قصة

الشاهد وصاحب الورقة مع الخيمة

لابد للطامح أن يسقط في هوة توازى ارتفاع التحليق…** جون ميلتون دراما 2020 عدنان بشير معيتيق حبر على ورق 32 * 42 سم


كان الشاهد يقف على بُعد كاف من الجمع المتزاحم. تسمح له وقّفته تلك، وتُمكنه من قراءة ما تعّكسه بعض الوجوه، مما يعّتمل داخلها من مشاعر متنوعة وأحاسيس متضاربة أحيانا، وهم يتزاحمون على مُدخل الخيمة. كان صاحب الخيمة، يأتي وعلى نحو دوري شبه مُوسمي، ليُقيمها ويشدْ أطنابها إلى أرض هذه البقعة، المحاطة بفيافي مترامية الأطراف، ليُقيم في هذا الفضاء الصحراوي ليوم أحيانا، ولساعات غالبا. في حين المكان الذى كان في سالف الزمان، يرّتاده ويدبْ فيه سائحا وراء ناقة عجفاء، لترعى وتقتات حشاش الارض.

كان الشاهد يعرف يقينا بأن صاحب الخيمة، لم يأت إلى هذه الاطراف النائية من البلاد ليمد يد العون والمساعدة الى بسطاء ساكنيها، بل ودائما يأتي عندما يحس ويعرف بأن طاقته النفسية البدنية قد اهتزت وبدأ يطالها الخور والضعف. حينها يشدْ الرحال إلى هذه الأطراف النائية بصحرائها الواسعة، ليسّتسقي ويتزوّد عبر خلوته الانفرادية، بطاقة نفسية يشدْ بها أزره وليُرمم بها ما عطب في حيويّته. وكانت أداته لذلك، تتم عبر حوار داخلي صامت مع ذاته، يستدعى فيه ماضي المكان من خلال استنطاقه في مفرداته. الصحراء القاسية. الصمت المطبق الذي يحتويها. ناقته العجفاء وهي ترعى حشاش الأرض، ويقارنه كل ماضيه، بحاضره الضاج بهذا الحشد المتزاحم أمام خيمته.

كان الشاهد، يعّرف وبيقين تام بأن هؤلاء البسطاء لم يتوصلوا بعدْ الى استنتاجه هذا، فاحتشادهم المتزاحم، ينّبو ويقول بما فيه الكفاية عن ذلك.

توقف الشاهد بنظره فجأة، وهو يتفحص الجمع المتزاحم أمام الخيمة، على أحد الشبان، كانت بيده ورقة ملفوفة. عندما اكتست ملامح وجه الشاب بمسّحة من إحباط وغضب مرّ، اقترنت حالته هذه، بنهوض صوت مرّتبك، جاء من رجل مُتكرش، مخاطبا الحشد، يُعدّد ويقول:

– لا دخول غلى الخيمة الا لمن كان (ماهر فى المسلك)*.

وفجأة قاطع المُتكرش في عدّه صوت موازى منّفعل فض وخشن يقول:

– من أنت كي تحدد من يدخل الخيمة ممن لا يدخل؟

انكمش المتكرش واضمحل، ثم تراجع الى نكرة.

لاحظ الشاهد بعد هذا التدخل الخشن، تراجع مسّحة الاحباط والغضب على وجه الشاب حامل الورقة، وتَغطى الوجه بانشراح ظاهر، ثم ما لبث أن عم الجمع الحاشد الاضطراب والهيجان، فلملم صاحب الخيمة أطرافه وغادر مسرعا غير ملتفت إلى قبعة رأسه، التي خطفها الهواء وحلّق بها عالياً.

قبل هذا الزمن بأحداثه وبزمن، كان قد انتقل صاحب الناقة العجفاء إلى الشمال حيث فضاء فرص الحياة. في اتساع يفوق فرص جنوبها. هناك بدأت تظهر على سلوكه مواهب وقدرات استثنائية، مما لفت إليه وصُدفة أحد مدراء الشركات العالمية، ذات الماركات المسجلة. أوصى المدير أتباعه بالتقرب منه في محاولة لاستقطابه، وليكون مندوب لها في هذه البلاد، ومن ثم وَصِىّ على امتيازاتها. عند العرض قبل وبدون تردد، ليس هذا وحسب، بل أظهر مواهب استثنائية تفوق وتتخطى تقييمات الشركة العتيدة، فحررته هذه من القيد واللجام أيضا، فتمكن من وضع يده على أملاك وأطيان ورعيان وحتى أنفس، مما يضمه اتساع رقعة بلاده، واحياننا تتخطها الى محيطها القريب والبعيد.

