ميَّادة مهنَّا سليمان (كاتبة وشاعرة سُـوريَّة)
مُهديًا مجمُوعته القصصيَّة إلى وطنه الحبيب ليبيا، يبتدئُ الكاتبُ قصصهُ الّتي كان الحدثُ البارزُ فيها الغُـربة، بمعنَييها: غُـربةُ الجسد، وغُـربةُ الرُّوح.
ففي مُقـدِّمة المجمُوعة يقُـولُ:
”إنَّهَا مُحَاوَلاَتٌ قصصيَّةٌ تَحْتَفِي بالغُـرْبَةِ، بل تتخذُ منها عُنواناً عريضاً لها، تتسللُ تلك الغُربة بين ثنايا هذه المجمُوعة، وأجدُني دُون أن أشعُـر أكتُبُ بقلمٍ يتلمَّسُ ملامح الغُربة في كُلِّ شيءٍ، يُلاحقُها بنهمٍ بالغٍ، يتربَّصُ بها الدَّوائر، ثمَّ يسكُبُها بتُؤدةٍ أحيانا، ودُفعةً واحـدةً عـلى عـجـلٍ أحْيَاناً أخْـرَى فِي قَـوَالبَ سَـرْدِيَّةٍ مُنوَّعـةٍ.”
* هذه الغُـرْبَةُ الَّتِي كانت تُؤجِّجُ كتاباتِ الشّعـراءِ والأُدباءِ، وشغلتِ المُحلِّلينَ النَّفْسيّينَ، وتمازجَت بألـوانِ الفنَّانينَ.
إنّها الانفصالُ، وعدمُ الانتماءِ، بل هي وعي الفرد بالصّراعات الدّاخليّةِ بينَهُ، وبينَ البيئة المحيطة به، فيعبّر عنها بأشكال شتّى كالقلقِ، والعزلةِ، والضّياع، والوحدة، والنّقمة، واللامبالاة، ورفض القيم والمعايير الاجتماعيّة، وانعدام الثّقة بالنّفس.
*وللغربة أنواعٌ عديدةٌ، وقد أوردها الكاتبُ كُلُّها في مُعظم قصصه، ومنها: الغُـربةُ الذَّاتيَّةُ، الّتي يرى فروم وهورناي بأنَّها تُشيرُ إلى: ”أنَّ الفرد لم يعُدْ يملكُ زمام ذاته (انسياقه وراء أفعاله)، بنزوحٍ نفسيٍّ داخل مَواطِن نفس الفرد، لكنَّهُ نُزُوحٌ لا يتحدَّدُ بوقتٍ أو مكانٍ، يُؤدِّي إلى جهل الشَّخْصِ لذاته الواقعيَّة)، تُصاحبُها أعراضُ الانعزال والتَّمرُّد والرَّفْضِ والانسحاب والخُضُوعِ.”
وأمثلةُ ذلك من مجمُوعـتـه:
(رحيل، طيف، فرار، انتشاء، القلب الذّهبيّ، غربة الرّوح، ضجيج الصّمت، لعنة الكلمات، أطلال، متاهات التّشظيّ، مشوار العمر، انتقام)، وفيها يقُولُ على لسان البطل العاشق المُفتقد لمحبُوبته، والّتي يعيشُ حياة الضَّياع في غيابها:
”يرحلُ عبر نافذة الحُلُم إلى عَيْنَيْهَا، يتشبَّثُ رُغْمًا عنهُ بما تبقَّى منْ ضحكاتِها، يشتاقُ إلى كلماتِها الدَّافِئَـة..”
ثم يكمل أيضًا على لسان الشّخصيّة ذاتها:
“سافر دون وجهة بحثًا عن شريان قلبه الضّائع، تجوّل في الشّوارع والأزقّة المعتمة… استمرّ يبحث عنها بكلّ ما تبقى لديه من أحلام”
*وللغربة الاجتماعيّة وجود أيضًا في قصصه، هذه الغربة الاجتماعيّة الّتي يعرّفها الدّكتور محمود رجب: “هي شعور بالفتور والجفاء والوحدة والانفصال، وقطع العلائق الاجتماعيّة؛ أي غياب المودّة والألفة والتّعاطف والمُشاركة والمحبّة، بين الذّات والآخر.”
