المقالة

الزيارة الأولى.. إلى طرابلس الليبية

عمرو الشوبكي

اندبندنت عربية

مدينة طرابلس
مدينة طرابلس (الصورة عن الشبكة).

هي المرة الأولى التي أزور فيها ليبيا، رغم الجيرة وعلاقات النسب والتاريخ، فقد وصلت يوم السبت، وغادرتها يوم الثلاثاء الماضي، وذلك لحضور مؤتمر في ذكرى اليوم العالمي لحرية الصحافة، رعاه رئيس حكومة الوحدة الوطنية، عبدالحميد دبيبة، الذي شارك بكلمة إيجابية، عبّر فيها عن إيمانه بحرية الصحافة، رغم التحديات الكبيرة التي تواجه المسار الانتقالي.

واعتدت أن يُحفر في ذهني انطباع الزيارة الأولى لبلدان ومدن كثيرة زرتها، فمازلت أذكر انطباعي في 1997 وأنا ذاهب من فرنسا لزيارة ألمانيا، أول مرة، بالقطار، وفى السنة السابقة ذهبت إلى لندن، ودوّنت انطباعات، بعضها تغيّر، وبعضها ترسخ عن هذا النموذج المنافس للبلد، الذي درست فيه دراستي العليا، (أي فرنسا)، ونفس الأمر ينطبق على بلاد المغرب العربي، التي زرتها عشرات المرات، ما عدا ليبيا.

حين وصلت إلى مطار طرابلس، بصحبة كل من الصحفي البارز في متابعة الملف الليبي في صحيفة الشرق الأوسط، جمال جوهر، وزميلنا في مركز الأهرام، كامل عبدالله، والإعلامي علاء فاروق، تفاعل الناس معنا بعفوية وطيبة ومحبة كبيرة، وسمعنا منهم كلمة «باشا»، على سبيل المجاملة، أكثر ربما مما نسمعها في مصر.

وقد قدمنا لموظفي المطار الدعوة التي معنا من رئيس الحكومة، وشعرنا أنه ليس لها وزن كبير في تسهيل أمورنا، التي تمت بالإيقاع العادي، وكأن كل موظف في المطار هو رئيس حكومة بذاته، حتى وصل موظف المراسم لاستقبالنا متأخرًا حوالي الساعة، واصطحبنا إلى الفندق، ووصلنا قبل الإفطار بدقائق، (في السابعة وخمس وأربعين دقيقة).

واللافت أنى أرسلت إلى بعض الأصدقاء الليبيين وأنا في الطائرة أقول لهم إني متجه إلى طرابلس، ولم تكن عندهم أي مشكلة في أن يقابلوني طوال الأيام الثلاثة للزيارة لأن فعلًا إيقاع البلد وحجم التزامات الناس اليومية هادئان، ولا يُقارنان بطاحونة القاهرة.

تجولت في المدينة القديمة، وزرت «السرايا الحمراء»، وشاهدت الشرفة التي تحدث منها «القذافى»، وقال خطابه الشهير: «مَن أنتم؟!»، وأيضا السوق الشعبية القديمة، وهي منطقة ملاصقة لميدان الشهداء الشهير في طرابلس.

الناس في ليبيا يتعاملون بفطرة وطيبة وتلقائية وود يسعدك، ولا تشعر للحظة بالغربة، ويزداد فيض هذه المشاعر إذا عرفوا أنك مصري، رغم بعض العتب أحيانًا.

في طرابلس، كما في كل ليبيا، غير مقبول المجاهرة بالإفطار، وكل المقاهي والمطاعم مغلقة بشكل كامل قبل الإفطار، وحتى في الفندق الذي نزلنا فيه (كورنثيا أو باب إفريقيا) اشتكى زميلنا، الإعلامي اللبناني، ريكاردو كرم، من أنه لم يستطع أن يشرب قهوة داخل غرفته قبل الإفطار.

يوم الأحد، اصطحبن فاضل الأمين، وهو أحد السياسيين البارزين في ليبيا، لزيارة المجلس الوطني للتطوير الاقتصادي والاجتماعي، الذي هو مديره العام، واللافت أن هذا المجلس تأسس عام 2007 ليكون قاطرة لإعادة هيكلة وبناء الدولة الليبية، وذكر لي أنه حين عرض خبراء المجلس على «القذافي» أفكارًا لإصلاح المؤسسات الليبية، فقال: هي تعمل منذ 40 عامًا، ولم يشتكِ أحد، فلماذا نطور ونغير؟!، ولو كان هذا التطوير قد حدث ربما ما حدثت الثورة الليبية ودخلت البلاد في هذا النفق الصعب من التفكك والاقتتال الأهلي.

وقد قابلت عددًا من العاملين والخبراء في المجلس، ومنهم خالد المبروك، أحد أبزر الخبراء الأمنيين في ليبيا، وتحدثنا في أمور كثيرة، وأسهب الرجل في الكلام بحب واحترام شديدين عن الراحل عمر سليمان، وكيف تعلم أشياء كثيرة أثناء وجوده في تسعينيات القرن الماضي في أرض الكنانة.

