قراءات

الجيلاني: مذاق الذكريات في سفر القصيدة

كتاب «الشاعر الجيلاني طريبشان.. القصيدة الإنسان» للكاتب حامد كهال

«إن المرء ليتعثر وتتمنع عليه الكلمات، عند الكتابة عن من صادق وعرف عن قرب، عرفه في كل حالاته الإنسانية، لحظات الرضا والإحباط، ولحظات التفجر عند حضور القصيد».

بهذه الكلمات يفتح الكاتب الإريتري أبوبكر حامد كهال قوسا لفيض من الذكريات والمواقف والأحداث جمعته مع صديقه الشاعر الأديب الجيلاني طريبشان، الذي ودع عالمنا سنة 2001، يوثقها في كتاب «الشاعر الجيلاني طريبشان.. القصيدة الإنسان» الصادر عن مجلة المؤتمر سنة 2006 بعد مرور خمسة أعوام على رحيل رفيقه، وفي إشارة إلى شغفه بالرسم اختيرت إحدى لوحات الجيلاني واجهة للغلاف، فيما تتوزع باقي الرتوش بين دفتي الكتاب.

يتوقف كهال في مؤلفه عند محطة تعريفية للجيلاني كشاعر ينتمي إلى «الجيل الجسر» كما يسميه الناقد منصور بوشناف، مشكلا في وصلته بين نهاية الستينات وبداية السبعينات، نفسا جديدا لفضاء القصيدة، وكرؤية تنهض على نقل أفكارها في الثقافة والأدب والفن من قواعدها السابقة إلى مداراتها اللاحقة، ويمكن إضافة هنا ما أشار إليه الشاعر محمد الفقيه صالح في كتابه أفق آخر، أن «طريبشان من أوائل المؤسسين لقصيدة الذات»، جامعا في شعريته بين البساطة والعمق.

يشير الكاتب إلى آخر أمسية جمعته بصديقه، التي تبدو كمشهد تراجيدي يغرق فيه الثنائي أبوبكر والجيلاني استماعا إلى حديث الناقد أحمد الفيتوري وهو يسرد رحلة الشاعر في عالم مكابداته الممتزجة بألوان القصيد، وملامح عنفوان مسيرته في الحياة الثقافية، يرى المؤلف تلك اللحظات البعيدة القريبة وهي تلخص مشواره الشعري كإرهاصة لتوقف دقات قلب الجيلاني المكللة بالوجع واضعة فاصلة في آخر سطر من حياته.

سرير يبتلع الأجساد

تختزل غرفة الجيلاني في فندق خان السري «الفنيدقة» كل معاني الكوميدياء السوداء، حجرة تمزج البؤس والطرافة يقطنها الصديقان كملجأ أخير من وحشة الأقدار، معالمها مدفئة معطلة ومذياع، وخزانة ملابس عتيقة، ولعل سرير الشاعر محور الارتكاز في الدائرة «يكاد يلامس الأرض، فما إن تجلس عليه حتى تجد نفسك قد غرقت فيه، وإذا صادف وزارنا صديق لأول مرة، كنا نبادر إلى تنبيهه قائلين: على مهلك، هذا السرير يبتلع الأجساد».

لم يكن السرير يبتلع الأجساد فقط كما يقول كهال، بل كان ماكينة هضم تساعد الجيلاني على التكيف مع أحزانه وآلامه، وأرجوحة يستلقي عليها وهو يقرأ مقالا أو كتابا، تجاورها مسودات قصائد ومشاريع رسوماته، يزيحها قليلا حال النوم وهو يرحل بعيدا في صمته بعد أن يلف الظلام فضاء المكان في ليالي الشتاء القارسة، وتلفظ الشمعة أنفاسها الأخيرة، ليأتي دور المذياع عند منتصف الليل الذي يحول الجيلاني مؤشره إلى المحطات التي تبث باللغة الإنجليزية لمتابعة مستجدات الثقافة والأدب.

