينة، وانطلق بمركبته عابرا الهضاب الجبلية حتى انحدر جنوبا وامتد الطريق أمامه شاقا السهول كأفعوان خرافي، تلك السهول في السنين الخوالي كانت تغل أضعاف ما يزرع بها من حبوب، الآن أضحت مقفرة أثر ندرة المطر وهبوب الصحراء اللافح، لم يزرها المحراث منذ سنين.. طالعه عن اليمين مرتفع شهير، يطل على اغلب تلك الأنحاء، تعتليه بقايا قلعة من زمن الرومان.

في مثل هذه القلعة ونظيراتها شرقا وغربا، كان الجنود الرومان يتحصنون بها، ويتخذونها موقعا أماميا لصد القبائل الليبية من العودة للشمال.. العجيب انه حين أعاد التاريخ نفسه وجاء البحر بأحفادهم ثانية.. رمموها واتخذوها لنفس الغرض. قال في نفسه…

واصل المسير حتى انتهى الطريق المرصوف واتخذ مساره عبر طريق ترابي، حيث غابت مظاهر الحياة وولج تلك الوهاد الخالية، التي تتخللها أودية يظهر في بعضها قلّة من أشجار الأثل والسدر، كما تنتصب فوقها بعض المرتفعات، المنتشرة بسفوحها شجيرات شوكية زاحفة مقاومة للعطش. في سالف الدهر كانت تلك رحاب تعج بأجناس الحيوانات البرية، والنباتات النادرة، والطيور الجميلة، والأحواض الصلصالية التي تحتفظ بمياه أمطار الشتاء، طوال فصل الصيف.

كان الدرب الترابي يشق الأراضي المنبسطة، وحين تنحسر يتجه لسفوح المرتفعات متحاشيا الأودية والمنحدرات الوعرة، تربته ناعمة جدا، وهذا يجعل سير السيارة عليه سلسا الى حد ما.. كما يسهل فيه اقتفاء أثر الذين عبروا.

استمر في المسير لا كثر من ساعة، دون آن يجد أثرا لصاحبه، توجس خوفا من انه أخطاء الجهة، أوقف المركبة على جانب الطريق بسفح إحدى المرتفعات، وترجل واخذ في الصعود نحو رأس الربوة، كي يلقى نظرة بحث عن خيمة صديقة، أو أي دليل يرشده، كانت أرضية المرتفع شديد الصعود، تكثر بها الصخور الناتئة والمتناثرة، الحرارة مرتفعة.. الرياح خامدة.. الشمس تميل غربا عن كبد سماء خالية من السحب.. بلغ ذروة المرتفع بصعوبة، وأجال البصر في كل الاتجاهات، ولكنه لم ير سوى ذلك الخلاء الذي يمتد حتى نهاية الأفق، حتى انه يبدو كمحيط قد جفت مياهه!

وقف كتمثال.. ضم يديه خلفه.. وتأمل المكان بعينّي الخواطر.. عاودته تلك الروايات القديمة التي سمعها من كبار السن، وما ورد من بضع أسطر في كتب التاريخ.

اطل مع نافذة ماض بعيد، وحدثته نفسه: هنا كان الأسلاف ذوي المناقب الرفيعة.. والذين اتخذوا من الخيام سكنا، وحياة الرحيل سبيلا للحياة، بعد إن دحرتهم آلة الرومان الجهنمية عن الشمال، حيث أراضيهم الخصبة المطيرة، وشواطئهم المدهشة، وعيون المياه العذبة الدائمة الجريان.. هجّروا من قراهم ومدنهم وأريافهم أمام وطأة أقوي جيوش إمبراطورية، اجتاحت شرق الأرض وغربها في ذلك الزمان.. لقد عاش الأجداد تلك الحياة الطارئة والقاسية، والتي امتدت لمئات سنين، حتى آلفوها وانبثقت عنها (ثقافة الرحيل).. ثقافة اتسمت بالاختزال في كل مناحي الحياة.. لقد فرضت التجرد والاختصار على كل شي، على المأكل والمشرب والملبس والسكن، وحتى على البيان.. إنها حياة الرحيل الدائم بحثا عن الماء.

هكذا كانوا عبر القرون الطوال، عرضة للتهجير والتشريد دون ذنب اقترفوه.. ليس من القادمين من وراء البحر فحسب.. بل عبر البر ايضا.. فقد داهمتهم بغتة تلك القبائل القادمة من الشرق، والمهاجرة تحت جائحة العطش والجوع، كانت كالجراد المنتشر، ذات طباع بدوية حادة.. إنها من أقاصي الصحراء البعيدة، نزلت وادي النيل، ولكن تم إجلاؤها نحو الوطن بمكر ودهاء الخليفة الفاطمي.

