الشاعرة رفعة يونس انسانة ترتبط روحها بالمكان والإنسان، وفي نفس الوقت لا تتوقف عن التحليق في فضاء الورود والأزهار، فهي تعيش داخل بيتها وعلى شرفاته وسطحة حدائق من ورود، وفي آخر ديوانها مجال حديثي بهذا المقال خاطبت الورود في نصها: “نرجسة” بالقول: “رغم عهر الأرض، تظلين طاهرة، رغم موت القلوب، وغدر البشر”، لذا حين زارتنا زوجتي وأنا في بيتنا الواقع في عمَّان بعد غياب قسري قارب العام وأنا في ربى فلسطين، وأهدتني كما أهدت زوجتي نسخ من ديوانها الشعري “مَغناةُ الّليلك”، نظرت الغلاف ولم استغرب تصميمه فالقسم العلوي منه أزهار الليلك وكأنها غيوم تتراكم مغطية النصف الابيض السفلي، بتصميم رمزي يشير لروح وقلب وطيبة الشاعرة وحلم بوطن، تتراكم من فوق كل ذلك هذه الازهار التي تعشقها، ومن الاهداء للأحفاد عون وماسة وكنزي كان بياض الروح يبدأ ورحلتي في شِعرها في فضاء المكان والإنسان في مَغناة الليلك.
حين انهيت القراءة الأولى للديوان شعرت كم أن المكان والإنسان يرتبطان بروح الشاعرة، فرغم مسحة الحزن والألم في ثنايا الديوان فالأمل لم يفارقها أبدا في روحها ونصوصها، فهي فلسطينية الأصل من بلدة سلواد في محافظة رام الله والبيرة، ولدت فيها ونشأت حتى عامها الثالث عشر فيها فارتبطت مشاعرها بها حتى أجبرت وأسرتها على مغادرة الوطن اثر هزيمة 1967 إلى الأردن، فبقيت سلواد تسكنها وكذلك البلدات التي زارتها والوطن بأكمله، وأذكر أني حين زرت بلدتها سلواد وكتبت عنها سبعة مقالات بتنسيق منها، واتصلت بها هاتفيا من جوار بيت اهلها المهجور والمغلق والذي لم تسكنه إلا فترة قصيرة جدا فأجهشت بالبكاء، فالمكان يسكنها وهذا ملموس جدا في قصائدها الجميلة، فالمكان مرتبط بعلاقة وثيقة بالإنسان، والأبعاد المكانية تظهر واضحة في نصوص رفعة يونس وصياغة شخصيتها، فهذه الصياغة المكانية عكست نفسها في أشعارها وأيضا في نصوصها النثرية خارج إطار “مغناة الليلك”، فالمكان يترك أثره بشكل مباشر في روح الشاعرة بعلاقة جوهرية مع الإنسان بشكل عام بشكل لا فكاك منه، وهذا ما تميزت به رفعة في توظيفها المكان وارتباطه بالانسان بشكل جمالي وفني فبرز المكان عندها كعنصر أساس في جمالية نصوصها الشعرية والنثرية، معبرة عن أحاسيسها وهي تجبر وأسرتها على الهجرة من الوطن إلى عمَّان التي تركت أثرها على روحها، ولكن بقيت روحها معلقة بالوطن وتحلق في فضائه رغما عن الجند والأسلاك الشائكة وبنادق المحتل.
ففي ديوانها نرى أنها كتبت نصها “في حضرة الدار” تستعيد فيه ذاكرة بيتها والبلدة أيضا “سأمر على حضرة الدار، أجمع ما قد تبقى، من سوسن الذكريات”، فنلاحظ حجم الارتباط بالمكان ذاكرة الطفولة وبدايات الوعي وحجم الإحساس بالضياع والغربة، والأمل بالعودة من جديد مما اكسب النص بعدا انسانيا، وفي نصها “صحوة” نجدها تشعر كم أن الاستيطان يلتهم المكان، فهي تهمس بألم: “لا نجم سيشرق في حُلكة العمر/ لا شيء.. إلا مدائن.. ترحل/ تصبح كالعِهن من حولنا”، لكن الأمل لا يفارقها: “مد لي يدك الآن، عل هذا القلب يطير، يصير جناحا، يرف.. ويعلو، فتنهار كل فصول الجريمة.. في فجرنا”، وفي نصها “إصرار” كان الامل قويا بقولها: “حتى لو كنت وحيدا، في السهل، فازرع، فيه الأمل.. لغد آت”، فالمكان في شعرها يحمل صفة الكينونة والحياة والوجود، ولم ينحصر ببلدتها سلواد التي كان لها نصيب في الديوان، فهي تجول في مناحي الوطن “ما تبقى من البحر.. عشقٌ لوشوشة المدن الساحلية”، وتتساءل بروح الأمل: “من يرد لهذا البحر، نجوم مساءاته؟؟”، بينما في نصها سلواد نراها تحن لكل ما فيها من أمكنة “للبيت الذي ضم حلم الطفولة” وللكروم والزيتون وللجوري ودخان الطابون وللسنابل ولزهر اللوز والزعتر والنرجس وللقمح والحقول ولورد الدار والتراب، هذا الحنين للمكان المجبول بأمل العودة، لتنقلنا في ارجاء الوطن من مكان لآخر ومنها أمكنة تسكن روحها ولم تشاهدها بحكم الغياب الذي طال، فتحلق بنا في فضاء حيفا: “حيفا لم ظل البحر يصلي، تصلي موجاته، عند أقدامك الطاهرة”، والشاعرة في تحليق روحها في المكان لم تقتصر على المكان الفلسطيني، فقد اوردت نصوص موجهة لسورية ففي نص “شوق” كانت تنشد لسورية: “سورية.. ما بالنا اشتقنا، لحدائق تلك العينين”، ونص آخر بعنوان شام: “شام، نرجسة القلب أنت”، فانتقلت من المكان الفلسطيني بخصوصيته إلى المكان العربي بعموميته.
