عشرون عاماً و نصف العام ….!!؟؟؟
أن أعود بذاكرتي إلى تلك الأيام، إلى النصف الثاني من العام 2000، إلى التّماس مع العمل الصحفي مباشرة، ومجلة (البيت) عالم من النشاط والبهجة، حيث هي ركن دافئ يفيء إليها صديقات وأصدقاء، لأن هذه (البيت) تحتضن الإبداع الليبي وتحتفي برموزه، و ندوة (الصادق النيهوم) في نوفمبر 2000، ويكون اقتراح جديد لندوة تهتم بـ(الكتابة للطفل)، هي ختام العام الأول الذي دشّن دخول الألفية، والتي عبرت خلالها البشرية أشواطا في التقدم، ولكننا في (المؤسسة العامة للصحافة) وتحديدا مجلة (البيت والأمل)، كان الصراع على تنفيذ المجلتين ثم طباعتهما ثم حقوق المتعاونين الذين يزينون المجلتين بإبداعهم و أعمالهم، نعم كان (صراعا) تتقدمه (أمينة التحرير سالمة المدني)، وأشهد أني رأيتها تقف في الممر الطويل الذي نعبره للوصول إلى المجلتين، وبصوتها الجهوري الغاضب تلعن البيروقراطية الإدارية والذين لا يعرفون قيمة الإبداع ويعاملونه بإزدراء، لأنها علمت مني أن صديقا مبدعا من مدينة خارج طرابلس، وحين راجع عن مستحقات مالية كانت قد أنجزتها له، لم يجد شيئا ولولا صدفة لقائي به ربما لم يخبرنا بهذا (لدماثة خلقه وخجله)، غضبت جدا وذهبت مسرعة لتنجز الإجراء ولكن ….، هكذا وقفت غاضبة والدمع في عينيها وهي تعدد مآثر المبدعين وخاصة هذا المبدع الخلوق والذي في أحيان لا يجد ثمن تذكرة الطيران التي يجيء بها لطرابلس (تأخر الرواتب عادة الإدارة الليبية في أغلب القطاعات سابقا ولاحقا)، وحتى لو تكرموا علينا برواتبنا فإن هذه الرواتب لا تكفي حتى لتغطية شهر واحد وخاصة في عائلة.
وتطرق الذبول إلى …. جسدها
حين أعود إلى مكتبتي أو بعض الرزمات هناك وهناك، أبحث عن أعداد مجلة البيت- الأعداد التي احتضنت تلك الصحافية التي وجدت في فضاءها الرحب متسعا، ولكن أكتشف بعد مرور هذه السنوات (التي هي عمر شابة يانعة)، أن أعدادا كثيرة اختفت، ربما لأن مكتبتي متاحة لمن تحب القراءة، ولأن المجلة عادة تغري بعض الضيفات لتصفحها ثم أخذها، وطبعا سأنسى ولن أكتشف فداحة ما فعلت إلاّ في مثل هذه الكتابة التي أحاول فيها (القبض) على بعض السيرة الأدبية، كان شهر يوليو2000 (ناصر حينذاك) هو الشهر الذي ولجتْ خطواتي- البيت-، وسأعيش تجربة العمل الصحفي وألامس عن قربٍ معاناة الصحافة، في شهر يوليو والذي من الطبيعي أن يكون عدد شهر يونيو وقبله مايو قد ظهرا، ولكن اكتشفت أن عدد مارس وأبريل مازالا ينتظران في قسم التنفيذ ، وهكذا أضيفت إجابتي على سؤال ليلى النيهوم (أين أنتِ) لهذا العدد وظهرت به، وهو عدد مزدوج (3/4) والذي اكتظ بمادة ثرية ، حين تطرق جنينة السوكني باب (البيت الثقافي) بهتاف – رحلتها إلى السمو – عن كتاب المبدعة شريفة القيادي (رحلة القلم للنسائي الليبي)، هذا الكتاب الذي (أماط اللثام وأزاح الستار عن صورة ناطقة لقلب يتدفق حيوية ..حبا ..وعطاء)؛ إذاً ها أنا وبين يديّ من اعداد عام 2000م، هي العدد (3-4)- الثالت والرابع- من السنة السادسة والثلاثين، العدد السابع – شهر ناصر( يوليو)- والعدد ( 8-9)، ثم العدد العاشر والحادي عشر (أكتوبر ونوفمبر)، وختام العام العدد الثاني عشر (ديسمبر 2000)، إذا المفقود هما عدد شهر مايو ويونيو ، ولا أدري هل هو عدد مزدوج أم كل عدد على حدة، ولكن خلال صفحات أحد هذين العددين ستكون صفحة خاصة بي والتي اخترت لها عنوان (مداعكات)، ومازلت أتذكر ما كتبت في الحلقة الأولى (وخلال أوراقي اظن مازال جزء من تلك المقالة الأولى)، وفي عدد يوليو عنوان المداعكة (غطي راسك يا حاجة)، وثمة خبر عن انعقاد ندوة في ( مجلة البيت) اقيمت يوم 20-6_ 2000) ندوة جمعت اسماء متميزة وهامة الأدباء ( يوسف الشريف- سليمان كشلاف- خليفة حسين مصطفى) ومجموعة من الصحافيين ، لمناقشة ( كيفية تطوير مجلة البيت وكيفية الوصول إلى مطبوعة متكاملة شكلا ومضمونا) وايضا (مواضيع أخرى في مقدمتها اهمية مجلة الأمل)، وفي العدد (10-11) سنجد صفحة بعنوان (في الموعد) للكاتب خليفة حسين مصطفى- حيث تأتي مشاركته ( بدعوة من رئيسة تحريرها، …….)