أماكن وذكريات

من الكتاب صورة تجمع الشاعر الجيلاني طريبشان والكاتب حامد كهال

تتداعى المحطات وتنفتح المسارب على مسارب أخرى، وبذا ينتقي أبوبكر حامد من شواهد الأيام ما يناسب طبيعة الرفقة، منتخبا من جداريتها وقفات لا تراعي تسلسلها الزمني بقدر ما تنحت في عمق لحظاتها، ففي إلماحته للأماكن يستذكر أبوبكر كواليس نص «سيدة الأقمار السبعة» الذي يرجع إلى سنوات سفر الجيلاني إلى إسبانيا 1967 حيث «التقى امرأة شابة في ساحة واسعة بمدريد حيته كأنها تعرفه لتكون عنوانا في نصوص ديوانه رؤيا في ممر الصادر 1974».

يتجول الصديقان في أزقة المدينة القديمة بطرابلس وأحيائها، ليمر الجيلاني على بيت قطنه بمحلة أبوالخير فترة السبعينات، ثم منزل آخر بالهضبة الشرقية، ومستشفى العيون، ويضيف كهال بقوله: «ثم عرج بي على العمارة التي كانت تصدر منها صحيفة الأسبوع الثقافي في شارع 24 ديسمبر، ومقهى زرياب الذي كان يرتاده المثقفون»، ويمتد التجوال مع الشاعر إلى الرجبان مسقط الرأس ليأخذه إلى أول مكان تلقى فيه تعليمه وهو الكتاب.

ولا تبتعد روح القصائد لدى الجيلاني عن الأمكنة، التي يشير إليها في نصوصه كفندق خان السري مكان الإقامة والذي يقع في نهايته حمام درغوت باشا الذي يرد ذكره أيضا، ويشير في هامش قصيدته «أربع حالات للشاعر» المنشور في ديوان «ابتهال إلى السيدة نون» الصادر 1999 بأنه خان قديم كان يقطنه فقراء طرابلس من بحارة وعمال الريف بباب البحر.

ومع سحر المكان يكتب الجيلاني كما يشير صديقه القصيدة أحيانا دفعة واحدة، وقد تتقاطر مقاطعها على امتداد الأيام والشهور، ويسوق لذلك موقفا شهده في ولادة قصيدة «منار» عندما دخلا إلى «فندق الأطلس» في جو ماطر ذات مساء، يجلس الرفيقان على طاولة قرب النافذة المستطيلة المزججة المطلة على ميناء طرابلس البحري، تناول الجيلاني قلمه وراح يجر به على صدر الصفحة، ويضيف أبوبكر واصفا حالة الشاعر: «كان يغتبط حين يباغته حضور القصيدة، وكان وهو ينكب على كتابتها يكاد يبكي من الفرح، ويغشى عينيه بريق عجيب قلما ألحظه في الحالات العادية».

ومن المواقف التي يسردها الكاتب، شهادته أيضا لولادة قصيدة «من أوراق الهادي بن بركة» وهو المناضل المغربي المعروف، إذ جلس الاثنان ذات مساء داخل أحد مقاهي شارع كندي، وكانت عاملة المقهى فتاة مغربية أخذ منها التعب والإعياء فجلست خلف دكة المقهى، ثم فجأة دخلت سيدة في منتصف العمر متوشحة بالسواد، وتحاضنت مع فتاة المقهى في بكاء طويل، أخرج الجيلاني قلما من جيب سترته، وخط المقطع الأول في القصيدة «يدخل المهدي فجأة /إلى المقهى/ طلب شايا /وينظرعبر الفراغ /ويسأل: كيف ألقت بها الريح ها هنا؟».

رحل الكاتب أبوبكر كهال إلى الدنمارك، وانتقل الجيلاني طريبشان إلى الرفيق الأعلى، وبقي هذا الكتاب شاهدا على سحر الذاكرة وهي تسترجع ومضات من سفر الأيام الخوالي.

مقالات ذات علاقة

سراب الليل… القصة كاملة… ما وراء القول

المشرف العام

صلاح نقاب يحرك حروف العلة

رامز رمضان النويصري

رواية آلهة الشدائد للكاتب الجزائري ياسمينة خضرا (محمد مولسهول)

المشرف العام

اترك تعليق