لا يتوقع من يشرع في قراءة رواية العلكة “سراب الليل” للكاتب والأديب منصور أبو شناف أن يقرأ رواية تقليدية بأحداثها وشخوصها وحبكتها الروائية وأحيانا بنهاياتها المتشابهة والمتوقعة، فالأمر هنا يختلف تماما مع أن القارئ سيجد شخوص تتأسس الأحداث وفقا لمصائرها المتعددة وأمكنة واضحة وزمن يسير قدما ويتدفق بوتيرة عالية وتصاعد للأحداث وتشابك حتى بلوغ ما سنطلق عليه الأنفراجة، إلا أن كل هذا جاء في إطار رمزى يظل القارئ مطالبا بتحديد غاياته ومراميه ورسم ماهيته، حيث أن القص في نهاية الأمر، وبعد أن يطوف هنا وهناك، يصب في هذا الأتجاه، سيما وأن الروائي ما أنفك يبعث بإشارات ومفاتيح ذات دلالات قد لاتخفى على القارئ الحصيف، وما إحالاته إلى متون روائية أُخرى مثل، رواية الياباني ياسوناري كاواباتا وروايتي الروائي المصري الراحل إحسان عبد القدوس، بئر الحرمان والوسادة الخالية، وتلميحاته المتعددة للثوريين في نظام العهد السابق وتوظيفه لمفردات العلكة واللوك للتعبير عن قضايا حساسة وربما لقول ما هو ممنوع أو مسكوت عنه، ذلك أن الرواية كانت قد صدرت في وقت أحكم فيه النظام السابق متمثلا في ديكتاتوره قبضته على كل مظاهر الحياة في ليبيا ووقت أن كانت فيه مساحة الحرية المتاحة للمبدع أضيق من سم الخياط وماإحالات الروائي الغزيرة تلك التي نوهنا عنها وغيرها إلا وسيلة ربما لتمرير أفكار تنويرية معينة قد لا يتفطن إليها الرقيب المتيقظ أبدا عند معاينة النص ومحاكمته من حيث تجرأُه على السلطات القائمة.
لذا على من أراد أن يتصدى لهذا النص بالقراءة والدخول في متاهته أن يتسلح بدخيرة من المعرفة المسبقة ولا يتوقع الحصول على إجابات جاهزة بقدر ما يكون مستعدا لمراكمة الأسئلة والسير بحدر في نص ما أنفك يقترح الأسئلة ويزرع علامات الأستفهام في طريق المتتبع، فالرواية كما تبدو غير معنية بتقديم الحلول بقدر ماهي معنية بنصب فخاخ الأسئلة وخلخلة المهيمن عند المتلقي المفترض، فالأسلوب لا شك سيبدو مرهقا بعض الشئ لمن تعوّد تقبل الأشياء على طبيعتها وتأويلها تأويلا ظاهريا.
1- طرائق القول
راوي مهيمن وعالم بخفايا وعلنية شخوصه هو الذي تكفل بسرد الوقائع التي وكأنها كانت قد حدثت في الماضي قبل أن يجئ من يلملم تفاصيلها من هنا وهناك ويستجلي خفاياها بأستحضار الشخصيات الشاهدة عليها أو المشاركة فيها ليسردها علينا بكل أمانة دون كثير تدخل من جانبه، ذلك أن الروائي في بناءه أختار إضاءة كل شخصية من شخصياته الرئيسية على حدة، عن طريق تخصيص فصل أو عدة صفحات لكل منها، وهكذا عنون فصوله بأسماء أبطاله ويدخل في ذلك التمثال والحديقة والعلكة وسراب الليل التي لعبت هي الأُخرى مع كونها ليست شخوص ونماذج أنسانية، دور البطولة إلى جانب الشخوص الطبيعية التي من لحم ودم.
هذا العمل برأيي تغلبت عليه فرضية البطولة المفتوحة والمتعددة أو بالأصح أنتفاء وغياب البطل الأوحد حيث تشارك كل من، العاشق الموله مختار، وفاطمة الطامحة للغنى، ورحمة الزوجة المهجورة ذات الأصول التركية والأفندي عمر المخلص للملكية والخارج من السجن وأساتذة الأقتصاد والفلسفة والأثار العائدون إلى الوطن بعد الدراسة في الخارج – مع ملاحظة أن الروائي بأعتباره مهتم بالتاريخ والأثار والأسطورة في ليبيا ألقى بظلاله على شخصية هذا الأخير – أي عالم الأثار – والعلكة والحديقة والتمثال، أدوار البطولة، بحيث لا نستطيع أن ننسب البطولة إلى شخصية محددة رغم أن الروائي كان قد عنون بعض فصوله بكلمتي البطل والبطلة في تناوله لشخصيات فاطمة ومختار وتلميحات الراوي العليم لهما غلى أنهما البطل والبطلة في أكثر من مناسبة.