وكان عنوان مقالته (هذا البيت) و المقالة رحلة في تاريخ المجلة وما حدث لها، (كان اسمها (المرأة))/ إذا ( كان من المتوقع ان تكون مجلة المرأة – البيت فيما بعد – مرآة ناصعة لهذا المجتمع بكل ما يجري فيه)، المقالة ترصد تاريخ المجلة والتعثر الذي وقعت في أسره و مقاومتها الشرسة (ولكنها ظلت تقاوم الرياح المعاكسة لتعود إلى التنفس في ثوبها القديم) وينهي مقالته (ويبقى هناك سؤال وهو: فيما إذا كان من الضروري تدبيج هذه المقدمة الطويلة في رثاء هذه المجلة؟ ولكني أقول: إن مشاركتي بالكتابة فيها بدعوة من رئيسة تحريرها، تأتي استجابة لهذه الدعوة الكريمة من ناحية، والإحساس بأهمية والدور الاجتماعي والثقافي الذي تنهض به مجلة البيت والذي ينبغي أن تؤديه بجدارة وكفاءة، بغض النظر عن ثوبها المتقشف من ناحية أخرى، وقد بدأنا نلمس آثاره في مرحلتها الحالية).
حين يأتي زمن الكلام …؟؟؟
في العدد العاشر والحادي عشر لعام2000م، كانت زاويتي (مداعكات) بعنوان (البس ما يعجبك)، وهي عن مثل شعبي متداول هو (كول ما يعجبك.. والبس ما يعجب الناس).
فاسمحن يا صديقاتي اللواتي يتابعن معي هذه الحكاية، واسمحوا لي أنتم ايضا يا أصدقائي، أن أضع هذه المداعكة أو(المناشبة)، ولأعترف بنرجسية أنني فخورة بها.
مداعكات: (البس مايعجبك)
المثل الشعبي… خلاصة التجربة التي يخوضها أي شعب، فيخرج منها بعبرةٍ أو بحكمة، ويرسم خلاصتها في حكاية أو مثلٍ، ولا أدري لمَ هذا العداء الذي أكنّه لمثل شعبي يتردد كثيرا، وعداوتي له مذ كنت طفلة صغيرة، وعادة الأطفال أنهم يعشقون ثوبا معينا ويريدون لبسه في أي وقت وأي مناسبة، وتجابهني أمي بهذا المثل (كول ما يعجبك والبس ما يعجب الناس)، فأرفس بقدمي وأقول: لا (نلبس اللي يعجبني).
وهكذا كبرت بهذه الروح العدائية لهذا المثل، خاصة حين اخترت لباساً معينا وأنا في بداية مراهقتي، فجابهني الجميع بهذا المثل، الصديقات، والنساء المتزوجات المدركات، وحتى اللواتي شارفن على الشيخوخة، كلهن اسمعنني هذا المثل (كول ما يعجبك والبس ما يعجب الناس)، ولا أدري متى تخلصت من عدائي غير المبرر، واستعرضت المثل بهدوء في عقلي، لأعرف، لماذا أكره هذا المثل؟ جعلت المثل كنص، أقرؤه، أفتح مغاليقه، وحين قرأته وانكشف لي، أدركت كم كنت محقةً في عدائي له.
(كول ما يعجبك)، هنا المجتمع يسمح للفرد فيه بأن يتبنى أي فكرة يشاء، دينية أو سياسية، يعتنق أي فكر يريد ويفكر كما يحب ويريد، ولكن حين يأتي زمن الكلام والمكاشفة يأتي (ما يعجب الناس)، (البس ما يعجب الناس) إنه ما نظهره للآخرين وهذا يجب أن يكون كما يروق لهم، لا تغرد أو تغردي خارج السرب، قل لهم ما يريدون، اسمعهم وتكلم معهم فيما يحبون، جارِهِم في أفكارهم، هزّ وهزّي رأسك موافقا وموافقة على كل حركة يأتون بها، هذا هو اللباس الذي عليك أن تلبسه، وعليكِ أن تلبسيه، المظهر الذي يجب أن نحرص عليه، ان نكون أمامهم كما هم، كما يريدون.
هل تبدو هذه القراءة مجحفة بحق هذا المثل الشعبي، وأنيّ أحمّله عبء رؤيةٍ خاصة بي، ولكن كما قلت المثل الشعبي هنا مثل نص إبداعي، أحاول تفكيكه وقراءته، ولكني أيضا حين أضع هذا المثل كمجهر لإضاءة ما في مجتمعنا الليبي، أظنّه سيكشف هذه الثنائية التي نعيشها أو الازدواجية، ونظرة إلى شخصية الفرد الليبي، تريني مدى انطباقه علينا (أقصد انطباق قراءتي هذه له) وكي لا أذهب بعيدا، سآتي بمثل بسيط، أغلب شبابنا يجأر من ارتفاع المهور، من مصاريف العرس الباهظة، ولكن أطلب منهم موقفا واضحا، فإنهم سيهزون رؤوسهم وسيقولون: (زي الناس)…، وهذا مثل بسيط من حياة الشعب الليبي، ونظرة متأنية على حياتنا اليومية، ستوضح لنا أننا فعلا نأكل(ما يعجبنا) ونلبس (ما يعجب الناس).
لكن مهلاً، المثل الشعبي بقدر ما هو تعبير عن الشعب، لكنه أيضا رهنٌ بلحظته التي قيل فيها، وبالزمن الذي كان خلاصته، ولو تتبعنا تاريخ هذا المثل وبداية ظهوره، لتأكد لدينا، أن الشعب الليبي في فترة من الفترات الحالكة في تاريخه قد أنتج هذا المثل، فلا داعي لإصرارنا عليه وتمسكنا به.