حوارات

فتحية الجديدي: الصحفي الليبي لازال متقوقعًا تحت سطوة المؤسسة!

حاورها / مهنّد سليمان

الكاتبة الصحفية فتحية الجديدي (الصورة: سالم أبوديب)

تثبت الصحافة الجادة عقدًا تلو عقد أنها صناعة قوامها الحرفية والإنضباط المتزن فهي مرآةً عاكسة لكل ما يدور في حياة الإنسان من إشكاليات واضطرابات ليتحول فيها قلم الصحفي على بلاطها إلى إزميل يحفر وينقش وينحت بأمانة بما يمليه عليه ضميره المهني، وإن غابت أو توارت هذه الشروط المعيارية استحالت الصحافة إلى دكاكين تجارية تخضع لقوانين العرض والطلب والابتزاز الرخيص، ولاريب بأن أحوال صحافتنا الليبية لازالت تمر بمحطات متعثرة ومحاولات تهجين متوارثة تمارسها عليها الأنظمة السياسية المتعاقبة مما يتعسّر فيها في كل مرة عن ميلاد مؤسسة صحافية جادة وحقيقية تُراعي شرف المهنة وأدبياتها، وهذا لا ينفي أن التجربة الصحفية في بلادنا قد أنجبت من رحمها أقلامًا رفعت صوت الحق ودفعت في سبيل ذلك أثمانًا باهظة، وإزاء هذا التخبط اهتزت لدى المتلقي والقارئ ثقته فيما ينشر لينصرف منذ زمن عن مواكبة ما تروّج له الصحافة المقروءة وعزف بصورة كبيرة عن اقتناء الصحف اليومية اللهم إلا إذا ما استعاض بها في استخداماته الأخرى كمسح وتنظيف الزجاج لاسيّما في ظل التأثير الهائل الذي فجّرته الثورة المعلوماتية خلال العقدين الأخيرين.

وحول ما يؤرق الصحفي الليبي والواقع المتأزم الذي تعيشه الصحافة الليبية بصورة عامة التقينا بالصحفية الدؤوبة فتحية حسن الجديدي مديرة تحرير صحيفة الصباح اليومية الحاصلة على بكالوريوس في العلوم التطبيقية من جامعة طرابلس عام 1996م فهي تلمّست أولى خطواتها  في دنيا صاحبة الجلالة مع مطلع عام 1997م، تملك رصيدًا ثريًا في العمل الصحفي من خلال نشرها لباقة كبيرة من الاستطلاعات والتحقيقات والمقالات الأسبوعية في شتى الموضوعات، تولت الإشراف على عدة صفحات منها صفحة المرأة والصفحة المحلية الأسبوعية بصحيفة (الجماهيرية سابقًا)، كان لها دور فاعل في التغطيات الإعلامية الخاصة بالمؤتمرات والندوات العلمية والوزارية، عملت في صحف مختلفة منها (الجماهيرية) (ليبيا الإخبارية) و(فبراير) ورأست إدارة تحرير صحيفة(المشهد الحر) بين عاميّ 2012 و2013م، كُرِّمت من قبل عدة جهات حيث حصلت على جائزة أفضل استطلاع صحفي لعام 2002 من المركز الثقافي الشبابي حيّ الأندلس وتكريمين من منتدى بشير السعداوي الثقافي وراديو الساعة، كما أن لديها عدة مشاركات دولية مختلفة، وفي هذا الحوار تُفضي لنا الصحفية فتحية الجديدي برؤيتها لواقع حال الصحافة الليبية جذور الأزمة وأسبابها.  

عُرف العمل في بلاط صاحبة الجلالة بالمتاعب ما حجم المعوِّقات التي لازال يتعرض لها الصحفي الليبي اليوم ؟

الصحفي اليوم يتعرض لضغوطات كبيرة وهي المعوق الأكبر أمام انطلاقه كصحفي دولي أو عالمي، إذا نظرنا للتجارب الدولية في هذا المجال نلاحظ بأن الصحفي الليبي لازال متقوقعا تحت سطوة المؤسسة التي تحد من إمكانياته ومهاراته وكفاءته، بالدليل عندما نلتقي مع صحفيين غير محليين نعلم بأنهم نجوم في بلادهم وخارجها وهناك العديد من الأسماء الصحفيين العرب صنعتهم صحافتهم وليس مؤسساتهم

بالإضافة أن البيئة المحلية لم تساعد الصحفي أن يكون صاحب قلم حر وجريء نتيجة لعدة ظروف وأهمها الأمنية، بالرغم من وجود أقلام صحفية مؤثرة،

المتاعب لا تكمن في أثناء ممارستنا للعمل الصحفي فقط، بل في عملنا اليومي وعلاقتنا بالمنظومة الصحفية بشكل عام

نحن لاز النا نخضع لعقلية المسؤول إلى غاية الآن وتدخله ليس من منطلق الشراكة في الصناعة بل الوصاية التي اعتبرها من الأشياء الخاطئة بالعمل الصحفي باعتبار أن الصحافة صناعة.