المكان في شعر رفعة يونس يعيدني لقول أفلاطون بتعريف المكان فلسفيا: “الحاوي والقابل للأشياء”، وتلاه ارسطو وايضا ابن سينا والكندي والفارابي والكثير من العلماء والفلاسفة والأدباء، والمكان كان له مكانته الخاصة في الشعر العربي فمعظم شعراء ما قبل الاسلام تحدثوا عن المكان والأطلال بعد رحيل الإنسان، وهذا استمر سمة من سمات الشعر العربي حتى الآن بالحديث عن المكان والوطن، بحيث تحول المكان من مفهومه النسبي إلى فكرة الوطن والهوية في رمزية ذات دلالة يكسبه أبعادا فنية ويمنح النص خصوصيته، ففي نص “وطني” نرى ذلك واضحا: “وطني في تلة هذا البال، تظل.. صلاة النرجس”، ويستمر الأمل بروحها فتربط المكان بالزمان فهي تنتظر الربيع الآتي في نصها “آذار” فتهمس له: “ومن لغة الموت.. تأتي، تنثرنا.. في جباه الحقول.. أزاهير”، وفي نص آخر: “وليال طالت غيبة أنجمها، ظل القلب فيها منتظرا، أسطورة فجر آت”، وكتب نص آخر بعنوان: “وطن” قالت فيه: “آه أيها الوطن الآتي، من حدود الغيم، وسكرة الموت، لكم قتلونا على صدرك العاري، وفي نصها “جدي وأيار” ظهر هذا الارتبط بالمكان كبيرا فهي تهمس: “جدي ما زال خلف النهر، وتحت عرائش أنثى الكروم يغني، يردد لحن العودة”.
والجدير بالاهتمام أن المكان في شعر رفعة يونس لم يكن قيمة مجردة، ولم يكن مجرد بقعة جغرافية بل فكرة وانتماء وتأثيرات نفسية وتخيل رغم الابتعاد الاجباري عنه بحكم الاحتلال، وهذا يمنح المكان جمال آخر بعيدا عن توصيف المكان كما هو بل كما يسكن في تلافيف الذاكرة، فلم يخلُ من الاهتمام بالأشخاص الذين رحلوا سواء بمفهوم الرحيل من مكان لمكان قسريا أو اختياريا أو بمفهوم الموت والرحيل للعالم الآخر، فالإنسان هو قيمة أخرى مرتبطة بالمكان الذي هو بدوره ليس مكانا مجرد، فهو بعض من ذاكرة المكان وحكاياته، وكما نقول بمثلنا الشعبي: “الجنة بدون ناس ما بتنداس”، ففي نص “ذاكرة البحر” خاطبت الذين غابوا: “من غابوا، من توارت في حبق الوقت، شالات أحلامهم”، وفي نصها سلواد: “لورد الدار، ينادي من هجروها”، “للتراب الطاهر.. اشتاق، مجبولا بدم الشهداء”، وفي نص على ضفاف المرحلة تتكلم عن الراحلين بالقول: “هم ما غابوا، ما شيعناهم.. فوق أكف الحياد”، والأقرب للشاعرة منحتهم تراتيل روحها فكتبت للمرحومة أمها نص أمي:”واشتقنا لهدهدة في السرير، لصوتك حين ينادي”، وخاطبت أمها في نص “بطاقة حب الى أمي” فتربط المكان في روحها بالقول: “منك.. عبير حقول، عطور ربيع، رحيق زهور، يعب بصدري.. أمي”، وكتبت لأبنائها الذين سافروا بعيدا عنها للعمل: “كبروا..، فروا من سوار الوقت، ومن هدب الحب والخوف، فروا بعيدا، عن مدن الشوق والعطف”، “، وكتبت لإبنها وليد في غربته، وحفيدتها ماسة وحفيدتها زينة، وفي نص جميل”تهاليل لغياباتهم” قالت:”إلى أرواح الشعراء.. توفيق زياد، معين بسيسو، محمود درويش، سميح القاسم.. والقافلة تسير.. أهدي هذه القصيدة”، فنلمس كيف أن المكان ارتبط عندها بالانسان ارتباطا وثيقا وجدليا، وفي نص آخر سنلاحظ نفس الارتباط في نصها “نداء الى الموت” اهدته لروح الشاعر سميح القاسم، فقالت: “قل للموت أن يتمهل، فالراحل يا موت.. غال علينا، على أرضه”.
