آيت أدَّا….اسم لقصة تثير الاستغراب حد الدهشة والريبة لوهلة وما أن نخوض في تتبع مسار أحداثها حتى ينكشف لنا كُنه هذه التسمية التي ترادف أهل السافلة في اللغة الغدامسية القديمة.
صندوق الذاكرة
أجواء العمل محتقنة بالرعب الذي يشي به العنوان لكنّ خط الرعب الذي تبناه الروائي الليبي “إبراهيم الإمام” يبدو للمتلقي يسير الهضم ويتسلل لمداركك دون فجاجة مُنفِّرة، تطويع الأساطير الشعبية المتوارثة ثيمة يحرص الإمام على اللعب بخيوطها ولضم تفصيلاتها الحكائية فإزاء هذه القصة نجد إحياءً لتلكم الأساطير التي ملأت جُعبة الأجداد والجدّات فأضافت وحذفت الذاكرة إليها وحوّرتها حسبما تقتضيه تقلبات الظروف، الحكاية محاولة تعكس تأريخ الوعي الجمعي للعوالم الغيبية واللامحسوسة .
الغيبيات هاجس الإنسان
لطالما أعتقد الإنسان أن ثمة من ينازعه في أبجدية هذه الدنيا ويقاسمه مكتسبات الأرض والكون، متلازمة الاعتقاد بأن هنالك عالم يوازي العالم المرئي ماتزال هاجس الإنسان حتى يومنا هذا، ولعل ما يُفسر ذلك لجوء الكثيرون لتوظيف هذه المتلازمة في العديد من الأعمال الإبداعية مما أعطاها أبعادًا تكاد تقترب من صنو الحقيقة( كلنا نشعر أنهم يشاركوننا حياتنا، كل صغائرنا وكبائرنا مكشوفة لهم).
أساطير صدق أو لا تصدق
تقنيات القصّ لدى إبراهيم الإمام تجعلك في مأمن عن العودة خالي الوفاض فالمتلقي يجد مسوغًا قانونيًا ومشروعية لتهويماته ويشرع الروائي في لضم إبرته بخيط يؤسس للعلاقة بين دنيا البشر وعالم المخلوقات السفلية خيط دقيق تسير عليه فصول القصة، عالم يُحاكي المرئي والمُدرك بطبيعة البداهة المتعارف عليها، ومن خلال تاجر في أحد الأزمنة الغابرة تقتفي الأسطورة أثر مفارقاتها وسط بيئة تتأرجح بين قول -صدّق أو لا تُصدّق- وهذا الاقتفاء يُجسّد حتمية اللقاء بين الإنسيّ التاجر الطموح وبين نظيره الجنيّ على مسرح مقفر تتمزّق فيه الأبعاد !
صفقة مع الغيب
الصحراء وجُبّ يترى بالماء ينقذ من العطش، هذين العنصرين قادا الفتى لعقد صفقة مع الكائن الجنيّ منحتنه بموجبها وطأ واحة العفاريت اللذين تفاجأ الفتى بكونهم لا يختلفون في المظهر ولا يتفاوتون في السلوك الظاهر عن نظرائهم البشر كل ذلك كان لقاء مساعدة الفتى لهذا الغريب الذي أسعفه بقطعة قماش تكفي لإكرام أحد الأموات ومواراته الثرى، (سنذهب إلى مدينتنا ملكنا يرغب في إكرامك على حسن صنيعك لكن كن على حذر لا تتحدث مع أحد مهما كان السبب، أنا فقط من عليك أن تتبادل مه الحديث).
متلازمة الغواية
الصفقة تضمنت شرطًا جزائيا بأن لا يحاول مخاطبتهم أو التحدث إليهم وإلا وقعت عليه لعنة أهل السافلة، الفضول الذي يسكن التكوين النفسي والمعرفي للإنسان يقوده غالبا لفك طلاسم ما حوله واماطة الغموض عن الطرق المحفوفة بالتساؤلات وهذا ما اندفع إليه التاجر الذي ما لبث أن استبدت بجوارحه أنثى حلت العقد من لسانه وهنا تضعنا الأسطورة أمام رمزية إغواء حواء لأدم في الثقافات الدينية القديمة وما ترتب عليه من طردهما من بساتين الجنة جزاء خطيئتهما ! وهذا ما رأيت حصل مع التاجر الذي أغوته أنثى الجن ليفتتن بها وينكث عهده مع نظيره الجنيّ الذي منحه أفق اكتشاف عالمهم الغامض ! (من درجات السلم الحجرية المفضية لسطح البيت حيث مكان المطبخ نزلت على استحياء…لم تكن جميلة فحسب بل كانت غادة حسناء هيفاء ربما تشبيه وجهها بالقمر فيه إجحاف لذلك الجمال الذي رآه).
وثيمة الغواية لازالت مادة مغرية بالنسبة للكتّاب والروائيين، وحدث طرد التاجر من واحة العفاريت يعيد للذهن عقاب الله لبني إسرائيل وتيههم في صحراء سيناء لسنوات طوال وهذا ما جناه التاجر تاه وهزل وتساءل هل رآه كان جزءًا من حلم ما ؟ أم جزءًا من بصر تفتحت له الحُجب ؟! واستئناسًا بالمفارقة يظهر عنصر الناي في مشهدية الأحداث الذي ظل التاجر لسنوات طويلة يحاول اتقانه حتى تمكن أخيرًا من تأليف قطعة موسيقية ولحظه كان أهل السافلة ممن تروقهم الألحان الشجية وانسكاب الأوتار العذبة في بحر الروح بالناي ظهر ذاك الغريب الجنيّ له مرة أخرى .
سرد السهل الممتنع
المستحسن في تقنية السرد لقصة الروائي إبراهيم الإمام هو البُعد عن الإطناب والتوصيف المبالغ فيه للشخوص والأمكنة، ولعل ذلك فخ يقع فريسته العديد من الروائيون بغية خلع صورة درامية كاملة على الأحداث وفي ضوء ذلك يتمكن التعثر والملل من نفس القارئ، آيت أدَّا نص حكائي يفتح شهية لغته وطريقه لأجيال مختلفة ويثبت بأنّنا في حضرة قلم يتقن فن القصّ .