وفى مساء يوم الأحد، دعاني أحد السياسيين الليبيين إلى منزله، وهو خالد الغويل، الذي سبق أن زارني في 2019، في مكتبي بـ«الأهرام»، وهو أحد الذين ترشحوا على منصب رئيس الوزراء، ولم يُوفَّقوا، وحضر اللقاء أيضًا د. رمضان السنوسى، أستاذ علم الاجتماع السياسي البارز، وأيضًا فاضل الأمين، واقترحوا ضرورة عقد ورشة عمل فكرية وسياسية في القاهرة، تضم خبراء وباحثين وفاعلين سياسيين من مختلف أطياف المشهد السياسي الليبي، وهى الفكرة التي سبق أن تحمسنا لها جميعًا، في لقاء بالقاهرة، وتعطلت بسبب كورونا.

وجاء يوم الاثنين، وذهبنا إلى فندق «المهارى» لحضور المؤتمر، وكانت الكلمة الافتتاحية لوزير الاتصال السياسي، الذي نظم أعمال المؤتمر، ثم كلمة رئيس الوزراء، راعى المؤتمر، ثم أربعة متحدثين من خارج ليبيا، منهم كاتب هذه السطور، ثم مثلهم من ليبيا.

وتحدثت عن القواعد المهنية، التي يجب أن تنظم عمل الصحافة والإعلام، وهو أمر يتطلب وجود مؤسسات قوية لتنظيم الإعلام لا لفرض قيود عليه، وأن الوضع في ليبيا مشكلته أن المؤسسات ضعيفة، ومنقسمة، وبالتالي سيصبح التحدي مزدوجًا: تنظيم الإعلام وبناء المؤسسات.

وبعد أن أنهيت كلمتي وعدت إلى مكاني، وجدت بجواري سيدة وقورة وبسيطة، بادرت وشكرتني على الكلمة، ثم قالت لي أنا فاطمة حجيج، صاحبة دار نشر في طرابلس، وأستاذي هو إبراهيم المعلم، وأوصتني بأن أرسل إليه السلام الحار، وتكلمت عن خبرتها في مصر بشكل ملئ بمشاعر الحب والتقدير.

وحالة «الست فاطمة»، مثل كثيرين قابلتهم في ليبيا، حملوا نفس هذا الارتباط بمؤسسة أو بجامعة أو بأشخاص في مصر، وهو أمر ربما لم أجده بنفس القدر في أي بلد عربي آخر زرته.

انتهى المؤتمر يوم الاثنين، وودّعنا موظف الاستقبال، الذي ذهب متطوعًا ليُحضر لنا سيارة أجرة، (بعد أن تأخرت أيضًا سيارات المراسم)، وهو يودعنا قائلًا: «تحياتي لشعب مصر العظيم». (لا يحتاج أن يقول لنا ذلك إلا لو كانت هذه هي مشاعره الحقيقية)، وذهبنا إلى المطار، وأنهينا إجراءات السفر والوصول، وعدنا إلى بيوتنا في مصر على الإفطار.

من المؤكد أن ليبيا في مرحلة تحول حقيقي، ويتشكل فيها الجديد بصعوبات بالغة نتيجة التعقيدات الداخلية والإقليمية، وأن مصر تمتلك إرثًا كبيرًا وأدوات ناعمة للتأثير أكبر بكثير من تركيا، ولكن للأسف مازال الكثير منها مُعطَّلًا.

المطلوب فتح قنوات حقيقية بين النخب والشعوب، وتقديم رواية سياسية مصرية لا تكتفى فقط بالحرب على الإرهاب وإعادة بناء الدولة الوطنية، إنما يجب أن تُضاف إليهما أفكار تتعلق بالتأثير في المسار السياسي الانتقالي والإسهام في نجاحه وبناء مؤسساته وحصار الميليشيات، التي مازالت حاضرة بقوة في طرابلس، بعيدًا عن أي هيمنة أو شعارات من نوع «دول تبعنا»، التي يرددها بعض الإعلاميين في مصر، والتي تضر أكبر الضرر بصورة مصر.

كما أنه مطلوب أيضًا تنظيم ذهاب العمالة المصرية إلى ليبيا حتى لا تتكرر أخطاء الماضي، فأمر جيد أن يُجرى رئيس الحكومة اتفاقات مع نظيره الليبي، ومنها مشروعات كهرباء ورصف طرق وغيرها، وهنا يجب أن يكون قدوم العمالة المصرية مرتبطًا أساسًا بهذه المشروعات لأن التنافس مع الدول الأخرى، وخاصة تركيا، سيكون في جانب منه حول الصورة الذهنية عن كل بلد، والعمالة أحد جوانبها، خاصة أن العمالة التركية تعمل فقط داخل المشروعات التي تقوم بها الشركات التركية.

مصر وليبيا لديهما فرص كبيرة للتعاون والنجاح في الفترة القادمة، ستكون متوقفة على قدرة مصر على توظيف قوتها الناعمة وأدواتها السياسية والاقتصادية من أجل شراكة حقيقية يستفيد منها الشعبان.

عمرو الشوبكي

اندبندنت عربية، الأحد 9 مايو 2021

مقالات ذات علاقة

صوّر يا صوّار!

سعاد سالم

حبيب الجميع وداعاً

خالد السحاتي

التليسي والأعرابي

بدرالدين المختار

اترك تعليق