وتكرر ذلك في نصها “حناء الدم “1 الذي اهدته لروح الشهيد محـمد مبارك من مخيم الجلزون قرب رام الله فقالت: “رسمت وطنا رائعا، دفقة أخرى أطلقت في عيون الشمس.. مواويلا”، وفي نصها “حناء الدم 2” الذي اهدته للشهيد عروة حماد من شهداء سلواد فقالت: “أغمض عينيك على حلم مشتهى، من زيتون سلواد.. من تينها”، وفي “حناء الأرض 3” الذي اهدته للشهيد نشأت ملحم قالت: “ها أنت.. تسابقنا، وتقبل ثغر الأرض”، وفي نصها “طيران” المهدى لأرواح الشهيدين الصديقين أنس حماد ومحـمد عياد همست لهما في ممازجة بين الانسان والمكان: “هاهما الآن، في حضن سلواد، في رحمها، هاهما الآن.. طيران، قد عانقا أحلامهما”، وفي نص “نوار الأرض” خاطبت الشهداء: “أنتم.. في رحم الأرض، جذور.. تشتد.. تحميها، من بغاث البشر”، كما كتبت للشهيد القاضي رائد زعيتر الذي اغتاله الاحتلال بدم بارد على المعبر، وللاجئين في الخيام تحت الثلوج، وللطفلة راية ابنة الشهيد مروان القواسمي والذي استشهد قبل ولادتها، ولمن ابتلعتهم البحار أثناء محاولات النجاة من الموت فكان الموت في نصها “رقصة زوربا”، كما كتبت لملك التي استشهدت أمها مهدية حماد ابنة سلواد غيلة وغدرا على يد الاحتلال.
في 42 نصا و144 صفحة من القطع المتوسط جالت بنا الشاعرة رفعة يونس في فضاء المكان والانسان، فامتزج خيالها بالمكان والإنسان لتعطينا لوحات مرسومة بالكلمات، بلغة سليمة ومعطيات جمالية وفنية تجعل القارئ يتمتع بجنبات الديوان ويعيش لحظات من تخيل للانسان والمكان، مانحة روح القارئ جمال خاص للمكان وشعور عالٍ بمعاناة الإنسان، من خلال رؤيا جمالية تميزت بها الشاعرة في بوح روحها ووجدانها الذي ظهر بالعديد من النصوص الوجدانية كما: قطن الثلج/ ضحكة/ سجين الحزن/ أنشودة للقمر/ إرادة/ فراق/ هواجس/ أين العيد، ورؤيا جمالية للمكان والإنسان بأبعاد مختلفة ولأمكنة مختلفة، دال ذلك على المعاناة الداخلية للشاعرة، معاناة البعد عن الوطن والبلدة، صراع داخلي مع حجم كبير من مشاعر مختلفة بين الحلم واحتلال الوطن، فظهرت المعاناة النفسية بشكل واضح كما في نصها “ليتني” لأبطال انتفاضة الأقصى الفلسطينية وشهدائها، فعاشت وجدانيا مشكلات شعبها ومقاومتهم لاحتلال لا مثيل له، فكان تشكيل الصور المكانية في ذهنها حالة من القهر الذي يسود في روحها، فهي ليست منعزلة عن واقعها والوطن يسكنها، فالمكان وخاصة ذاكرة الطفولة فيه جزء من المعاناة والتذكر، فكانت بعض النصوص في الديوان استرجاعية للذاكرة الطفولية اعادت رسمها بمخيلتها كلوحات وطن متميز في روحها، بجمالية علاقة تتفوق على فكرة العاشق والمعشوق، فكانت اللغة في بوحها بناء شعري وفني متين وقوي، وهذا ما ميز شعرها عن غيره، وميز روحها ومشاعرها وهي تهمس لنا بديوانها الجميل مغَناة الليلك.
“عمَّان 2/2/2021”