ومثل هذه الغربة نلمحها في عدّة قصص للكاتب منها: (خربشات صبيانيّة، نهاية الحكاية، أقنعة، المحفظة، طيف المحبوبة، فزع الكوابيس، ذاكرة، تحايل، لقاء)..
وفي قصّة( شواطئ الغُــربة) تتماهى الغربتان الذّاتيّة والاجتماعيّة، فالغربة الاجتماعيّة نجدها حين يوردُ حوارًا بين الزّوجة، وبين زوجها المغترب عن عائلته، وعن نفسه تقول له:
– إلى متى لا تبالي بتعبي، وتتجاهله بدم بارد؟”.
ثمّ نجد الغربة الذّاتيّة في قولِه:
“كفاكَ طرقًا لأبواب الماضي”.
تعُــودُ مـلامحُ الغُـربة الاجتماعيَّة للظُّهُــور في ختام القصَّة:
”تذكَّر طفلَيه اللذين عبق أريج حبّهما في قلبه فجأة كزهرتين تفتحتا لتوّهما في خربة عتيقة ملطّخة بلون الرّماد… ابتسم ثمَ غادر إلى هناك حيث لا تعبث أمواج التّشظّي بقوارب الكادحين”.
* أمّا عن الغربة الاقتصاديّة والّتي يرى كارل ماركس أنّها: ”عجزُ الإنسان أمام قوى الطَّبيعة والمُجتمع، إذْ أنَّ هذا العمل لم يعُـدْ يعكسُ شخصيَّة المَـرْءِ واهتماماته، بل غدا في خدمة الآخـر، وتحت سيطرتــه.”
ونجد أمثلةً عليها في قصص الكاتب:
(هجــرةٌ، هُـرُوبٌ، طوابيرٌ، فــرارٌ، دُرُوسٌ، زخَّـــاتٌ)..
يقُولُ في قصَّة (هجـرة) مُوضّحًا وطأة العامل الاقتصاديّ على بطل القصّة:
”اتّصل بصديق له ليساعده.. دفع له مبلغًا من المال”. وتتجلّى أيضًا في القصّة ذاتِها الغــربة السّياسيّة: يقول متحدّثًا عن بطل قصّته ذاتها: “كانت عيناهُ ترنُو إلى الوطن الجريح، وتتلهَّفُ نفسُهُ للعودة إليه رغم كبر المحنة الّتي أصابته.”
وفي موضع آخر: “إذا فارقتُ الحياةَ، أخبِر أبي أنّني أحبّه، وأنّ الوطن سيعُــودُ يومًا”.
*ثمّ في قصص أخرى نجد الكاتب يجسّد لنا فِكرَ (فوير باخ) حين حصر الاغتراب “بالوعي الدّينيّ والفلسفيّ والتّأمّليّ، إذ أصبح الدّين جوهر كلّ نظام سياسيّ.” لكنّ باخ يعتبر أنّ الإنسان ليس في حاجةٍ إلى شريعة دينيّة بل إلى “شريعة دولة فعليّة إنسانيّة”.
وهذا ما نجده في قصّة الكاتب (لعنة الكلمات) ففي الوقت الّذي كان أفراد القبيلة يشتكون من ظلم زعيمهم، الأمر الّذي دفع أحدهم لاغتياله- ظنًّا منه بأنّ الخلاص من الظّلم والفساد تمّ على يديه- نجد أنّ جميع أفراد القبيلة اغتربوا عن ذواتهم، وعن الآخرين فعمّت الفوضى:
“كان كبير القبيلة (الّذي يخافُهُ الجميعُ) ..يبحثُ عنْ فـرائسه الشَّاردة من النَّاس والأنعام، ودائمًا كان يعُــودُ بكثيرٍ منها، وقد خلَّف وراءهُ أكوامًا من الدُّمُوع والآهات والغُصص، ودعـوات الانتقـــام”.