 في أعقاب ما شهدته ليبيا من تغيير سياسي عام 2011م لمسنا هامش ما لحرية الصحافة في الحِراك الإعلامي الليبي، ما تقييمك اليوم لواقع حرية التعبير في ليبيا؟

حرية التعبير لا تعني حرية الصحافة، باعتبار حر الرأي تعود لأصحابها في حق التعبير وإبداء الرأي كالكتّاب والأدباء والمثقفين وأصحاب وجهات النظر، أما حرية الصحافة هي العمل بمهنية وفق اشتراطات ومعايير مهنية تخضع المادة الصحفية للصناعة  لهذه المعايير وذلك في تقديم حقائق واخبار ومعلومات تتحرى فيها الدقة والمصداقية والوضوح  والاستقاء من مصادرها بعيدا عن الفبركة والزيف والتضليل، وأن تكون صحافة غير مقيدة بجهات معينة كي لا تتأثر بها وتؤثر في خطابها وأن تخضع المادة الإعلامية لقوانين النشر وفق الشروط المتعارف عليها الموجودة بقانون المطبوعات لسنة 1972والذي لازال ساري العمل به بعد 2011

تغيرت ملامح الصحافة الليبية بتغير نظام الدولة باعتبارها تعكس سياسة المجتمع وتتأثر بالخطاب المجتمعي بشكله الجديد، لكن الصحافة لم تقدم نهضة في الفكر في مرحلة كان المجتمع في أحوج لها للدفاع عن الحريات والقضايا بل سخرت _للأسف _لخدمة أطراف لمرحلة من الزمن، لأن من شروط الصحافة  أن تلتزم بالمعايير واخلاقيات المهنة رغم خروج العديد من المطبوعات الخاصة ومشاريع إعلامية متعددة لكنها لم تستمر، لأن كان هدفها مادي فقط والداعمين لهذه المشاريع كانوا يبتغون منافعة معينة وانتهت  بانتهاء مصالحهم _بكل أسف _ والحراك الإعلامي الذي كان موجود منذ بداية التغيير استخدم لمصالح البعض واستغل فيها الصحفي، والدليل على ذلك الي غاية الآن لم يتم تكوين حتى جسم نقابي يحمي الصحفيين ويدافع عن حقوقهم.

 في تقديرك لماذا أهمل الصحفي الليبي تطوير أدواته المهنية؟

عندما يتحول الصحفي إلى مقاول سيبتعد عن تطوير نفسه وتظل ادواته محدودة في كونه يعمل من أجل لقمة العيش والاسترزاق فقط، لأنه سيبتعد عن المهنية وينجرف وراء مصلحته، باعتبار أن الصحافة (ماتوكلش عيش) ويعتبرها الصحفي محرقة، كما أن الصحفي يتأثر بمناخات متعددة من خلال عمله لا يستطيع تقديم أكثر ما يطلب منه او يكلف به، كالظروف الاقتصادية والأمنية والأوضاع الغير مستقرة في البلاد على كافة الأصعدة.

 برأيك ماهي السبل الممكنة لخروج الصحافة الليبية من تدهورها؟

عودة الصحافة إلى نفسها واحترام هذه المهنة من خلال توفير الإمكانيات للصحفي كي لا يقع في فخ المساومة وشراء الذمة وأيضا وجود غطاء مدني يحمي الصحفي ويكفل له حقوقه كاملة، كاحقه في العلاج والخدمات، ووجود لوائح تنصف الصحفيين فيما بينهم وتحقيق أكبر قدر من العدالة وضمان حقوقه المادية والمعنوية وتمتع بمميزاته الذي يتماشى مع طبيعة العمل وما تحمله من مخاطرة، التخلص من سطوة الإدارات على الصحفيين وإعطاء هامش كبير للصحفي يمكّنه من الإبداع دون سيطرة المسؤول لأن الصحفي مسؤول أيضا..

 في ظل طغيان وسائط التواصل الاجتماعي والإعلام الإلكتروني في المشهد العام، كيف ترين آفاق المستقبل للصحافة الورقية؟

لتوضيح الفرق كي لا يحصل خلط، لا يمكن اعتبار وسائل التواصل الإلكتروني صحافة لأنها منصات الإلكترونية فقط لا تحكمها قوانين الصحافة ولا تحدد مسؤوليتها، عكس الصحافة الإلكترونية التي تعد صحافة متطورة مثل الصحف الإلكترونية والبوابات والتطبيقات الصحفية المسجلة في نظام إنشاء الصحف قانونيا وتخضع لقانون العمل وفق قانون التأسيس.

أما الصحافة الورقية لها مكانها بين أجناس الصحافة الأخرى رغم نضالها في ظل اطغاء الصحافة الإلكترونية وسباقها ومنافستها الغير مقنعة واعتماد الإلكتروني على التحرير والنشر الفوري وفي الورقي النشر يكون بعد التنفيذ والإخراج والطباعة اذا استطعنا القول بأنها متساويين في التحرير، لكن الزر والمجال الإلكتروني حول الصحافة من بطيئة إلى صحافة سريعة ثم فورية من خلال تطبيقات مختلفة وصحافة التقاطع تلك التي تدخل فيها الجانب الفني مع التحريري في آن.