واخضع الكاتب شخصياته لتشريح نفسي قاسي، وغاص عميقا في دواخلها كي يستجلي حالاتها المتغيرة في الفرح كما في الحزن في الحب وفي الكره في اليسر وفي العسر وقت خمود وفوران الشهوة، حتى أننا كمتابعين صرنا نعرف عن دواخل كل نموذج أكثر مما نعرف عن هيئته وشكله الخارجي وحيث الوصف الذي كان مختصرا مقتضبا في هذا الجانب عاد وأسهب أو أستفاض وتم تعويضه بالتشريح النفسي، في وقت أطّرت فيه مفردة العطش بكل دلالاتها الواقعية.
2
والمجازية سلوك كل الشخصيات تقريبا، العطش إلى المال إلى السلطة إلى الحب إلى الحرية ولتظل أحلامها تراود السراب \ سراب الليل، ذلك الأزرق الخافت كدخان خفي يظهر ويختفي كل مرة كمن ينتظر قبلة لا تجئ.
تحركت الشخصيات كل في عالمها المستقل مع بعض التقاطعات على مستوى شخصية فاطمة التي تفاعلت مع الكل ففي حين أحب مختار فاطمة وهو لايعرف بعد ذلك أنها صارت عشيقة والده ومات الوالد مصعوقا بجمال فاطمة وتحت أقدامها وهو لا يعلم أنها سارقة لب أبنه ومدشنة رحلته في حديقة التيه، ولم تعرف رحمة والدة مختار حين جاءتها فاطمة تسعى عارضة عليها مشروع الزواج من أبنها واعتبرتها مجرد طامعة في الإرث وأتهمتها بالكذب فيما يخص عشيقها لمختار لم تعرف أنها كانت عشيقة لزوجها الراحل ولم تتفاعل شخصية رحمة مع شخصيتي أبنها وزوجها إلا في زمن سابق لزمن الرواية.
إلى هذا الحد يتشابك السرد وتتداخل الأحداث في بعضها البعض والقارئ مطالب بتفكيك كل هذه العلائق التي انشأها الروائي وصولا إلى تسلسلها وتتابعها وربطها ببعضها… هنا وعبر السرد المندفع نحن بإزاء بناء روائي يتداخل فيه بطريقة معقدة الواقعي بالأسطوري بالتاريخي ويمتزج البغض بالشهوة بالحب بالطموح بالألم بالحرمان… كما مارس الروائي في نصه نوعا من التقشف على مستوى الوصف لصالح السرد الذي ظل يتدفق بوتيرة متصاعدة حتى النهاية، في حين غاب تقريبا الحوار بأستثناء بعض الحوارات المقتضبة التي أندغمت في السياق العام للنص الذي لامس بلغته المتماسكة، الشعر في جوانب عديدة بمجازه العالي وبصوره التي ساقها.
وأطّر النص فترة زمنية امتدت من السبعينيات وحتى التسعينيات او مابعدها بقليل بحسب أجتهاداتنا، حيث أن المؤلف لم يشير إلى ذلك صراحة، ولئن تم التركيز على هذه الفترة وإتخاذها كبؤرة زمنية إلا أن السرد لم يتقيد بها حين توغل عميقا في الماضي وسافر قصيا بدءا بالوقت الحالي- زمن الرواية – ورجوعا إلى العهد الملكي والإدارة البريطانية وقبل ذلك الأحتلال الإيطالي والوجود العثماني في ليبيا او طرابلس تحديدا حيث منحنا ما يشبه النبذة التاريخية الضافية على الحديقة والتمثال، إضافة إلى التطرق لماضي الشخصيات سواء كانت رئيسية أو ثانوية كالباشوات وبعض الجنود والمغنية المنحدرة من أصول فزانية وغيرهم.
3
أما أمكنة الرواية فهي تقريبا لا تغادر طرابلس وإن غادرتها فأنها سرعان ما تعود إليها، وبالتحديد داخل مركزها مثل السرايا الحمراء وساحتها المعروفة والحديقة المتكئة على شارع أدريان بيلث أو البلدية اليوم وعين زارة حيث تقع مزرعة الأفندي عمر وشارع بن عاشور حيث تقيم الزوجة المهجورة والأرملة فيما بعد رحمة زوجة الأفندي عمر والدة مختار الذي صار معلم من معالم الحديقة، وباكتشاف مختار أنه ولمدة عشر سنوات كان يجري وراء السراب وحين صار المنال قاب قوسين أو أدنى من يديه تخلى عن كل شئ وذهب دون أن يلتفت وراءه إلى حياته الجديدة.
________________________________
نشر بموقع ليبيا المستقبل