ونرى الخاتمة بعد مقتل الزّعيم الظّالم، وضياع هيبة القبيلة:
“غربت شمس الكبرياء والأنفة.. لكنَّ جيلاً جديدًا من أبناء القبيلة ينتظر بيقين قاطع أن تشرق شمسنا من جديد.”
أمَّا عن قصصه: (ذاكرة، سؤال، ضجيج الصّمت، ندم).. فهي خيرُ تجسيدٍ لمقُـولة سارتر الّتي اعتبر فيها الاغتراب عن الذّات انعدامًا لحُرِّيَّة الإنسان، يقُولُ الكاتب في قصَّة (ذاكرة):
” أصبح يعيشُ بلا دفءٍ، ولا مَـــاضٍ… اغترابٌ عنْ كُــلِّ شَيْءٍ، ورحيلٌ قسريٌّ لذكرياتٍ مَضَت بِلاَ عَـــوْدَةٍ.”
* لُغــةُ الكَاتِـب:
*أمَّا لُغةُ الكاتب فكانت جميلةً، مالت إلى الشّاعـريّة أحيانًا، كما في قصّة: (انتظــــار):
“القمرُ يُشِعُّ بنُوره على الكَوْنِ، ويمنعُ الغُيُوم قاتمة السَّـواد أنْ تحجب ضوئهُ عن عيُون الحالمين والبائسين والعاشقين، الحديقةُ تخلُدُ إلى النَّوم، والليلُ يجلسُ على ناصية الطَّريق..”
كما اتّسمت بالدّقّة في الوصف كما في قصّة: (خربشات صبيانيّة):
”مُنهمكةٌ طيلة الوقت بالنَّظَرِ في مرآتها الصَّغِيرَةِ، حقيبتُها الرَّماديَّةُ الجديدةُ تنُوءُ بما تحملُ…الفصلُ في حالةٍ يُرثى لها…الصّبيانُ يتراشقُون ببقايا الورق المُمزّق وقُشُور البُرتقال..”
كما ابتعد الكاتب عن الإسهاب والتّكرار، وانتقى كلمات مأنوسة كما في قصّة: (انتشـــاء):
” ألقى الصّور من يده، وشرع في بُكاءٍ طويلٍ كطفلٍ يتغنَّجُ على أُمِّه لتُعطيه قطعة حلوى”.
واختار في قصّة (طوابير) جُزْءًا من حِـوَارٍ باللهجة الليبيَّة، رُبَّما لأنَّ مثل هكذا قصَّة تتحدَّثُ عـن طبقاتٍ اجتماعيَّةٍ مسحُوقةٍ يلزمُها حــوارٌ قـريبٌ منْ حيــاة العـــامَّـــة:
“- كيف تبيني انبات هنا؟.
– صقع عليك، جينا بعد صلاة الفجر…”
* موضُــوعــاتُ المجمُـوعـــة:
رغم أنَّ العُنوان العريض للمجمُوعة هُـــو: (الغُــرْبَةُ)، إلاَّ أنَّ الكاتب نَوَّعَ في الموضُوعات الَّتِي طَرَحَهَا، فنجـــدُ:
(الحُبَّ، خيبة الأمل، التّسامُح، الظُّلْم، الفقر، الذِّكريات، العُـقُوق، الحرمـــان، ضُغُوطات الحياة، ومَتَاعِبِهَـــــا)..
* كما نجــدُ في المجمُــوعة بعض القصص الرَّمْــزِيَّة:
كقصّة: (ضجيج الصّمت):
“قال السّرابُ للصّمت: “إنّكَ مِن ذَهَبٍ.”
أجاب الصّمت بهُـــــدُوءٍ مُصطنعٍ:
وهل يتجاهلُ النَّاسُ الذَّهَبَ، ويُقْصُونهُ في زاويةٍ مُهمَلَةٍ؟.”