يمكن أن تكون الصحافة الورقية أقرب إلى الاستقصاء والوصول إلى التحقيق المستوفي الذي تفتقده الصحافة الإلكترونية والارشفة المحمية من خلال رقمنة الاصدارات اليومية وحفظها والحماية من فقدان البيانات الأرشفة في الإصدار الإلكتروني، لكن ما حققته الصحافة الإلكترونية السريعة اليوم يعتبر ثورة في الإعلام.

هل تعتقدين بأن الصحافة الورقية في العالم تلفظ أنفاسها الأخيرة؟

إذا بقيت على هذا الرتم.. نعم

لكن في العالم هناك عودة للصحافة الورقية والذي يعتبر تحديا باعتبار أن هناك علاقة بين الورق والمتلقي والرابط المعرفي والورق يحمل شغف لبعض الناس الذين ارتبطوا به ولهم علاقة قديمة معه، أحيانا أرجع المسؤولية للجيل الذي عاش وتربى على قراءة الصحف عن الجيل الذي استفاق على الدجتيل وزمن المعلوماتية الإلكترونية الذي ابتعد ربما عن المطالعة المتأنية ومجالسة الكتب.

الصحف الورقية اليوم تناضل للبقاء وسط متغيرات داهمت العقل وقضت نوعا ما على المهنية، لأن ما يقدم اليوم لا يخضع جميعه لشروط المهنة، لكنه يخضع لنسب مشاهدة قوية عكس الورقي الواقع في مطب “المرتجعات “

من خلال عملك الصحفي إلى أي مدى تعكس صحف اليوم قضايا المجتمع وهموم وتطلعات المواطن؟

إذا قلنا أن الصحافة اليوم تعكس وتنقل وتتناول قضايا وهموم المجتمع فإن مجمل القضايا لا يدخل في العمق وتقديري في هذا الموضوع يعود سببه لقلة الصحافة الاستقصائية، نحن نتناول ونسلط الضوء على أغلب القضايا المجتمعية لكننا لا نغوص في عمقها لأسباب مهنية طبعا كالنقص في الكادر الصحفي المتخصص وقلة بعض الإمكانيات وعدم وجود امتيازات للصحفي الذي تجعله أكثر حماسا واقبالا على تولي المهمة الصعبة واعتماد الخارجين الجدد على الإعلام السريع والقطاع الخاص لأنه أكثر مكسبا بالنسبة لهم، مما جعل وجود ترهل في الكادر الصحفي الموجود بالصحافة الورقية  الحكومية.

هل غياب معايير الشفافية والموضوعية ساهم في بقاء الصحافة الليبية في المنطقة الحرجة؟

نعم.. بكل أسف

غياب المهنية والسيطرة الإعلام الخاص وتدني مستوى الرواتب الشهرية للصحفيين جعلهم يبتعدون عن الشفافية في بعض الأعمال مما جعل الشكل الذي تقدم فيه الصحافة حرج وليس الصحافة في حد ذاتها، لأنها صناعة وتحتاج لمن يؤديها بإخلاص.

هناك من يقول بأن الصحافة الليبية كمؤسسة تعزوها معايير المهنية والموضوعية، هل مشروع خصخصة الصحافة حل مُجدي يُقوِّم مسارها؟ 

كانت لنا تجربة في خصخصة الصحف وتولى فريق في إنتاج صحيفة يومية تعتمد على الإعلانات والتسويق وتضمن مادر صحفي وتعمل وفق معايير المهنة لكنها توقفت بسبب عدم تفعيل بعض القوانين المتعلقة بالمطبوعات بأن ريع الإعلانات يعود للدولة طالما يتم دعمها من الهيئة، والصحف الخاصة الأخرى توقفت بسبب عدم حصولها على داعمين حقيقيين، لهذا نحتاج إلى تقوية القوانين قبل عملية الخصخصة وبناء الصحف والمطبوعات تكون على أساس الكفاءة وليس على معايير أخرى.

كلمة أخيرة…

في نهاية الحديث.. الصحافة بشكل عام تحتاج إلى منظومة قوية يكون فيها المسؤول صحفي وليس إداري وأن يكون الصحفي صحفي وليس مسؤول وألا تخلط الصلاحيات وتتبدد الجهود، والصحافة الورقية تستقي نجاحها من روح الصحفيين وأقلامهم البعيدة عن السوق، والتسليم بأن الصحافة رسالة وأمانة والايمان بالعمل من هذا المنطلق لا غير…

مقالات ذات علاقة

الباحثة اشتيوية بن محمود : نحتاج إلى دراسة ميدانية وفنية فالمشكلة معقدة !

مهند سليمان

الشاعر: محمد الفقيه صالح/ الشعر.. هوية الغموض

المشرف العام

القاص: كامل المقهور/ أستجواب الذاكرة

المشرف العام

اترك تعليق