لقد أتت على الأخضر واليابس بهمجية المغول.. كانت تخرب العمران، وتفسد البساتين، وتدمر محطات قوافل الشمال الأفريقي الشهيرة، وتقتل الأنفس بغير حق.. وتستولي على الأرض وما عليها.. فشردت من شردت.. وقتلت من قتلت، ومن هزم واستسلم لها، فرضت عليه جزيه دائمة يدفعها قهرا، حتى لو اضطر لبيع أحد أبنائه في سوق النخاسة.. لم يبقوا على شي حتى أصبحت هذه الديار (يبابا).

العجيب إن هذه الأماكن رغم كل ذلك، مازالت تحمل الأسماء التي أطلقها عليها أولئك الأسلاف منذ (غوابر الدهر).. لم تندثر.. مازلت لا تعرف إلا بتلك الأسماء حتى يوم الناس هذا!!!

إن ما واجهه أولئك الأسلاف لا يكفي وصفه بالمواجع.. لقد كانوا عرضه للغزو تارة، وتارة أخرى للأوبئة الماحقة، مع قسوة الطبيعة إثر انحباس المطر.. ولكن رغم ذلك لم يكتب عليهم الفناء.. جراء مواجهتهم السرمدية لعبثية الغزاة.. وجور حياة على ذلك النحو.. فتلك الحياة القاسية لم تهدم بداخلهم الكيان الإنساني.. أو تقتل فيهم حب الوطن.. والاعتزاز بالذات.. ولم ينتهجوا حياة البؤساء.. واستجداء العطف من الأخر.. ولم تنخلع عقولهم.. أمام أي ظرف عصيب.

تصمت خواطره.. يسحب أنفاسه بحرقة ويزفر بمرارة مصحوبة بسعلة.. يبتلع عبرة، ثم ينظر للأرجاء، ويردد في نفسه.. مازالت ذكري ذلك الماضي السحيق، تخيم سحبها بحزن كثيف فوق المكان كله -أو هكذا أحس-.. يسترد ذهنه.. يجول ببصره مرة أخرى لعله يرى ما يدله على مكان صاحبه.. لكنه لم ير سوى تراقص سراب مضفيا فوق الأرض الشاحبة لونا رماديا.

قرر مع شي من التردد آن يرجع، قبل آن يدهمه الظلام في هذه البرية المترامية الأطراف، فقد يسلك طريقا خاطئا يجعله في متاهة حتى الصباح.. ذلك حدث مع الكثيرين.. فهنا لاشي مختلف كي يتخذ منه علامة.

رجع متمهل الخطى مع انحدار السفح، لفت انتباهه حركة بقربه تحت أحدي الشجيرات الزاحفة.. دقق النظر.. فإذ بحية تلتف تحتها.. أفزعه الأمر في البداية، ثم تمالك نفسه.. وقف في مكانه.. أخذت تلتف حول نفسها فيما رأسها مرتفعا بتوعد.. كانت في حالة تأهب.. لونها صخري قاتم.. تسمر في مكانه قليلا ثم تحرك نحوها خطوة.. انتصب نصفها متصلبا بتقوس، يعلوه رأسها المفلطح.. رأي بطنها صفراء متحرشفه، فحت نحوه مرتين.. لم يتزحزح من مكانه.. أنزلت رأسها وأخذت تحركه يمينا ويسارا.. تقرفص على مسافة منها دون حذر.. مدققا في تفاصيلها.. وقال في نفسه: لما كل هذا التحفز أيتها الأفعى…؟ ولما لا تتوقعين مني سواء العدوان…؟ آلا تظني غير ذلك…؟ لما تخيفينني بفحيحك، وتحاولين طردي وإبعادي كي أخلى أمامك المكان…؟ هل أنت أحق مني بامتلاكه…؟ آم أنك صورة من الماضي، يتكرر في صورة أخرى…؟ ظن إنها تسمعه.!!!

توقفت خواطره عن التوارد.. فيما هي تصطك ثناياها بعضها ببعض، وترفع رأسها وتخفضه، ولسانها المشطور يتذبذب عبر ثقب في مقدمة فاها.. لاحظ آن عينيها تكسوهما غشاوة رمادية.. وهذا يجعلها ضعيفة البصر، تلك الغشاوة عائدة الى اقتراب انسلاخ جلدها القديم.. كان يشاهدها بكل دقة.. ثم استطرد في نفسه:

من أنت أيها السر الغامض…؟ كيف شكلت هاجسا لبني الإنسان منذ خلق، حتى أخذتي كل هذا الحيز من مخيلته، وأكثر من أي مخلوق آخر…؟ لقد نسج حولك الخرافات، حتى قال عنك أنك مخلوق يمكنه آن يكون بسبعة رؤوس !!!… بل حضرتي بقوة في دياناته ومعتقداته، اتخذ منك رمزا للمهابة والقوة، فقد ظهرت صورتك في معظم نقوشه، واعتلت هيئتك تاج سلطانه.. كنت حاضرة لدي الإنسان عبر التاريخ، في المعجزة والسحر، والخوف، وفي كل ما وراء الطبيعة.. كنت مثالا للمكر والخداع والغيلة ايضا.. وفي تشكل مخلوقات أخرى بهيئتك.. أمرك محير فعلا !!!… ولكن مع كل هذا فأني لا أهابك، ولا يخيفني فحيحك الطارد.. ولن أمنحك النصر بدحري من المكان.. ذلك لأنك لا تعرفي للسلام معنى.. ولا تمنحي الأخر إلا السم الزعاف.. ولا تنظري له إلا كعدو يباغتك، حتى وان كان عابر سبيل تعثر بك دون آن ينتبه.. أنك لا تجيدي إلا العدوان والشراهة.. وحين تجوعي تلتهمي أي شيء.. أي كائن.. لا فرق عندك في طعم طرائدك.. فكك المفصول عن جمجمتك، يجعل فاك يتسع لفريسة تفوق حجمك أضعاف المرات.. إنك لا تمضغي.. بل تبتلعي فقط.. لا يمكنك إخفاء جرائمك.. آن ما يدخل جوفك يمكن معرفته بسهولة بمجرد النظر لبطنك…

الغريب انه ليس لديك مخالب أو أجنحة.. ولكن مع ذلك يخافك الكثير.. فمن أين لك بهذه الرهبة…؟ وأنت مجرد صورة كاملة للشر.. لا وجه للخير فيك.. حتى دواء لدغتك لا يأتي إلا من سمك…!!! كم أنتم ماكرة حقود.. وجحود.. نعم جحود حتى مع نسلك وجنسك.. إنك لا تكترثي بصغارك فلا ترعيهم ولا تطعميهم كالأمهات.. لا زوج يرافقك.. ولا رفيق يصاحبك.. حتى جلدك الذي وقاك البرد والحر فإنك تتخلصين منه بسهولة، وتتركيه في العراء، دون آن تمنحيه نظرة وداع كنوع من الوفاء.. بل تسرعي زاهية بالجلد الجديد اللامع، والذي سيلاقي يوما نفس المصير.. بهذا يبدو لي آن تسميتك (حيه) تعود لأنك حيه من اجل نفسك.. أو إنك تري آن الحياة وقفا عليك فقط.. أيتها المارقة المتوحدة.. اعلمي إن كل ما تقومي به لا يرعبني، ولا يمكنك هزيمتي، ذلك لأني أراك ضعيفة مهما هددتني برأسك المتوقد بالسم، أو تحولتي الى إحدى صورك الأسطورية، وأصبحتي عفريتا أو شيطان.. لأنه بإمكاني تهشيم راسك بضربة حجر لا أكثر.. لكنني أنا الإنسان.. وحين امتثل لإنسانيتي العليا، فلا اعتدي إلا على الظالمين.. احضني شجرتك الشوكية بقوه.. وأستمري في تحفزك تحتها.. أنا لن أؤذيك.. سأتركك لمقاصدك الخبيثة، فهي كفيلة بالقضاء عليك.

أحس بان هناك من هو قادم.. التفت فشاهد قطيع من الإبل يسير نحوه.. نهض وتنحي جانبا، لمعرفته بان الإبل لا تغير مسارها لمجرد وجود شخص أمامها.. كانت تسير متراصفه ومتلاصقة كأنها جسد واحد.. كان يسمع تهشم شجيرات الأشواك تحت خفافها المصفحة بقشرة غليظة خشنة.. مرت أمامه كأنها جحفل.. كان في أثرها راع.. اعترضه وسلم عليه، وسأله عن صاحبه إن كان يعرفه.. أجابه بمعرفة صاحبه… ووصف له المكان وصف الرعاة الدقيق.. لحق الراعي مسرعا بإبله.

نظر نحو القطيع وهو يبتعد.. فبدأ له كقطعة ليل تتحرك على وجه الأرض في وضح النهار.. مواجهة بصره لشمس غاربة زادت المشهد أكثر جلاء.. القى بنظره أرضا نحو شجيرة الأفعى.. فرآها متهشمة.. مشى نحوها، معتقدا آن الأفعى هربت أمام دهم الإبل.. وكانت المفاجأة.. لقد سحلت خفاف الإبل الصلبة جسم الأفعى مع الشجيرة.. كان لحمها ممزقا فوق الأعواد الشائكة.. وقتلتها دون آن تدري.

ها هي قد قتلت.. وأضحت مجرد قطع لحم ممزق.. لا فحيح ولاسم ولا رأس متوقد.. ولكن.. هل مات صداها…؟ أم ما يزال يملاء فحيحها الأنفس…؟ قال ذلك في نفسه.. بدأت تداعبه نسمات زكيه قادمة من الشمال.. أوصد باب المواجع.. نظر نظرة للسماء.. ومضى في سبيله.

مقالات ذات علاقة

قراءة في قصة (شمس) للكاتب الليبي الأستاذ محمد المسلاتي

المشرف العام

قصة.. ضربْ الأم

نورالدين خليفة النمر

بين عزة المقهور وعائشة إبراهيم.. وتر مشدود

المشرف العام

اترك تعليق