وقصَّةُ (نــــدم):
سَأَلتْ نَبْتَةُ الزَّعْتَرِ شَجَرَةَ الكَرَزِ بِعَفَوِيَّةٍ: هَلْ يُرِيدُ هَؤُلاَءِ لَنَا الخَيْرَ أو السَّلاَمَ؟ أَمْ أَنَّ نَوْمَنَا فِي هُدُوءٍ يُزْعِجُهُمْ؟، أجَابَتْ شَجَرَةُ الكَرَزِ بِصَوْتٍ خَافِتٍ: اسْأَلِي تلك الدَّبَّابَةَ القَابِعَةَ هُنَاكَ عِنْدَ سَفْحِ الجَبَلِ… حَمْلَقَتِ الدَّبَّابَةُ فِي شَجَرَةِ الكَرَزِ بِشَزَرٍ وَاضِحٍ، ثُمَّ أَطْلَقَتْ قَذِيفَتَهَا المُثَرْثِرَةَ لِتُجِيبَ عَنِ السُّؤَالِ بِطَرِيقَتِهَا الخّاصَّةِ، تّحَوَّلَ الحَقْلُ إلى أشلاءَ مُمَزَّقَةٍ مِنَ الفُرُوعِ وَالأَغْصَانِ المَحْرُومَةِ مِنَ الحَيَاةِ وَالأَمَلِ وَالتُّرَابِ، عَرَفَتْ نَبْتَةُ الزَّعْتَرِ الإِجَابَةَ لَكِنَّهَا حَتْماً نَدِمَتْ عَلَى ذَاكَ السُّؤَالِ اللعِينِ!.
* مُــلاحظـــاتٌ:
فقط أحببتُ التَّنْوِيهَ إلى وُجُـــود بَعْـضَ الأخْطَـــاءِ الإِمْلاَئِيَّةِ:
(شُطئان، المُؤنة، حظَرَ، ورائَهُ، لا يختبِأُ.(
والصَّــــــوَابُ:
)شُطْـــآنُ، المـــؤونة، حَضَرَ، وراءَهُ، لا يختبِئُ)..
ووردت كلمتان خاطئتان لُغــويًّا هُمـــــا:
(حنايا)، والصَّــــوابُ:
أحنـــاء صدره، والأحناءُ: هي أضلاعُ الصَّــدْرِ، مُفْرَدُهَــــا: حِنْو.
و(صُدفة)، والصّوابُ: مُصادفةً؛ لأنَّ الصُّدفة من الصُّدُوف: الإعراضُ والانصرافُ عَنِ الشَّيْءِ.
قَـالَ تَعَالَى: ﴿سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَـذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ﴾ [الأنعام: ١٥٧]. أيْ: يُعْـــرِضُـــونَ.
*يُذْكَــرُ أَنّ المجمُوعة القصصيَّة: (شـــواطئُ الغُـــربة) صادرةٌ عام 2019م، وقد قدّم لها الأديبُ الليبيُّ/ سالم عليّ العبَّار، وتضمَّنَتْ لوْحَاتٍ فنِّيَّةٍ للفنَّان التّشكيليِّ الليبيِّ الدّكتور معتُوق أبو راوي.
أمّا المُؤلّف: خـالـد خميـس السَّحـــاتي فهُــو:
* من مواليـد مدينة بنغــــازي/ ليبيـا.
* كــاتـبٌ وبـاحـثٌ وقـــاصٌّ ليـبيٌّ.
* يكتُبُ: المقالة الأدبية والثقافية والسياسية- القصَّة القَصِيرَة- الأقُصُوصَة.
والدّراسـات الثّقافيّة والفكريّة والسّيـاسيـّة- الحــــــوار الصَّحـفيُّ.
* عضو هيئة التّدريس في كليّة الاقتصاد جامعة بنغــازي/ ليبيا.
* شارك في عددٍ من المُؤتمرات والمُلتقيات العلميَّة والثقافيَّة والأدبيَّة في عددٍ من الدُّول العربيَّة.
* خِـتـَــامـــاً: تحيَّـــاتي للكــاتب، وتمنِّيـــاتي لهُ بالمزيد من الألق والإبـــداع.