تقدمت الحياة، وتتقدم كما هي دائما، بالعلم والمعرفة في جميع مفرداتها الرئيسية، ومن بينها الشركات العالمية، فاتسعت طموحات الشركة العتيدة، فارتأت الاستغناء عن خدماته، بآخر جديد يملك من المواهب والقدرات بما تتوافق مع العصر وجديده، فأفل نجمه ومن ثم خمد ومات كمدا.

بعد الخمود والافول والموت كمدا، التقى الشاهد صدفة صاحب الورقة، في أحد المقاهي بالشمال. كان قد صار الشاب كهلا، يغطي حيز ليس بالقليل من راسه بياض الشيّب، خطر للشاهد اختبار ذاكرته، بعد هذا الزمن الطويل، فاتّجه الى الكرسي الذى يُشارك صاحب الورقة طاولة المقهى، جلس بعد الاذن، وبعدما اجتهد الشاهد، في خلّق براح جيد من التواصل مع جليسه. بادره بالقول:

– لقد التقينا في السابق على ما أتذكّر!!

أنكر صاحب الورقة بعد صمت دام دقائق قول الشاهد. استدعاء الشاهد حينها وجهرتا، من مخزون ذاكرته. الحدث برمّته في عرض مُفصّل أمام الشاهد. ابتسم صاحب الورقة قائلا:

– لقد صدقت!!

لم يقف الشاهد عند هذا القول. بل استفهم قائلا:

– لقد لاحظت حينها بأنك كنت تحمل ورقة ملفوفة بيدك، وما شدّني اليك عبوسك وغضبك. عند ارتفاع صوت ذلك المتكرّش. وهو يعدد ويحدد ويقول من يُسمح له بدخول الخيمة. ولاحظت ايضا ظهور انشراح قد غطى وجهك، عند نهوض صوت موازي فض وخشن، الّجم المتكرّش. فتراجع هذا. الى الانكماش وسكت.

ابتسم صاحب الورقة مجددا، ثم قال:

– كي أكون صادقا معك، لقد كنت أحيانا استرجع ذلك الحدث. وأقلّبه في رأسي. ففي ذلك الوقت من الزمان لحظة وقوع الحدث، وفى تلك السن المبكرة من العمر. فقد كنت حينها مُغّتاظا من قول المتكرّش، لأنه سيحرمني فرصة متاحة أمامي. كنت في حاجة ماسة لاغتنامها.

ثم اضاف صاحب الورقة:

– أمّا عن انشراحي لذلك الصوت الموازي الخشن. فبمختصر القول. لأنه إعادة الفرصة للحياة مُجددا.

ثم أضاف وبهدوء ظاهر:

– ولكن عند اقترابي من سنين الاستواء والنضج. ازددت غيظا من تصرّف ذلك المتكرش. فقد تبيّن لي بان سلوكه كان يستند الى حالة غير طبيعية بداخله، تدفعه نحو احتكار الفرص لذاته. ولزمرته دون سواهم، أمّا عن انحيازي الى ذلك الصوت الخشن الموازي. لأنه كان على النقيض من سابقه. فهو يدفع في اتجاه عدم احتكار الفرص. واتاحتها أمام الجميع. وتعلمّت ايضا من الخشن الفظ. بان الوقوف في وجه هؤلاء. يُضيف الى براح الحياة. ويجعلها تَسعْ الجميع.

ثم توقف صاحب الورقة عن الحديث وصمت، لم يُمهله جليسه الشاهد وعاجله قائلا:

– وماذا عن الورقة الملفوفة التي كانت بيدك؟!

صمت حينا ثم استأنف قائلا:

– لقد أملت علىّ والدتي ما تضمنته الورقة، وخطّته يدى. بعدما نقلتها من لهجتها العامية الى فصيح القول. كنت احاول من خلال ما تتضمّنه الورقة. التي سأسلّمها صاحب الخيمة. أن استطعت الى دفعه نحو مساعدتنا بما يمّلك من نفود واسع. على معرفة مكان تواجد أشقائي؛ أبنائها الثلاثة. والوصل إليهم، فقد ثم استدعائهم من طرف جهات مسؤولة، ولم يعودوا إلى البيت مند قرابة سنة من الزمان، وهل هم أحياء أم أموات؟ كان ذلك كله جَرِيرة عمل قام به كبيرهم.

ثم قفل صاحب الورقة حدته مسّتدركا، وهو يقول وبصيغة نصف مُقدّسة:

– وهل نأخذ غير الذي وجدنا متاعنا عنده، إنا أذن لظالمون!!

ثم نهض من فوّره مُغادرا المقهى. بعد استئذان الشاهد.


* قدوة في السلوك.

مقالات ذات علاقة

الـبـاصـور

فهيمة الشريف

اصحاب كريم

محمد النعاس

يوم عادي

رشاد علوه

اترك تعليق